"لا يوجد جيش على وجه الارض يستطيع ان يواجه الجيش الامريكى".
هكذا قالها فى سلاسة شديدة وبدون خجل، السيد عبد الفتاح السيسى فى حديثه مع قناة CNN . قالها فى سياق اجابته على سؤال المذيع حول مدى كفاية الدور الامريكى فى مواجهة داعش.
فاختار الرجل أن يجيبه بأنه "على الرغم من ان الجيش الامريكى اقوى جيوش العالم، لا يقدر عليه اى جيش نظامى آخر، ولكن الأمر مختلف فى مواجهة الجماعات الارهابية."
قال ذلك، رغم أنه كان هناك أكثر من صيغة أخرى يستطيع ان يعبر بها عن ذات المعنى، بدون أن يكيل المديح لأمريكا وجيشها.
***
وربما سأل سائل، أليس هذه هى الحقيقة، فلماذا نغالط أنفسنا؟
حتى لو كانت هذه هى الحقيقة، فانه لا يليق أبدا أن تصدر مثل هذه التصريحات من اى مسئول، خاصة من رئيس دولة كمصر، ورجل ذو خلفية عسكرية ووزير الدفاع السابق. لا يصح أن نخاطب أى دولة فى العالم، بان جيوشنا لا تستطيع ان تواجه جيوشكم، حتى لو لم نكن معها فى حالة حرب.
خاصة وأن الولايات المتحدة كانت ولا تزال هى "العدو الاول" لكل شعوب العالم الثالث، وفى القلب منها الأمة العربية، وفى القلب منهما مصر. ولا أود هنا اعادة وتكرار تفاصيل حكايتنا معها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى اليوم، التى يعلمها الجميع.
ولكن الأهم من ذلك هو ان القوة والقدرة والنصر فى تجاربنا التاريخية وفى حضارتنا وثقافتنا العربية والاسلامية دائما ما تكون من نصيب أصحاب الحق وأصحاب الارض، مهما بلغت قوة المعتدى أو المحتل. كما أن من الثوابت فى معتقداتنا ومعاركنا الوطنية وتراثنا القديم والقريب أن "الله أكبر فوق كيد المعتدى".
كما أن مثل هذه الاحاديث الودودة والوديعة عن الامريكان والغرب واسرائيل التى يكررها السيسى كثيرا، تضرب فى العمق كل الشعارات الوطنية الزائفة التى تطنطن بها اجهزته الاعلامية والسياسية ليل نهار. ناهيك على انها اصبحت تسبب حرجا بالغا لقطاع كبير من مفوضيه وأنصاره، خاصة أولئك الذين روجوا له على أنه خليفة عبد الناصر.
***
ورغم كل ذلك، فاننى أصدقكم القول ان فى كلامه جانب من الحقيقة، على الأقل فى وطننا العربى. فالجيوش العربية لم تنجح أبدا فى التصدى للمشروع الأمريكى فى المنطقة، ولم تنجح فى تحقيق أهداف الأمة وأحلامها فى تحرير فلسطين والحفاظ على الاستقلال العربى الذى تحقق جزئيا بعد الحرب العالمية الثانية.
وعلى العكس منها، نجحت كل حركات التحرير التى أشركت شعوبها فى المعركة، فى تحقيق انتصارات حاسمة على مستعمريها، وأكبر مثال على ذلك هى الحرب الفيتنامية التى أذاقت الأمريكان الأمرين وطردتهم شر طردة من بلادها.
ولذا طُرِحَت فكرة حرب التحرير الشعبية بقوة بعد نكسة 1967، ولكن لم يتم تبنيها وتفعيلها من قبل الانظمة العربية، التى اختارت ان تتصدى بنفسها لإعادة بناء جيوشها والإعداد للمعركة، لازالة آثار العدوان.
وكانت النتائج بائسة:
· ففى حرب 1973 التى تعتبر المثال الذى يحتذى به للانتصارات العربية، قبلت مصر وقف اطلاق النار بعد الاختراق الاسرائيلى للجبهة الغربية فى ثغرة الدفرسوار، وأعلن السادات فى خطابه بعد الحرب بأيام معدودة، انه اكتشف انه يحارب امريكا منذ 10 ايام، وانه يعلن بصراحة انه لا يستطيع ان يقاتل امريكا، وهو ما كرره مبارك لقادة المعارضة بعد توليه الحكم مباشرة لتبرير تمسكه باتفاقيات كامب ديفيد. وهو موقف يتناقض تماما مع روح المقاومة الشعبية المصرية التى تجلى فى معارك كثيرة اشهرها معركة السويس 1973 وبورسعيد 1956 وغيرها. بالإضافة الى معارك مقاومة كامب ديفيد والتطبيع التى كانت القوى الوطنية المصرية تخوضها الى وقت قريب.
اذن سرقوا منا النصر العسكرى المحدود الذى حققناه فى حرب اكتوبر، وانتهى بهم الامر الى تسليم مصر تسليم مفتاح للأمريكان، والصلح والتطبيع والتنسيق مع العدو والاعتراف بشرعية اسرائيل والتنازل لها عن فلسطين 1948، بل والتحالف معها اليوم فى مواجهة العدو الارهابى المشترك.
· وفى الاردن طرد النظام الملكى هناك المقاومة الفلسطينية من اراضيه خوفا من تورط جيشه فى حرب لا يريدها مع اسرائيل، رغم انها اغتصبت منه الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية فى 1967.
· وفى سوريا قام النظام بتجميد حربه مع اسرائيل بعد انسحاب مصر من المعركة، بذريعة اختلال موازين القوى، وانه لا حرب بدون مصر. بل وشارك فى حصار واضعاف المقاومة الفلسطينية فى لبنان فى السبعينات، مما ساهم فى هزيمتها ونفيها من لبنان عام 1982.
· وفى العراق سقطت الدولة والجيش فى بضعة ايام امام الغزو الامريكى فى 2003، لتبقى المقاومة الشعبية العراقية وحدها فى الميدان، قبل ان يتم اغراق العراق فى حروب اهلية وطائفية.
· وفى ليبيا، قام القذافى بعد ايام من الغزو الامريكى، وخوفا من ذات المصير، بالاعتراف والاعلان عن اسلحته الكيميائية وتدميرها.
· وفى لبنان نجحت المقاومة وليس الجيش فى تحرير الجنوب من الاحتلال الصهيونى، وحققت صمودا باسلا فى حرب تموز 2006.
· وفى فلسطين صمدت المقاومة الفلسطينية امام حروب الابادة وأعمال القتل والاغتيال والحصار والتجويع التى لم تتوقف منذ سنوات طويلة، بل استطاعت فى معركتها الاخيرة فى صيف 2014، ان توجه ضربات موجعة للعدو.
هذه هى بعض القشور من قصتنا فى الاربعين عاما الماضية، قصة عجز أنظمتنا بكل مؤسساتها العسكرية والمدنية عن تحقيق اى انتصار حاسم فى مواجهة العدو. فسرعان ما يتوقفون فى منتصف المعركة ويستسلمون ويخضعون للضغوط، ويتراجعون وينسحبون ويقدمون التنازلات .
***
ان فشل وهزيمة واستسلام الانظمة العربية امام الكيان الصهيونى ومشروعه، هى حقيقة ثابتة تجسد مأساتنا العربية فى أجلى صورها: "انتصار 6 ملايين صهيونى على 350 مليون عربى، وسرقة جزء عزيز من الارض العربية امام اعيننا وطرد شعبها، والابتلاع اليومى لما تبقى منها وسرقة مقدساتها، وتحول اسرائيل الى القوة الاقليمية العسكرية العظمى فى المنطقة، التى يخشى الجميع بأسها ويتسابقون سرا وعلانية لاسترضائها والتحالف معها."
لم يستطع النظام العربى الرسمى بكل جيوشه وأسلحته المكدسة، وبكل هيبته وجبروته وهيلمانه ومؤسساته وحكامه، ان يمنع الغزو الامريكى للعراق، أو يحاصر المشروع الصهيونى ويهزمه، أو يطرد الامريكان من المنطقة. بل أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية هى قاهرة الجيوش العالم وخير أجناد الأرض، و قائدة الأمة، وصاحبة الكلمة الأولى والأخيرة. وهى المتبوع الاكبر، والحليف الرئيسى، والراعى الرسمى لأمن وعروش الانظمة العربية، ومالكة صكوك الغفران والشرعية والاعتراف الدولى للحكام، والقادرة الوحيدة على حشد الجيوش العربية فى حملاتها الاستعمارية المتجددة ضد الشعوب العربية.
*****
القاهرة فى 30 سبتمبر 2015
موضوعات مرتبطة:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق