بقلم : محمد سيف الدولة
هذه حكاية واحدة فقط من حكايات كثيرة مماثلة، نهديها الى الذين يطالبوننا اليوم، بتأليه الدولة والانسحاق أمام هيبتها ومؤسساتها، ويدّعون سمو وطنيتها على وطنية باقى الشعب، وانفرادها دوننا جميعا بالقدرة على حماية الامن القومى. كما نهديها الى كل الذين يطالبون بتفويض الرئيس ونظامه ومؤسساته، فى حكم البلاد وادارتها بلا رقيب او تعقيب
***
فى أول سبتمبر من عام 1975، وقعت مصر و اسرائيل، اتفاقية فض الاشتباك الثانى، والتى سمحت للعدو الامريكى باختراق الجبهة المصرية لأول مرة.
فلقد أسندت مهمة الاستطلاع الجوى فوق المناطق التى يغطيها الاتفاق للولايات المتحدة وليس للأمم المتحدة.
كما اسندت اليها، مهام مراقبة محطات الانذار المبكر التى اقامتها مصر واسرائيل، وسمح لها من اجل ذلك بإدخال ما يقارب من 200 مراقب مدنى، على ان يسمح لهم بالتنقل بحرية، وأن يتمتعوا بالحصانة من الاختصاص المحلى الجنائى والمدنى.
***
لماذا نسميه اختراقاً؟
لان الامريكان بنص المواثيق الدولية ووفقا لاتفاقيات لاهاى 1907، كانوا فى حالة حرب فعلية مع مصر، بعد ان قاموا بعمل جسر جوى من السلاح لقوات العدو الصهيونى اثناء حرب 1973، بالاضافة الى تجسسهم الجوى على توزيع قواتنا فى الجبهة الغربية للقناة، وإمدادهم اسرائيل بالمعلومات التى مكنتها من القيام بثغرة الدفرسوار. ناهيك عن الدور الامريكى المحرض والراعى والقائد والداعم والممول لجريمة احتلال سيناء عام 1967، والحيلولة دون صدور قرار من مجلس الامن يقضى بانسحاب القوات المعتدية وفقا لما ينص عليه ميثاق الامم المتحدة.
وبالتالى فان السماح للعدو باختراق الجبهة المصرية، والقيام بدور المراقب والوسيط، بدلا من قوات الامم المتحدة، صاحبة مثل هذه الاختصاصات فى كل مناطق الحروب والنزاعات المسلحة، انما يعكس انحرافا جسيما على ثوابت وأهداف وضرورات معركة التحرير واستقلال البلاد و امنها القومى.
خاصة بعد أن تحول هذا الدور المؤقت الى دور دائم، وفقا لبرتوكول القوات متعددة الجنسية MFO ، الموقع عام 1981، والذى اعطى، مرة أخرى، للولايات المتحدة بدلا من الامم المتحدة، مهمة مراقبة القوات المصرية فى سيناء، كما أعطى لها الحصة الأكبر من عدد هذه القوات.
وهى القوات التى قال عنها القادة الاسرائيليون، "ان وجود القوات الامريكية الحليفة لاسرائيل فى سيناء، هو اهم شروط انسحابنا من سيناء."
وهى ايضا القوات التى يلوّح الامريكان اليوم بالرغبة فى سحبها، فى اطار الضغوط التى يمارسونها على الادارة المصرية، لزيادة عتادها وتسليحها، ولاضافة مهام امنية لأدوارها التى تقتصر بموجب المعاهدة على المراقبة فقط.
وهو الانسحاب الذى رفضته مصر، رغم أن هناك مطلبا وطنيا قديما باستبدال متعددة الجنسية، بقوات محايدة تتبع الامم المتحدة، لما في ذلك من تحرر من احد القيود التى فرضتها علينا المعاهدة.
***
لماذا نطرح هذا الكلام الآن؟
لعدة أسباب:
· أولا ـ لانه سيظل واجب علينا مع طلعة كل صباح ان نذّكر بالقيود التى فرضتها اتفاقيات كامب ديفيد على الارادة والسيادة الوطنية المصرية، وجعلت من كل الادارات المصرية المتعاقبة منذ توقيعها وحتى اليوم، فاقدة لاستقلالية القرار الوطنى، فى مواجهة اى ضغوط امريكية او اسرائيلية جادة.
ولأن التحرر من هذه القيود هى مهمة وطنية لم تنجز بعد. ومهما طال الزمن وتعددت النظم والحكام والرؤساء، فان اى نظام يحكمنا فى اطار كامب ديفيد لا يمكن ان يكون نظاما وطنيا، بصرف النظر عما يردده من شعارات.
***
· ثانيا ـ لانه بمراجعة اسماء كبار المسئولين السياسيين والعسكريين الذين قبلوا التوقيع على هذه الاتفاقية وما سبقها من اتفاقية فض الاشتباك الاول فى 28 يناير 1974، وما تلاها فى كامب ديفيد فى 17 سبتمبر 1978، ثم المعاهدة فى 26 مارس 1979، وما تلا ذلك من سيل من اتفاقيات التطبيع والتنسيق..الخ.
فاننا سنجد انفسنا امام قائمة من رجال الدولة، من الوزن الثقيل،الذين سبق وشاركوا جميعا، عسكريين ومدنيين، فى معارك التحرير بدءا بحرب الاستنزاف وانتهاء بحرب اكتوبر، وهم ينتمون الى الجيل الذى ادرك خطورة الكيان الصهيونى ومشروعه على مصر بقدر خطورته على فلسطين، الجيل الذى تولى اعداد وتربية كل المصريين على العداء لاسرائيل، وحتمية تطهير الارض العربية منها، وان المشكلة ليس فى سيناء، وانما فى وجود هذا الكيان الاستيطانى العدوانى التوسعى فى قلب الأمة العربية وعلى حدودنا الشرقية...الخ
ورغم ذلك فانهم قبلوا جميعا، التوقيع على اتفاقيات، اقل ما يقال عنها انها اتفاقيات تعكس حالة الضعف والاستسلام لتفوق اسرائيل، واقرار بالعجز عن مواجهتها، ناهيك عن تسليمهم مصر تسليم مفتاح للولايات المتحدة.
وهنا يأتى مربط الفرس؛ فمثل هذه الانحرافات الوطنية والتنازلات الخطيرة، تسقط كل الدعوات التى يطلقونها اليوم، عن ضرورة تقديس الدولة بكل مؤسساتها الى درجة تقترب من العبادة والتأليه. وان الوطن و الدولة و الرئيس هم شئ واحد. من يؤيدهم وطنى، ومن يعارضهم خائن.
خاصة وان السيسى ونظامه الحالى لا يزالوا يتبنون ذات النهج وذات السياسات فى التعاطى مع اسرائيل، بل ويمعنون فى تعميق علاقاتهم معها. وكثيرا ما يردد هو وخبرائه العسكريين والاستراتيجيين على ان السلام معها اصبح أحد الثوابت المصرية و جزء من وجدان كل المصريين!
***
· وأخيرا وليس آخرا، فانه من الضرورى ان نحيى ذكرى أخطائنا وهزائمنا وانحرافات حكامنا، جنبا الى جنب مع احياء ذكرى الانتصارات والانجازات، لنتعظ ونتعلم ولنذكر انفسنا دائما، بأنه لا فرق بين المصريين، حكاما او محكومين، مدنيين او عسكريين، الا بمواقفهم ومعاركهم وبرامجهم وبصلابة تمسكهم بثوابتنا الوطنية.
*****
القاهرة فى 6 سبتمبر 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق