* مما لاشك فيه ان أنظمة الاستبداد والتبعية التى حكمت البلاد خلال الثلاثين عاماً الماضية، كانت تستدعى تغييراً جذرياً بعد أن طفح الكيل شعبياً من ممارساتها وسياساتها التى أودت بالأوطان ؛ بنية وسياسات وإرادة ، وثروات ؛ لقد أثرت هذه الأنظمة سلباً ليس فحسب على اقتصادها وبنيتها الاجتماعية الداخلية بل على استقلالها ذاته فأضحت مقيدة فى قرارها السياسى ، رهينة لمصالح القوى الكبرى خاصة واشنطن ، بل ولعبت إسرائيل دوراً رئيسياً فى مصائرها شديدة القتامة ، وكانت النتيجة المنطقية لثالوث (الاستبداد والفساد والتبعية هذا)؛ هو اندلاع ثورات ما سُمى (بالربيع العربى) ، والتى بدأت فى تونس فى ديسمبر 2010 ، وامتدت إلى مصر فليبيا ثم إلى المشرق العربى ، وسرعان ما تحولت إلى مؤامرات متقنة الإخراج من قبل الغرب ، فتوقف فعلها الإيجابى ؛ بل وانحرف ولم يقترب من مشيخيات وملكيات عربية فاسدة كانت أولى بالثورات من غيرها ، وكان من المثير للانتباه هو النتيجة المُرة لبعض هذه (الثورات) حين وجدنا فشلاً ذريعاً على مستوى إدارة الأزمات السياسية والاقتصادية المترتبة على تلك الانتفاضات ، وعجزاً واضحاً على مواجهة التحديات الجديدة ، مع عدم استقرار سياسى أدى إلى حالة من الفوضى والارتباك ، استثمرته – بلاشك – الدول الغربية المعادية لتلك الثورات (وتحديداً واشنطن) فى ترويضها وإعادة ترتيب أولوياتها بحيث لا يتعارض مع مصالحها ومصالح تل أبيب ، فكانت المحصلة هى ثورات تعيد إنتاج أنظمة الاستبداد والتبعية ولكن بقشرة إسلامية ، وتكاد الفتن والصراعات الطائفية والمذهبية تعصف ببنية دول الربيع العربى وتفككها (وحال سوريا أبلغ مثال على ذلك) ، ولمعرفة الواقع الذى تعيشه بلاد ما بعد ثورات الربيع العربى ، دعونا نقدم إشارات موجزة عن الواقع الاقتصادى فى كل من (تونس – ليبيا – مصر – اليمن) حتى نخرج بدلالات محددة عن مستقبل تلك البلاد فى أجواء الربيع العربى الذى تحول إلى شتاء قارص لدى أغلبها :
(1) مصر : تؤكد الاحصاءات الرسمية أن مصر تعيش أزمة اقتصادية طاحنة حيث تقول الأرقام أن إجمالى الدين المحلى بلغ نحو تريليون و129 مليار جنيه خلال عام 2012 مقابل 932 مليار جنيه خلال عام 2011 بنسبة زيادة 21.1% كما بلغت نسبة الدين العام المحلى إلى الناتج المحلى الإجمالى بنحو 73.2% فى عام 2012 . كما سجل حجم الدين الخارجى نسبة انخفاض بنحو 1.5% خلال عام 2012 حيث تراجع من 34.9 مليار دولار عام 2011 إلى 34.3 مليار دولار عام 2012 وذلك بسبب سداد فوائد الديون وإعادة جدولة بعضها .
جاء ذلك فى الكتاب الإحصائى السنوى والذى أعلن اللواء أبو بكر الجندى رئيس الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء عن إصداره (يوم 6/3/2013) بعنوان " مصر فى أرقام".
* إن المؤشرات الاقتصادية الكلية للاقتصاد المصري تؤكد عجز موازنة الدولة في العام 2012 وتشير إلى أزمة شديدة، بعدما اتسعت الفجوة بين إيرادات الدولة ونفقاتها العامة بشكل ملحوظ، مما أدى إلى زيادة عجز الموازنة لتصل إلى ما يقارب 200 مليار جنيه مصرى فى العام المالى 2011-2012 حسب وزارة المالية المصرية .
وبالنظر إلى إيرادات الموازنة فقد توقفت عند ما يقرب من 360 مليار جنيه مصرى في حين زادت نفقات الموازنة إلى ما يقارب من 550 مليار جنيه مصرى فى العام المالى 2011-2012.
وينسب د. رشاد عبده، الخبير الاقتصادي، في اتصال هاتفي مع بي بي سي التعثر الاقتصادي بعد الثورة الى معوقات سياسية في المقام الاول، مشيرا الى ان الاطراف لم تلتفت الى الاقتصاد بقدر الالتفات الى المصالح السياسية.
وعلق على الطريقة الحالية لادارة الاقتصاد في البلاد قائلا "الاقتصاد لا يقوم على النوايا بقدر ما يقوم على الواقع الفعلي والارقام والاحصاءات الحقيقية المأخوذة من أرض الواقع."
وأضاف عبده ان الحكومة "استهانت" بخفض التصنيف الائتماني لمصر من قبل بعض مؤسسات الائتمان، وهو ما يعني ان الدولة ليست قادرة على الوفاء بالتزاماتها للآخرين، وبالتالي تتراجع القروض او تزيد أعبائها وشروطها.
وأضح ان "مديونية البلد زادت الى مستويات مخيفة، كما ان الحكومة (استسهلت) الطرق ولجأت الى الاقتراض من الخارج ورفع الأسعار في الداخل".
في حين أكد ان الدولة لا تنهض على الاقتراض بل على إجراء إصلاحات داخلية بيد الشعب وتشريعات جاذبة للمستثمرين وهو ما لم يحدث منذ تولي الرئيس المصري محمد مرسي سدة السلطة.
وأشار إلى أن الاستثمارات الأجنبية الجديدة بلغت عام 2012 تقريبا "الصفر"، بل ان هناك حركة نزوح للاستثمارات من الداخل للخارج.
وكشف البنك المركزى المصري عن ان احتياطى النقد الأجنبى قد وصل إلى الحد الأدنى بل الحرج.
وأشار البنك في بيان له إلى أن الاقتصاد المصرى يواجه منذ بداية 2011 العديد من التحديات الجسيمة نتيجة امتداد المرحلة الانتقالية، وما صاحبها من عدم استقرار، وهو ما انعكس بالسلب على جميع المؤشرات الاقتصادية.
ومع انخفاض الدخل السياحي بنسبة 30 في المئة فضلا عن انحسار الاستثمارات، اصبح لزاما على الحكومة الحفاظ على الاحتياطى من النقد الأجنبى لسداد الالتزامات الحتمية المتمثلة فى أقساط الديون الخارجية.
* هذه هى النتائج الاقتصادية لمصر ما بعد الثورة والتى سببتها بالأساس الإدارة السيئة للبلاد خلال العامين التاليين للثورة (2011 – 2012) ، دفعت الكاتب الأمريكى البارز ديفيد إجناتيوس للقول إن مصر تنزلق نحو الخراب ، وحكومة جماعة الإخوان المسلمين تتجه نحو الهاوية المالية، مشيرا إلى أن أمريكا تدعم الرئيس محمد مرسى، وتريد إنجاحه خوفاً من أن يكون البديل له الحكم العسكرى أو الفوضى.
وأضاف إجناتيوس مساعد رئيس تحرير صحيفة " واشنطن بوست " الأمريكية، فى مقاله بالصحيفة، يوم 7/3/2013 : " الحقائق الاقتصادية أصبحت صارخة للغاية، فأصبحت الاحتياطات الرسمية من العملة الصعبة فى فبراير ١٣.٥ مليار دولار، ما يغطى أقل قليلاً من ٣ أشهر من الواردات، فى الوقت الذى لا تفعل فيه حكومة مرسى أى شىء على الإطلاق لوقف هذا التدهور الاقتصادى " .
ونقل عن مسؤولين أمريكيين بارزين، لم يسمهم ، قولهم: " الخطر يقف على بعد شهرين أو ثلاثة من أبواب مصر " ، معتبرا أن البلاد تمر بالمرحلة الثانية من الربيع العربى، وهو وقت الحساب، حسب تعبيره، وقال: " راهنت الولايات المتحدة وحلفاؤها قبل عامين أنه إذا وصل الإخوان إلى السلطة فى مصر فإنهم سيضطرون للتعامل مع مسؤوليات حكمهم، مثل التفاوض مع صندوق النقد الدولى على القروض واعتماد إصلاحات اقتصادية لجذب المستثمرين، ولكن لم يظهر مرسى لقيادة الولايات المتحدة ما كانت تأمل فيه " .
وتابع: " ترى ما خيارات السياسة الأمريكية تجاه مصر، فبعض النقاد يرون أنه على الولايات المتحدة ترك مرسى يفشل، إلا أننى أرى أنه من الواضح أنها ترغب فى نجاحه، خوفاً من أن البديل سيكون إما الفوضى أو الانقلاب العسكرى " .
وقال: " الجيش المصرى ينتظر على جانب المشهد، كما يرغب بعض الجنرالات بشدة فى التدخل، ولكن الولايات المتحدة تعارض أى استيلاء عسكرى على السلطة، فبدعمها لمرسى تقف الولايات المتحدة ضد كل من السعودية والنشطاء الليبراليين فى مصر " .
وواصل: " الرهان المستمر من جانب إدارة الرئيس باراك أوباما، على الديمقراطية الإسلامية يظهر جليا فى مصر، ولعل أكبر مفاجأة هى أن حكومة جماعة الإخوان لديها علاقة أفضل مع إسرائيل اليوم من تركيا، الحليف التقليدى لتل أبيب، وهذا قد يكون أفضل ورقة لدى مرسى للعب مع واشنطن، فرغم كل إخفاقاته كزعيم لمصر، فإنه لا يثير المشاكل لإسرائيل " ، هذا هو حال مصر ما بعد الثورة من منظور أمريكى شديد العداء ولكنه حقيقى للأسف .
****
(2) تونس : تعيش تونس ما بعد الثورة أزمات اقتصادية وسياسية متلاحقة ، فعلى سبيل المثال ، وعلى المستوى الاقتصادى يشير البنك المركزى التونسى إلى تراجع كبير في كافة الصعد الإنتاجية الصناعية والفلاحية والخدماتية، أي أن الأزمة ضربت كل مقومات الاقتصاد الفعلي إضافة إلى أنها طاولت المستويات الأخرى من الاقتصاد المالي والنقدي. فمن تراجع في مستوى الإنتاج الصناعي إلى تراجع النشاط السياحي وازدياد نسبة التضخم النقدي وانحسار رؤوس الأموال في سوق الأسهم، وصولاً إلى تدهور الإنتاج الفلاحي رغم معقولية محصول هذا العام، كل هذا دفع المصرف المركزي التونسي إلى إطلاق جرس الإنذار من وصول نسبة النمو إلى معدلات سلبية.ولعل أجراس الخطر تأتي خاصة في مستوى تراجع الإنتاج الصناعي بـنسبة 12 في المئة خلال العام 2011 ، وذلك بعدما تراجعت الاستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة بلغت 27 في المائة بالمقارنة مع السنوات الماضية، وذلك نتيجة الوضع الأمني المتذبذب والناتج من عاملين اثنين:
- العامل الأول متعلق بالأمن الإقليمي المتردي، وخاصة من الجار الليبي الذي تُبين التقارير أن الأسلحة تنشر فيه «انتشار النار في الهشيم»، وهو ما يبرر إلى حد كبير التخوف من اتساع دائرة انتشاره ليشمل الجارين التونسي والجزائري.
- العامل الثاني مرتبط بالاضطراب الأمني الداخلي في تونس وخاصة في المناطق الداخلية، وذلك تحت طائلة عدة عوامل تصب في مجملها في مطلب أساسي وهو التشغيل وبعض الحساسية الزائدة من طرف البعض.
ولعل كل المعطيات دفعت بالميزان التجاري إلى السلب في مؤشرات لم تشهدها البلاد من قبل. فاستناداً إلى بعض المؤشرات التي تسربت من البنك المركزي التونسي فإن احتياط العملة الصعبة في تراجع مستمر، إذ تراجع من 13 مليار دينار (150 يوماً من الواردات) أواخر سنة 2010 إلى 10 مليارات دينار (110 ايام من الواردات) في الفترة القليلة الماضية. كما أن البلاد بدأت تقترب من الخط الأحمر بالنسبة إلى الاحتياطي التونسي، خصوصاً أن نسق الصادرات مستمر في التراجع، مع استمرار تدهور الصادرات في قطاعي الفسفاط والسياحة، وتراجع التحويلات المالية للتونسيين المقيمين والذي تدنى بنسبة 12.5 بالمئة بالمقارنة مع السنة الماضية.
وحسب التقرير الثالث والخمسين للبنك المركزي التونسي والمتعلّق بسنة 2011 (على سبيل المثال) فقد سجّلت أهمّ المؤشّرات الإقتصادية خلال تلك السنة تراجعا كبيرا خاصة في قطاعات المناجم و المواد الكيمياوية و السياحة و النقل كما تراجعت الإستثمارات الخاصة الوطنية والأجنبية .
ومن المهمّ الإشارة في هذا السياق إلى الأزمة الإقتصادية و المالية التي تضرب أوروبا منذ أكثر من ثلاث سنوات و تأثيرها الهامّ و المباشر على اقتصاد تونس خاصّة و أن قرابة الـ 80% من مبادلاتها التجارية تتمّ معها كما أن الوضع غير المستقرّ في ليبيا ساهم في زيادة الأعباء على الإقتصاد الوطني بسبب عمليّات التهريب الضخمة التي تتمّ باتّجاه ليبيا.
هذا وتعتبر البطالة من أهمّ التحديات التي تواجه تونس و قد تسبّب منوال التنمية الذي تمّ اعتماده خلال العقود الماضية في تأزيم الوضع كما ساهم ارتفاع عدد الخرّيجين في التعليم العالي في تفاقم الظاهرة و من أسباب ذلك أيضا اتّساع الفجوة بين المنظومة التربوية و احتياجات الإقتصاد الوطني و تزايد ظاهرة العزوف عن بعض المهن المرتبطة بعدد من الأنشطة الإقتصادية مثل قطاع البناء و النجارة و الحدادة و الأنشطة الفلاحية المختلفة …
وفي الوقت الذي تشتكي فيه قطاعات الفلاحة و الصناعة و البناء و الأشغال العمومية من النقص في اليد العاملة تشير آخر إحصائيات المعهد الوطني للإحصاء إلى أنّ تونس تعدّ 619.7 عاطل عن العمل أي ما يعادل 17.6 بالمائة من الفئة النشيطة خلال عام 2012 وازداد الأمر تفاقماً مع الشهور الأولى من العام 2013 .
***
(3) ليبيا : تعيش ليبيا أوضاعاً اقتصادية متردية نتيجة تشرذم النخب التى أتت بعد القذافى إلى جماعات متناحرة واندلاع الصراع القبلى ، واستمرار الغرب فى النهب السرى للنفط الليبى بعد الإطاحة بالقذافى ، وتتحدث المعلومات المتاحة من ليبيا أنها فى أزمة اقتصادية طاحنة مع فقدان الإدارة والإرادة السياسية القادرة على إدارة شئون البلاد بما يحقق آمال وطموحات الشعب ، ومن المتوقع أن تنتهى البلاد إلى حالة من التمزق الاجتماعى والشلل الاقتصادى الكبير .
***
(4) اليمن : رغم التحول الديمقراطى الشكلى الذى عاشته اليمن من حكم (على عبد الله صالح) إلى حكم نائبه (عبد ربه منصور) فى إطار صفقة خليجية – أمريكية متقنة لسرقته وإنهاء الثورة اليمنية إلا أن الأزمات لاتزال سياسياً واقتصادياً وهى تنبىء بانفجارات مقبلة تؤثر ليس على مستقبل اليمن وحده بل والسعودية وباقى مشيخيات الخليج أيضاً ، فى هذا السياق أشار تقرير للأمم المتحدة أن أكثر من نصف سكان اليمن أي حوالي 13 مليون نسمة بحاجة لمساعدات إنسانية عاجلة خصوصاً بعد أن قدرت المنظمة أن نصفهم يعيش تحت خط الفقر بأقل من دولارين باليوم . وذكر التقرير أن مشكلة الفقر التي يعاني منها اليمن منذ عقود جاءت بسبب سوء الإدارة الاقتصادية ، والتي باتت تشكل هاجسا وعقبة نحو تحقيق مساعي النمو الاقتصادي، خصوصاً بعد وصول الفقر لمعدلات مرتفعة، إضافة إلى ارتفاع معدل البطالة بين صفوف الشباب لأكثر من 60% .
وكشفت صحيفة "الفاينانشيل تايمز" البريطانية عن تفاصيل لحياة أحد اللاجئين من محافظة أبين المضطربة في اليمن إلى مدينة عدن، الذي اتخذ من فصل دراسي لأحد مدارسها الابتدائية ملجأ له ولأبنائه. حيث يؤكد عبدالله محمد عبد الله: "قررت الانتقال من محافظة أبين بعد أن دمر منزلي وانقطعت بي السبل، ففضلت اللجوء لمدينة عدن لمصلحة أطفالي " .
يشار إلى أن محافظة "أبين" تعتبر إحدى محافظات اليمن المضطربة التي شرد منها أكثر من 100 ألف لاجئ مابين 2004 - 2010 ويتعايشون من مساعدات هيئات الإغاثة في منازل مؤقتة في المحافظة الشمالية من حرض. فيما نزح أكثر من 320 ألف شخص بسبب القتال في أبين عام 2011- 2012، وفقا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية .
***
وبعد ..
إن هذا الواقع الاقتصادى المنهار ، ينبىء عن مستقبل أشد انهياراً ويمكن استخلاص النتائج والدلالات التالية من قراءة هذا الواقع :
فأولاً : مما لاشك فيه أن هذا الواقع الاقتصادى المنهار ، يوازيه بل ويديره ويؤثر فيه انهيار سياسى على مستوى الإدارة وصناعة واتخاذ القرار ولعل صراعات القوى الإسلامية والمدنية التى تسيدت المشهد السياسى بعد الثورات وانعكاسها على الواقع الاجتماعى والاقتصادى ، هو الذى أنتج حالات الفوضى التى تعيشها بلاد ما يسمى بالربيع العربى وهى مرشحة للاستمرار لخمس سنوات مقبلة على الأقل إلى أن تستقر على خيار أكثر عدلاً واستقلالاً وديمقراطية .
ثانياً : من المؤكد أن فشل أنظمة ونخب الحكم ما بعد الثورات العربية يرجع لأسباب عدة لعل أهمها تلك التركة الثقيلة التى ورثتها من الأنظمة السابقة ، والتى وصلت فى بلد مثل مصر على سبيل المثال إلى أكثر من (تريليون جنيه مصرى ديون داخلية وخارجية) وفقاً لتقرير رسمى صادر عن البنك المركزى المصرى ، هذا على الصعيد الاقتصادى أما الصعيد السياسى فلقد كان لاستبداد أنظمة (مبارك – زين العابدين وغيرها) دوراً تخريبياً فى إماتة الحياة السياسية وتجريف تربتها إلى الحد الذى أنتج نخب منعدمة الخبرة والتجربة ، فقيرة فى خيالها السياسى ، ضيقة الأفق ، أنانية النظر لا ترى إلا مصلحتها الحزبية أو الأيديولوجية الضيقة حتى لو ذهبت مصلحة الوطن العليا إلى الجحيم ولعل فى صراع الديكة السياسى الذى تعيشه بلد مثل مصر بين جماعات الإخوان والسلفيين والإنقاذ وإئتلافات الثورة (215 ائتلاف) ما يقم كدليل على ذلك والأمر ذاته ينسحب على ليبيا التى تمزقها القبلية والحزبية والفشل السياسى الذريع أو تونس واليمن وغيرها !! .
ثالثاً : نحسب أن هذه الحال الانتقالية من الاستبداد إلى الثورة ستستمر لفترة قد تمتد لخمس سنوات مقبلة ، ستعيش فيها أنظمة تلك البلاد (خاصة مصر) حالة انهيار اقتصادى وسياسى كبير ، وسيتهدد النسيج الوطنى المصرى وستشهد البلاد حالات عنف مذهبى وطائفى ، وستصبح البلاد أمام ثلاثة سيناريوهات :
الأول : استمرار الاحتكام إلى الخيار الديمقراطى الذى يتضمن الآليات الديمقراطية المعروفة مثل (الانتخابات) وهو خيار لم يثبت حتى الآن ولم يحقق الرضا الاجتماعى أو الاستقرار السياسى المنشود وظل يتعرض (نموذج مصر – تونس) لأزمات متتالية أودت به أو على الأقل شككت فى نتائجه .
السيناريو الثانى : الاحتكام إلى الشارع أو (الميدان – بلغة الثورات العربية) وهو خيار ولد حالة من الفوضى والعشوائية السياسية ويستند إلى استثمار غضب الشارع وتحريك لمليونيات يستطيع كل أطراف اللعبة إنتاجها إثر كل أزمة ، وهو خيار مازال مستمراً فى الشارع المصرى والتونسى على سبيل المثال ، لكنه لم ينتج إلا الضحايا والدماء ، ونحسبه سيستمر لفترة طويلة دون أن يكسب أحد الأطراف باقى الأطراف ، نهائياً .
السيناريو الثالث : وهو ما نتصوره سيحدث بعد عامين من الفوضى التى سببتها السيناريوهان السابقان ، إنه خيار (الانقلاب العسكرى الناعم) أى الذى سيتم فيه شعبياً استدعاء الجيش للتدخل التدريجى غير العنيف لكى يتسلم الحكم لإنقاذ ما تبقى من (الدولة) التى تنهار ، وفى الحالة المصرية على سبيل المثال بدأ هذا الخيار يتفاعل من خلال التدخل التدريجى للجيش فى مدن بورسعيد والإسماعيلية والسويس ومن خلال عملية (التوكيلات الشعبية) التى تطالب الجيش بالتدخل لحكم البلاد واستلامها من الإدارة الإخوانية التى ترى قوى سياسية عديدة فى البلاد أنها فاشلة ، وأن الأمريكى هو الذى فرضها على مصر وفق صفقة سياسية مركبة لبناء شرق أوسط (أمريكى إسرائيلى – خليجى) بقشرة إسلامية ، وأن الثورات – وفقاً لخصوم الإخوان والسلفيين – قد تم سرقتها لصالح قوى الإسلام السياسى وساعدتهم واشنطن وتل أبيب على ذلك ، وأن ما يجرى فى بلاد الربيع العربى ، وبخاصة فى سوريا يتم وفق هذه الصفقة ، ويذهب أصحاب سيناريو التدخل العسكرى الناعم إلى أن تدخل الجيش فى حكم البلاد يبرره حالة الفشل السياسى والاقتصادى الذريع لإسلاميى ما بعد الثورات فى حكم البلاد ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى أنه يأتى كأمر منطقى حيث الجيش فى هذه البلاد كان هو الحامى للثورات وأنه مؤسسة وطنية بالأساس ، وهى تنحاز للوطن ، وعندما تراه يتفكك أو ينهار فواجبها أن تتحرك ، وألا تقف ساكنة ؛ وهو ما سيحدث ولكن بعد استنفاذ فرص الإسلاميين فى الحكم ، والتى قد تستمر لعامين أو أكثر ، ستعيش فيهم بلاد الربيع العربى (خاصة مصر) حالة من الفوضى والارتباك السياسى والاقتصادى .
* إن هذه السيناريوهات الثلاثة ، فى تقديرنا ، قد تستمر معاً أو يتغلب إحداها على الآخر ، ولكن الحصيلة النهائية لها هى أن بلاد ما سُمى بـ (الربيع العربى) – وبخاصة مصر – لن تشهد استقراراً حقيقياً ولا ديمقراطية حقيقية ، وستظل فى حالتها الراهنة من الفوضى والتفكك – للأسف – لسنوات مقبلة ، ستكون فيها إسرائيل هى اللاعب الرئيسى فى مجريات الأحداث فى المنطقة ، وستتأجل ولسنوات مقبلة القضية الفلسطينية ، وهو تحديداً ما تريده (واشنطن) وباقى القوى الغربية والخليجية التى سطت على ثورات الربيع العربى ، وحرفتها عن مسارها الصحيح ، مسار " الحرية – والعدل ، والمقاومة ".
E – mail : yafafr@hotmail.com