بقلم:رحاب أسعد بيوض التميمي
قصة تحكي معاناة شعب أخذ المحتل أرضه،وشرده،وفرض عليه القهر ليتم سيطرته عليه. قصة لا تستطيع الكلمات إيفائها حقها،ولا الراويات تغطيتها...
فهي تحكي قصة الملايين من البشر الذين عانوا أشد المعاناة حتى يقطعوا ما بين الضفتين لحوالي ما يقرب الخمسين عاما،ظلماً وزوراً،ممن سلبهم أرضهم،فهي لا تشبه ما يحصل من تعطيل في المطارات لظرف طارئ نتيجة الأحوال الجوية ولا إيقاف الرحلات عند القطارات لعُطل ما قد حصل دون إرادة أحد...
هي قصة معاناة حقيقية أشبه ما تكون بالكابوس...
قصة عذاب مقصود منها إذلال وقهر وفرض وجود،وإرهاب من قبل مُحتل ظالم جائر بحق شعب ذنبه الوحيد أنه صاحب اﻷرض اﻷصلي...
قصة عذاب جعلت الكثير يختصر عدد الزيارات لزيارة أقاربه بين الضفتين ليختصر تلك المعاناة...
رحلة يتعمد المحتل من خلالها ممارسة القهر واﻹذلال بحق السكان اﻷصليين ﻹزهاق أرواحهم,حتى يتركوا موطنهم اﻷصلي ويبحثو لهم عن بلد بديل...
وأنا سأرويها لمن لا يعرفها باعتباري شاهدة على بعض محطاتها رغم أن شهادتي عليها وهي في أهون أحوالها...
ولكن حتى تكتمل الشهادة في المعاناة فلابد من الوقوف على عقود المعاناة بسنواتها المتلاحقة, لذلك سأستدل في روايتي هذه بشهادة مقربين ممن ذاقوا من هذه الرحلة ألوان من العذاب قبل عام 1992 قبل إستخدام الكمبيوتر كحافظ للمعلومات،وقبل أن توضع المكيفات في أماكن الانتظار...
مُعاناة تعيش بها ومن خلالها حالة من الإذلال،تشعر بها أنك عبد عند محتل،وأسير عند مغتصب،مسلوب اﻹرادة،مقيد،تسرح بفكرك!!
ما الذي يجبرني أن أقبل كل هذا الإذلال؟؟
وكيف سأفرض على أبنائي قبول هذا القهر،كيف ؟ولماذا ؟؟
فقط ﻷني رضيت بهذا الوضع المُذري عن الجهاد بديل!!
وأقبل التطبيع مع المحتل لكي أعطيه الرخصة بإذلالي والنيل مني ...
فمن محطات القهر تلك التي علقت في ذهني من ذلك المحتل بعد عام 1992 أذكر في إحدى الرحلات كيف عانيت أنا وأبنائي الصغار حتى قطعنا جسر الأردن من الجهة الشرقية لكي نصل الطرف الواقع تحت سيطرة اليهود من الجهة الغربية،بعد وقوف لعدة ساعات في الجانب اﻷردني لختم الجوازات والتدقيق على اﻷوراق الرسمية،وما تبع ذلك الوقوف من اﻹنتظار للحافلة التي ستقلنا إلى الطرف اليهودي،ومن ثم إنتظار أخذ اﻹشارة من الجندي اليهودي لسائق الحافلة حتى ينطلق....
وما إن مشينا قليلاً حتى جاء اﻷمر بالنزول من الحافلة في منتصف الجسر الخشبي الذي يربط بين الجسرين لتفتيش الحافلة،من قبل الجنود المدججين بالسلاح،والتدقيق على الجوازات ثم الصعود إليه مرة أخرى من جديد،حتى وصلنا الجانب الذي يُشرف عليه المُحتل.
وكيف وقفت أريد أن أختم جواز سفري في المرحلة النهائية ﻹجراءات العبور،بعد أن تم تفتيشي لكي أخرج إلى الطرف الغربي من الضفة أنا وأولادي،حيث أقف في انتظار دوري في الصف لختم الجواز ﻷفاجأ أنني ما زلت أسيرة رحمة ذلك الجندي الذي يعمل خلف ذلك الحاجز الزجاجي،ليحكم علي باﻹنتظار ساعة أخرى من خلف ذلك الحاجز الذي يتم فيه الختم،وأنا أغلي من داخلي من الغيظ كيف يتحكم بي ذلك الشاب اليهودي المحتل ﻷرضي بإجباري على اﻹنتظار رغبة لبهيميته مع تلك الفتاة اليهودية الساقطة التي تقف معه في وضع يثيراﻹشمئزاز، وأنا ومن حولي نقف عاجزين أمامهم،وكأنه من ضمن برنامج القهر المقصود به إذلالنا, اﻹستخفاف بقيمنا واﻹستهتار بوقتنا،ننظر يميناً وشمالاً لعلهم أن يرحمونا،ويُخلصونا من هذا العذاب أنا وأطفالي،ومن هم حولي دون فائدة،ﻷفاجأ بعد طول إنتظار بطلب العودة من حيث أتيت من قبل هذا اليهودي الملعون لأني لا أحمل إلا صورة شخصية واحدة بدل إثنتين،فرفعت صوتي بأني لا أعلم إلا بضرورة وجود صورة واحدة،ومعي أطفالي وبإمكانك أن تمررني بصورة واحدة وأن اليوم الجمعة والجسر أوشك على الإغلاق،ولن أتمكن خلال هذا الوقت القصير من اخذ صورة من منطقة الغور والعودة بها من جديد
أتكلم بناحية إنسانية لكن دون جدوى ...ردني وكأن نقصان هذه الصورة يُهدد هذا الكيان المجرم،وبنفسية الإنسانة المنهزمة أخذت أولادي وعدت أدراجي وقد إنفجرت من البكاء من شدة قهري،وأدعو على من تسبب بقهرنا وإذلالنا هذا الذل أن ينتقم الله منه,
لتستحضر ذاكرتي في حافلة الرجوع قصة معاناة أختي وأمثالها ممن فرضت عليهم الغربة عنوة رغم قصر المسافة بين الضفتين بحكم زواجها حيث البعد لا يتجاوز في أقصى حده الساعتين والنصف.
قصة مُعاناة الملايين الذين عبروا الجسر طوال تلك الأعوام وعانوا كل تلك المعاناة فأعذر أختي في مباعدتها بين تلك الزيارات لما كانت تعانيه من إذلال...
القصة تحكي أنه عندما كانت أختي تأتي من مدينة الخليل لزيارتنا في بيت والدي رحمه الله في عمان ،وكان والدي دائم العتب عليها لمباعدتها زيارتنا،لأنه يشتاق لرؤيتها ومجالستها،وخاصة أن وسائل اﻹتصال مقطوعة عبرالهاتف,فلم يكن هناك شبكة أقمار صناعية كاملة،وكنت أستمع لتعذرها بقلة مجيئها،بمدى معاناتها وأولادها عند قطعها الجسر ما بين الضفتين..
كنت أستمع لقصة قهر من عدو يتعمد إذلال الداخل والخارج بين الضفتين دون أن أدرك حجم المعاناة حتى جربت شيئاً منها!!
حتى أنها(أختي)كانت تقضي رحلتها وتعيشها وهي تحمل طول فترة إقامتها بيننا،عبئ الدخول من جديد في رحلة العذاب هذه،بعد إنتهاء الزيارة من شدة التفكير بنوع المعاناة,حتى تتحول الرحلة عليها توتروضغط نفسي...
فتحكي لي أختي أن المعاناة تبدأ من اﻹستعداد للخروج لهذه الرحلة من بعد منتصف الليل لعلها تحظى بالوصول الى الحافلات اﻷولى التي تنقل المسافرين في البداية،فتختصر جزء من ساعات الانتظار الطويل على الجسر،وتستمر ساعات المعاناة دون توقف،من إيقاظ الأطفال في منتصف الليل وتحضيرهم للسفر ثم الخروج بهم وهم شبه نائمون...
وتمضي هذه الرحلة،ليعترضها الوقوف عدة مرات على ما يسمى بالحواجز العسكرية المنتشرة عبر الطريق(المحسوم)والذي يقف عليها ما يُسمى(الجيش الإسرائيلي)للتفتيش أو يُجبر البعض على سلوك طريق وادي النار,وهي طريق أطول من الطريق الرئيسية،التفافية منحدرة، شديدة الخطورة،والتي أصبحت فيما بعد،بعد عمل ما يُسمى(الجدار- الحاجز الإسرائيلي العنصري)هي الطريق الرئيسي للوصول إلى الجسر الذي يربط بين الضفتين بشكل دائم عبر الوصول إلى منطقة أريحا من الغور...
وهناك حيث الحافلات تقف في دور كبير في منطقة الخان اﻷحمر،تبدأ المعاناة بإرتفاع درجة وتيرتها,يصعد المسافرون الحافلات وينتظرون داخلها أوامر الجندي اليهودي لسائق الحافلة بالتحرك،فيحكم على من في الحافلات البقاء فيها ما يقرب اﻷربع أو خمس ساعات أو في بعض اﻷحيان تصل الثماني ساعات حتى تصل إلى منطقة الجسر حيث الإجراءات الإحتلاليه الرسمية مع أن المسافة بين منطقة الخان والجسر لا تتجاوز الخمسة كيلو متر،والجلوس في الحافلة كل هذه المدة فقط من أجل قطع هذه المسافة القصيرة هو عبارة عن مرورك على قطعة من العذاب ،كفيل بأن يُدمر الصحة المعنوية والجسدية للأصحاء، فما بالك بالشيوخ والمرضى، الذين يعانون، عدى عن الأطفال الذين تتلوى أجسادهم ضجراً،ولا تكف حناجرهم عن البكاء لضيق المكان وشدة الحر،وإنتشار الذباب الذي يغطي المكان ويهاجم الوجوه،حتى تشعر وكأنك في معركة مع الذباب لا تنتهي،
فتصور كيف هو الحال عندما تكون الحافلة بلا تكييف،ومنطقة الغور أصلاً من أشد المناطق حراً،وأكثر الأماكن بيئة لتكاثر الذباب وإنتشاره،وأنت محكوم عليك أن تبقى أسير داخل الحافلة تعيش على إنتظار رحمة أعدائك...
حينها يبدأ الشعور بالعذاب الجسدي والمعنوي يسيطرعليك،ويتسلل إلى نفسك اﻹحساس بالهزيمة،بأنك أسير عند مغتصب،لا تملك إرادتك،ولا يحق لك أن تعترض،ولا أن تحتج،يعتريك الشعور بالاختناق حينما ترى كيف يتسلى العدو بقهر أصحاب اﻷرض الأصلين داخل الحافلة.....
تسير الحافلة حسب مزاج اليهودي المناوب ببطء شديد, تتوقف فجأة لا تعلم لماذا توقفت؟؟
وممنوع أن يبدي أحد تذمر أو إعتراض ولا يسمح لأحد أن يسأل عن السبب،وحتى يسمح العدو بوصول تلك الحافلات إلى المنطقة المشئومة،يكون الأطفال الذين يبكون من شدة الحر قد أصابهم الإعياء،وكبار السن الذين يحملون اﻷمراض قد تدهور وضعهم الصحي،والشباب أصابهم انهزام وإحباط نفسي مدمر الجميع يعيشون المعاناة وكأنهم يجتازون قطعة من جهنم.
ثم يأتي بعد ذلك دور المحطة الثانية من العذاب والتي هي أشد وطأة في معاناتها من سابقاتها,وهو الوقوف لساعات أخرى قد تصل السبع أو الثمانية ساعات لختم الجواز في قاعات اﻹنتظارالبدائية التجهيز،بلا تكييف وبلا أماكن إستراحة،وما يسبقه من قهر يتجاوز الحلقوم من إجبارالأمهات على خلع ملابس أطفالهم قطعة،قطعة،وقد يتجاوز عدد الأطفال الثمانية أو أكثر للتفتيش،قبل أن يتم تفتيش الجميع،وتمرير الجهاز على كامل الجسم،ثم إجبارهم على خلع الأحذية وإلقاء بعضها فوق بعض حتى تصبح كالتلال يصعب على الأفراد فرز بعضها عن بعض بروية.
وتخيل ذلك الوضع في وسط بكاء الأطفال الذين أوشكت أرواحهم على النزع من شدة المعاناة،ومع خلو المكان من مستلزمات الشراء من الماء أو اﻷكل لمن نفذت معه مئونته التي أحضرها من البيت،لكي تشتد مع هذا النقص من الحاجيات وتيرة المعاناة،مما يضطر بعضهم ليبحث للبعض عما يقيت به أطفاله ويسد به رمقهم من زاد،ويطفئ به ظمأهم من ماء.
فتستمر بعد ذلك المعاناة بالوقوف خلف طابور طويل من البشر لختم الجواز،ويتحرك هذا الصف أيضا حسب مزاج المناوبون اليهود,فقد يأخذ الوقوف على هذا الصف الساعات مع أنه لا يحتاج أكثر من عشرات الدقائق،لأن من يختمون الجوازات قد يخرج أحدهم من غرفة الأمن ليغيب ساعة،ثم يعود من جديد،دون أن يضع مكانه من ينوب عنه،وأنت لا تملك إلا اﻹستسلام لحكم عدو محتل مُتجبر،يتفنن في تعذيبك،تبقى أسير ظلمه،حتى تخرج من هذا المكان وأنت على وشك الوقوع واﻹنهيار من شدة الإعياء،وقد يؤخذ بعض الشباب للتحقيق معهم وإذلالهم لعشر ساعات،دون إبداء أي سبب فقط للإشتباه بهم،ومن معه زوجة أو أباء يضطرون للإنتظار حتى يرون ماذا سيفعل بأبنائهم هذا العدو اللئيم،فمنهم من يعود اليهم وقد بهدلت صحته بالتحقيق،من أجل معرفة علاقته بفلان من التنظيم اﻹسلامي،أو غيره من التنظيمات،ومنهم من يتم اعتقاله لوقوفه بجانب شخص من حماس في صورة وجدوها لديه،فيتم اعتقاله من أجلها أعوام...
ثم بعد هذه المحطة المشؤمة يتم بعد ذلك نقلك بحافلات أخرى إلى الجانب اﻷردني من خلال الجسر الخشبي الذي تم بناؤه في العهد العثماني وتم تحويله حديثا إلى شارع مسفلت,وتستمر رحلة المعاناة في هذه الحافلة,فهي لا تقل في معاناتها عن تلك التي بها قد ابتدأنا بل هي متممة لرحلة العذاب,فقد تجلس تنتظر في الحافلة لساعات مع أن المسافة بين الجسرين حوالي الثلث ساعة في حافلة مكتظة،وغير مكيفه،ومملوئه بالذباب حتى تشعر وكأن الذباب مسلط عليك يلاحقك اينما ذهبت لزيادة معاناتك،ويستمر الشعور بالهزيمة المعنوية والجسدية يطيح بجسدك وفكرك،حتى يكتمل الشعور بالعبودية يخيم على فكرك،الكل يقف كالمشدوه لا يستطيع أن يحرك ساكناً،فلا بكاء الأطفال يُحرك فيهم مشاعر الرحمة،وﻻ ضعف الكبار يستعطفهم,وهذه المحطة فوق الجسر الخشبي تستلزم نزول المسافرين من الحافلة ذهاباً وإياباً للتفتيش مع رفع الأسلحة عليهم،وإبقاء الناس في الحر حسب مزاج المناوب أيضاً،فقد يكون لساعة أو لساعات،ثم العودة من جديد إلى الحافلة وهو المكان الذي إستشهد به القاضي الأردني رائد زعيتر رحمه الله والذي كان يريد الدخول لفلسطين ليبيع أرض له فيها ليوفر العلاج ﻹبنه حيث دفعه اليهودي بسلاحه ولأنه تصرف بردة فعل المدافع عن نفسه أرداه قتيلاً.
الأن وعند الوصول إلى بوابة الطرف اﻷردني من الضفة الشرقية وقد تظن أنك قد خرجت من العبودية وتحررت من القيد تجبرعلى الجلوس في هذا الجانب الخالي من التكييف،لساعات أخرى حتى يستطيع الجانب اﻷردني من إخراج اسمك من وسط الملفات الورقية،لعدم وجود أجهزة الكمبيوترفي ذلك الوقت،وتستمر المعاناة حتى يتم إخراج اسمك من وسط تلك الملفات قبل السماح لك بالعبور,وقد لا يتم العثور على اسمك فيتم إرجاعك من حيث أتيت لدواعي أمنية!!!
وهكذا تنتهي رحلة العذاب اﻷولى لتجد أهلك في إنتظارك في الخارج وكأنك خارج من حرب زلزلت بها صحتك وعافيتك,وما أن تحاول أن تسترد عافيتك من وقع هذه المعاناة حتى تحمل في نفسك عبئ الدخول فيها من جديد عند انتهاء الزيارة.
وطبعا هناك ظروف تشتد بها المعاناة أكثر من ذلك في فترة الحج وفترات اﻹنتفاضة،وتحتاج لسرد رواياتها وقصصها ..كماً من المجلدات ﻹيفائها جزء من حقها،لتتعرف كيف يتم اﻹنتقام من الحجيج في الذهاب واﻹياب،وكيف يضطر الكثير منهم من المبيت على الجسر ليوم أو عدة أيام حتى يتم تمريره والتفريج عنه.
كل هذه المعاناة طبعاً لا تساوي شيء أمام معاناة أهل غزة لعبور معبر رفح,فتلك المعاناة لا تحاكيها أية معاناة،تحمل في طياتها إزهاق ارواح اكبر عدد من المسافرين،تحتاج حتى توفيها حقها سردها في مجلدات أخرى لسرد قصص القهر والإذلال من قبل الجانب المصري الذي أخذ على نفسه خدمة هذا الكيان بقهر الشعب الفلسطيني تطوعاً .
هذا هو العدو الذي فُرض علينا ويعيش بيننا وتخضع كل البشرية لخدمته والمطلوب منا أن نتعايش مع ذله وقهره وننقلب على كل قيمنا وأخلاقنا من أجل أن لا نُسمى إرهابيين،ونستسلم لوجوده باعتباره أمراً واقعاً نسأل الله تعالى أن يُزيله من الوجود لنستعيد كرامتنا,وعزتنا وما سُلب منا رغماً عن كل المتخاذلين والمتأمرين والمتواطئين