من صفحة "الدولة العثمانية والتاريخ المجهول".
فصل رد الشيهات
-------------
نأتي الآن للشبهات، ففي المقالة الأولى يعرض الكاتب الشبهات الآتية والتي أرد عليها ردًا تفصيليًا:
1- الشبهة: هل سيتناول المسلسل منشور عبد الحميد الثاني ضد أحمد عرابي بخروجه عن الملة بينما عرابي يقاتل الانجليز المتقدمين داخل مصر مما ساهم في هزيمته؟
الحقيقة: لتوضيح هذا الأمر يتوجب عرض جزء تاريخي بشيء من التفصيل حتى نصل لنقطة إعلان عصيان عرابي پاشا وعرض أسبابه، لذا قد يطول الرد نسبيًا.
كان الخديوي إسماعيل خديوي مصر قد نجح في أخذ إمتياز من السلطان عبد العزيز بتعيين أبنه الأكبر للحكم كوريث له، والأبناء ذات السن الأكبر عمومًا لوراثة العرش، وبالسماح بالاستدانة من الدول الأجنبية (إنگلترا وفرنسا)، واستغل هذا الإمتياز فتورط في استدانة مبالغ ضخمة من الخارج بلغت في ظرف عشر سنين “مائة مليون جنيه ذهبي” وهو دين ضخم جدًا مقابل القوة الشرائية للجنية الذهبي في ذلك الوقت، ولتقريب المسألة أقول: أن ديون الدولة العثمانية كلها -بعد جهود عبد الحميد لتخفيضها إلى النصف تقريبًا- تعادل جملة اقتراضات الخديوي إسماعيل بمفرده!! وهو خديوي على أيالة مصر العثمانية. أمام هذه الديون الضخمة اضطر إسماعيل إلى طرح أسهم قناة السويس التي كان يمتلكها للبيع؛ للعمل على تسديد هذا الدين -وإن لم يجد هذا نفعًا-، وتبلغ حوالي 44% من مجموع أسهم القناة. نجح دزرائيلي رئيس وزراء بريطانيا في شراء هذه الأسهم، مما أثار جنون فرنسا التي قامت بشق القناة، وبسطت بهذا إنگلترا جناحيها على مصر.
وكانت هذه هي الحجة للتدخل الأجنبي من قبل إنگلترا في شئون مصر الداخلية، وقامت حكومة إنگلترا بالضغط على الخديوي إسماعيل بشأن إدخال مراقبين أجانب إلى الحكومة المصرية، ورضخ الخديوي لهذا الضغط وأدخل في وزارته وزيريين أجنبيين: وزير إنگليزي للمالية ووزير فرنسي للأشغال، وأخذا يقللان من المصاريف؛ بحجة المحافظة على حقوق الدائنين، ويتدخلان في قضايا أخرى في الدولة بنفس الحجة. وصل عدد الجيش في عهد إسماعيل إلى 30,000 ما بين جندي وضابط، فجاء الوزراء الأجانب فأنزلوا عدد الجنود إلى 11,000 فقط، كما أحالوا حوالي 2,500 ضابط للتقاعد أي أكثر من نصف الضباط في الجيش؛ بحجة تقليل المصاريف أيضًا، مما ولد إستياء شديدًا في مصر من قبل الرأي العام، وكان الضباط المصريين هم الأغلب في اللذين أحيلوا للتقاعد وأبقوا على الضباط الأرناؤوط والأتراك والجركس، مما حرك المشاعر الوطنية في نفوس الجيش والتفوا حول عرابي.
ونتيجة لإسراف الخديوي وهذا الجو الجديد، قام السلطان عبد الحميد بعزل الخديوي إسماعيل وتعيين أبنه الأكبر وولي العهد محمد توفيق پاشا. ألتف الوطنيين حول عرابي ونجحوا في الضغط على الخديوي بتأليف وزارة وطنية، وتكون وزارة برئاسة محمود سامي البارودي أحتل فيها عرابي منصب وزير الجهادية (الدفاع). أعجب السلطان عبد الحميد بحركة أحمد عرابي بك، فأيده بمنحه رتبة مير لواء مع الباشوية، كما منحه الوسام الحميدي من الدرجة الأولى، وبذلك أصبح أمير اللواء أحمد عرابي پاشا.
سعى عرابي إلى تقوية الجيش وطرد الموظفين الأجانب من الإدارة المصرية، فأنهى عمل الموظفين مما أدى لاحتجاج إنگلترا وفرنسا وعرضت فرنسا على إنگلترا القيام بحملة عسكرية موحدة لاحتلال مصر فرفضت إنگلترا؛ لأنها أرادت إبعاد فرنسا عن مصر ذات الأهمية البالغة لها، مما أدي بفرنسا إلى الدعوى إلى عقد مؤتمر للدول الأوروپية في إسطنبول، وكان قرار هذا المؤتمر تقديم طلب للدولة العثمانية للقيام بحملة عسكرية من خمسة أو ستة آلاف جندي خلال ثلاثة أشهر لتأمين الاستقرار في مصر وإعادة الأوضاع لسابق عهدها.
رفض السلطان هذا الاقتراح، فتم نقده بشدة على أساس أنه ترك مصر وحدها في مواجهة إنگلترا، والحقيقة أن هذا الموقف يوضح حكمة السلطان البالغة، فكيف لخليفة المسلمين أن يرسل جيوشًا لمحاربة المسلمين المصريين الوطنيين؟ وبعد أن يملأ مصر دمارًا وخرابًا يقوم بتسليمها إلى سيطرة الأجانب مرة أخرى؟
كان الغرض الخبيث من إرسال قوات عثمانية إلى مصر هو إضعاف قوة الدولة العثمانية العسكرية التي كانت تعاني في هذا الوقت من أزمات مالية وعسكرية كبيرة، وفي نفس الوقت العمل على اصطدام الجيش العثماني بالمصري مما سيؤدي إلى كسر شوكة الجيش المصري والقضاء على الجيش العثماني الصغير؛ نظرًا لكبر حجم الجيش المصري، فقطع السلطان الطريق على الإنگليز وأفسد عليهم خططهم برفضه، وعلى كل الأحوال فقد كانت إنگلترا تبيت النية لاحتلال مصر كما سيأتي.
تولى عرابي پاشا رئاسة الوزراء بعد ذلك، فأعلنت إنگلترا -التي كانت تحاول إقتناص أي فرصة للهجوم على مصر- عن تشككها في قدرة حكومة عرابي على حفظ الأمن للأجانب الموجودين في مصر -وقد أعلنت سابقًا أنها ستحمي الأجانب في مصر- وانتهزت فرصة تجديد قلاع الإسكندرية وتقوية استحكاماتها، فأرسلت إلى قائد حامية الإسكندرية إنذارًا بوقف عمليات التحصين والتجديد وإنزل المدافع الموجودة بها. رفض الخديوي ومجلس الوزراء هذا مما أدى لضرب الأسطول الإنگليزي للمدينة إلى أن أستسلمت، وأضطر عرابي إلى التحرك بقواته بعيدًا عن المدينة وصولًا إلى كفر الدوار. والنتيجة هي هزيمة عرابي في النهاية في معركة التل الكبير، ونفيه إلى جزيرة سيلان، واحتلال مصر.
كان السلطان يرى أن عرابي مجرد ألعوبة في يد الإنگليز، فأسرع بإرسال كل من درويش پاشا وسيد أسعد أفندي لمصر كي يسديا النصيحة لعرابي بعدم مقاومة الإنگليز -وقد فشل هذا الوفد في إقناع عرابي وليس المجال هنا لتوضيح الأسباب- لكنه أصر على المقاومة، ولو كان عرابي قد إنصاع لهذا الأمر لكان أمر احتلال إنگلترا لمصر قد تأجل على أقل تقدير، ليتدخل السلطان بعد هذا لحل لهذه المشكلة. فأعلن السلطان على أثر هذا أمر عصيان عرابي.
ولتحليل ما أدى إلى إعلان السلطان لأمر العصيان أقول:
1- يجب القول بأن العداوة بين السلطان عبد الحميد و إنگلترا عداوة بلغت الدرجة الأولى، وكان يشترك مع عرابي في درجة العداوة هذه.
2- كان غرض السلطان عبد الحميد عدم إضاعة مصر من حظيرة الخلافة العثمانية، وبذل ما في وسعه لتحقيق ذلك.
3- إعلان السلطان لعصيان عرابي قد يكون خطأ من وجهة نظر الكثير -فالسلطان ليس معصومًا-، ولكن عمق فكر السلطان وضحالة فكر عرابي وإصراره على قتال الإنگليز أضاع الفرصة على السلطان من محاولة استدراك الأمر، فالخطأ خطأ عرابي من الأساس، وأدى في النهاية لسقوط مصر تحت الاحتلال البريطاني.
4- لم يكن أمر العصيان أبدًا بهدف مساندة الإنگليز؛ والذي يشير إليه الكاتب من صيغة سؤاله.
أما شخصية عرابي، فهي تحتاج إعادة دراسة لفحصها ومعرفة أغراضها الحقيقية، فقد سعى لدى عودته من المنفى عام 1901 إلى إقناع الإنگليز بتنصيبه ملكًا على مصر وبلاد العرب. وقد أعلن عن نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب. وقد أثارت تلك المطالبة الخديوي وأنصاره، مما عرض أحمد عرابي لحملة إعلامية شعواء تتقدمها جريدة اللواء والمجلة المصرية وأمير الشعراء أحمد شوقي والذي هجاه في 3 قصائد شعرية، حيث جاء في العدد الثاني في 15 يونيو عام 1901 ونشرتها اللواء بتاريخ 11 يوليو 1901 تحت عنوان ” عاد لها عرابي “.
2- الشبهة: هل سيتناول المسلسل تعطيله للدستور و الدولة البوليسية التي أسسها و مارست القتل لكل معارض و من نماذج القتل دس السم للشهيد عبد الرحمن الكواكبي؟
الحقيقة: سيكون الرد هنا أيضًا طويلًا؛ لذا سأقوم بتقسيمه إلى ثلاثة ردود حسب التسلسل الوارد في السؤال، فقبل البدء بموضوع الدستور أحب التذكير بأن الدولة العثمانية كانت خلافة تحكم بالشريعة الإسلامية بتطبيق كامل في الجزء الأكبر من عمر دولتها، فكانت المصدر الأساسي للحكم في مختلف القضايا.
فعندما تولى السلطان عبد الحميد السلطنة وضع في أولوياته موضوع الدستور و المشروطية [الديمقراطية] (الحكم المقيد)؛ وذلك لإصرار الصدر الأعظم حينها -رئيس الوزراء- مدحت پاشا، فطلب من علماء الشريعة وضع دراساتهم لبيان رأي الشرع الشريف (وهو أساس النظام القانوني والاجتماعي) في الدستور و تخويل المجلس بتشريع القوانين في أمور معينة، فكانت الأراء حول محورين:
الأول: قال بأن إعداد الدستور الذي هو (قوانين السياسة) أو (الأصول) وإطاعة القوانين التي يصدرها المجلس بشكل متواز مع هذا الدستور يخالف الشرع الشريف، ويفتح السبيل لقوانين مخالفة للأحكام الشرعية، واستند هذا الرأي على نقطة مهمة هي غياب شرط الإسلام عن عضوية مجلس الشورى، وقد مثل أمين الفتوى “قاره خليل أفندي” العلماء الذين ذهبوا على هذا المذهب.
الثاني: فقال بأن تشكيل مجلس تشريعي بصفة (مجلس الشورى) وإعداد قانون أساسي يُسمى (الأصول) -المقصود به الدستور- لتنظيم أسسه جائز شرعًا؛ بشرط البقاء في دائرة حق التشريع المسموح به لأولو الأمر وفقًا للشريعة الإسلامية، وكان من مناصري الفكرة العالم الشهير بديع الزمان النورسي، كما أرسل من الأزهر علماء الشريعة على المذاهب الأربعة مذكرة إلى السلطان عبد الحميد تأييدًا للمجلس الذي يمثل قلب الأمة.
أعتمد السلطان الرأي الثاني اقتباسًا من أهل الحل والعقد، وسمح بإعلان القانون الأساسي -الدستور- وذلك في عام 1876، فصار الحكم في الدولة العثمانية نظامًا مقيدًا وأٌقر لأول مرة مجلس تشريعي يناط به سن القوانين في إطار التشريع العرفي.
وفي عام 1878 أٌلغيت أحكام القانون الأساسي، وعُطّل المجلس العمومي المشكل بموجبه؛ لأنهما لم يثمرا بالثمار المنتظرة منهما. وكان السبب في تعطيل المجلس والدستور هي النكبة القادمة من المجلس -الذي كان أغلب أعضائه والممثلين لجنسيات غير تركية تحكمها الدولة العثمانية مدسوسين من الدول الأوروپية، حيث يطالب جزء كبير منهم بالانفصال عن الدولة وتكوين كيانات مستقلة- والتي قادها مدحت پاشا ورفاقه في المجلس إلى الدولة العثمانية بعد أخذ أغلبية في البرلمان بدخول حرب مع روسيا عام 1877 المسماة بحرب 93 و كانت تضم (الإمبراطورية الروسية وصربيا ورومانيا والجبل الأسود ومتطوعين بلغار) ضد (الدولة العثمانية) ونتج عنها خسائر في الأراضي وخسائر مالية ضخمة جدًا، ولعل الإبقاء على المجلس في تلك الظروف كاد أن يؤدي إلى ضياع أراضي الجمهورية التركية الحالية من المسلمين الأتراك أو إلى اضطرار القوى الملية (القوات الشعبية في حرب الإستقلال) للدفاع عن قونية وسيواس بدلًا عن إسطنبول وأزمير، فهزيمة الجيش العثماني في مواقع متعددة في هذه الحرب أدى إلى اتجاه الجيش الروسي جنوبًا لدرجة أنه كان على مقربة حوالي 50 كيلومترًا فقط من عاصمة الخلافة إسطنبول.
وأذكر قول بسمارك السياسي البروسي الألماني الشهير عن هذا المجلس والذي ساند عمل السلطان: “من الواضح أن ضرر البرلمان أكثر من نفعه في دولة شعبها غير موحد.“، ولذلك أزعج قرار الحل إنگلترا وفرنسا المساندتين لإقامة دولة أرمينية ودول مستقلة أخرى للطوائف المتنوعة.
لقد خضع السلطان لمتطلبات التاريخ بإغلاق المجلس وإدارة الدولة بنفسه، فأطال عُمر الدولة ثلاثين أو أربعين سنة وسط أزمات عاصفة في الداخل والخارج، فهل هذا المجلس في مصلحة دولة الخلافة، أم هو طريقة سريعة لهدمها؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر المُعتمد عليها :
1- السلطان عبد الحميد خان الثاني المفترى عليه، دارسة من خلال الوثائق، عمر فاروق يلماز، ترجمة طارق عبد الجليل السيد، مراجعة أ . د الصفصافي أحمد المرسي، دار نشر عثمانلي – إسطنبول
2- السلطان عبد الحميد الثاني شخصيته وسياسته، سليمان قوجه باش، ترجمة عبد الله أحمد إبراهيم، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 2008
3- مذكرات السلطان عبد الحميد، تقديم وترجمة الدكتور محمد حرب، دار القلم، 1991
4- السلطان عبد الحميد الثاني حياته وأحداث عهده، أورخان محمد علي، دار النيل للطباعة والنشر، الطبعة الرابعة، 2008
5- الدولة العثمانية المجهولة، 303 سؤال وجواب توضح حقائق غائبة عن الدولة العثمانية، أحمد آق گوندوز، سعيد أوزتورك، وقف البحوث العثمانية، 2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق