24 أكتوبر 2020

ياسر سليم يكتب: سقالات سيادية


تشعرني بالهيبة، هذه السقالات المنتصبة على سلم نقابة الصحفيين منذ أمد - وإلى الأبد، فيما يبدو - لذا أحرص وأنا صاعد على سلم نقابة الصحفيين متجها لمدخلها أن ألقي السلام يميناً ويسارا عليها، لكنها تتعمد ـ في برود ـ عدم رد السلام، فيتضاعف بداخلي إحساس الرهبة.

لم أكن أعبأ بها في البداية، وهي عبارة عن زوج من السقالات، لكنها تكاثرت وصار الزوجان أزواجاً وبات للأزواج ذرية، فهذه سقالة صغيرة يبدو من سمتها أنها ابنة لهذين الزوجين، فهي أصغر منهما لكنها تحمل ملامحهما، بكسر في أعلاها، ولحام في أسفلها، بورك الوالد والمولود، وتلك سقالة فاتحة اللون والساقين، مثل والدتها الواقفة إلى جوارها في إباء وشمم.

لاحظت أن أعدادها تزداد في العشرين من سبتمبر والخامس والعشرين من يناير من كل عام، ويبدو أن في هذين الشهرين مواسم تزاوج وتكاثر السقالات، كما شرح لي زميل ذو صلة بعالمها السفلي، ونظرا لضرورات الحفاظ على خصوصية إعدادات هاتفي المحمول، والرغبة في عدم إطلاع غرباء على الصور العائلية، والفضائح الشخصية على الهاتف، لم يتسن لي الذهاب في هذين الموعدين لوسط البلد للتأكد من شائعة سرت بأن السقالات تقرأ الفاتحة لضحايا يناير، ومصابي سبتمبر.

وخدمني سائس سيارات ذا صلة بالسياسة، في إيجاد ركنة بجوار النقابة، ثم همس في أذني ـ حتي لا تسمعنا السقالات ـ بأنها لا تقرأ الفاتحة ولكن آيات العذاب.

كدت أتوقف مرة وأسأل إحدى السقالات، ما إذا كان لها مظلمة اضطرتها وأخواتها لعمل هذه الوقفة الاحتجاجية الممتدة منذ عام ونيف، لكنني شعرت بالسخف، حينما رأيت الشموخ في وقفة السقالات، وهي هيئة تناقض مرأى أصحاب المظالم الذين طالما توجهوا لسلم النقابة؛ باعتباره منبراً للصراخ ورفع الشكاوى لأولي الأمر، وازدادت شموخا فقلت إن هذه الهيئة هيئة هيبة، والهيبة فضاحة ياباشا، وليست أبدا هيئة أصحاب مظالم يقفون احتجاجاً.

ولاحقاً شعرت أنها تؤدي دوراً تطوعياً ما، من أجل الصحافة المصرية، وصحفيي مصر، لاشك في ذلك، يتبدى ذلك من وقفتها الطويلة بلا كلل كل هذه الشهور، لابد وأنها تقف حماية للسلم من التحطم جراء الصعود والنزول المتوالي عليه، وبعضنا ثقيل، كما أنها تنتشر على درج السلم مثل جنود بمظلات بالتزامن مع تحذير الأرصاد للمواطنين والمقاولين من أن هناك أياماً ذات عواصف ممطرة ورياح شديدة سوف تهب على البلاد، لم تحدث من أيام محمد علي والمماليك.

وفي ذكرى إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، كنت أود أن يعرض الزملاء في لجنة النشاط الثقافي فيلم الناصر صلاح الدين على شاشة سينما النقابة، فتذكرت أن الأنشطة مجمدة بفعل تفشي فيروس لعين غير معهود، فقررت مشاهدة الفيلم على موقع نتفليكس استثماراً للعروض المجانية، فانتهى العرض المجاني عند لقطات لمشهد الجموع وهي تتقدم للحصون فيفشلون في الدخول ثم يهتفون "اللعنة على السقالات"، غير أن صديقاً نبهني إلى أن انقطاع البث المجاني ربما جعلني لم أسمعها جيداً، وصحح لي بأنهم في الفيلم كانوا يلعنون الأبراج لا السقالات.

حينما استوقفني زميلي ناصر في شارع فيصل وهتف في وجهي بأننا لو كنا مثلما كنا قبل أن نصير إلى ما نحن عليه، لتوجب علينا أن نواجه هذه السقالات فنحملها ونلقي بها أرضاً، فقلت إن لصوصا عرقوا وهم يحفرون الأرض ويستخرجون كابلات الاتصالات لاستخلاص المعادن منها وبيعها من أجل جنيهات قليلة، ولصوص استولوا على سيارة عضو المجلس هشام يونس الـ128 من أمام النقابة دون أن يردعهم ملصق الأهرام المثبت على زجاجها الأمامي المكسور، ولصوص سرقوا بنوك وسط البلد القريبة من النقابة، وآخرون لا تعملونهم الله يعلمهم، لم تواتيهم الجرأة على الاقتراب من السقالات ليسرقوها ويبيعوا حديدها الثمين لتجار الخردة، أفنفعلها نحن ونحن لسنا لصوصاً ولا مقاولين؟

وروى ماسح أحذية عجوز ذو ورنيش فاخر - يلمع بمهارة - وهو أيضا ذو صلة بالسياسة، أن المقاول الذي نقل السقالات من موطنها الأصلي إلى هنا، لم يحصل على مستحقاته كاملة ـ وفي رواية أخرى طمع في المزيد ـ فلم يرجع لأخذها لأنه أساسا لم يعد بمقدوره العودة، إذ وجد في أوربا خمراً ونساء وأمانا من غدر الأعدقاء.

وأقسم مدرب لرياضات الرقص الإيقاعي ذو صلة بالسياسة أن هذه السقالات مباركة أكثر من أضرحة الشيوخ، التي ظل يبكي عندها بحرقة بأن يرزقه الله من حيث لا يحتسب، فلما ظل على حاله، مسح بيده على السقالات ذات مرة وهو مار بشارع عبد الخالق ثروت، فصعدت به إلى الطابق الثالث، وهناك وجد ورقة بأنه صار ضمن الشيوخ.

وأرسل لي صديق لئيم رسالة على الماسنجر - سرعان ما حذفها فور أن قرأتها - مؤكداً ان هذه السقالات ليست كما أظن ويظن غيري، بل هي سقالات تتبع جهة ما سيادية، لديها القدرة على أن تجعل هذه السقالات تبدي كرامات وعلامات على أنها تتفاعل معنا بحسب نوايانا، لذلك لا ترد السلام علي بترحاب وود، لأنها تعلم سوء طويتي تجاه الرموز، وكدت أقتنع بكلامه الشيطاني، لولا أن هداني الله لزميل طيب النية، أقنعني بأن محاولة اكتشاف سر استمرار هذه السقالات على السلم بلا عمل محدد ولا مهمة واضحة تؤديها، هو من قبيل التأمل المذموم في أسرار الماورائيات، ويمكن أن يؤدي للكفر والعياد بالله.

وقلت لزميلي ناصر: إن هذه الكرامات علامات لنا بألا نمسها بسوء، ولا نتحدث عنها بقلة أدب، وعلينا أن ننحني لها حينما نتجه للنقابة لطلب القرض الحسن، وأن ندعو لمن جلبها وتركها لحمايتنا من شرور انفسنا وسيئات أعمالنا، اللهم آمين.

ليست هناك تعليقات: