قبل سنوات قليلة روى لي الحاج صبري عبد العال، وهو من رواد العمل الاجتماعي فى مصر، باكيًا، أن أقارب له فى إحدى عواصم الوجه البحري أهدوا لجيرانهم برطمانًا من اللفت، كنوع من السلطات التي تقدم بجانب الطعام، ليتبين لهم بعد فترة أن الأسرة التى تلقت برطمان اللفت كانت تستخدمه كغموس وحيد مع الخبز بالوجبات الثلاثة!
وقبل أيام سألت الحاج صبري عن أحوال الفقراء فى إطار جولاته التى لا تتوقف بالقرى والمحافظات لمساعدتهم، فقال لي أن مرحلة اللفت أصبحت حاليًا ترفًا، لقد أصبحت كثير من الأسر تأكل من فضلات القمامة، وقال ذلك كشاهد عيان من خلال ما رآه فى عدة مناطق بالقاهرة والجيزة وبعض المحافظات.
وقال لي المهندس مكرم خليفة، وهو من رجال أعمال المنصورة، أن الناس أصبحت تأكل من الزبالة، ولقد رأيتهم يتسللون فى الظلام، ينقبون فى فضلات أحد المطاعم ويجمعونها فى أكياس معهم.
وسألت سيدة فاضلة رئيسة لإحدى الجمعيات الخيرية بالقاهرة عن أحوال مساعدات الفقراء التي تقدمها منذ سنوات فى صورة مساعدات مالية دورية وملابس وبطاطين ولحوم وأغذية، فقالت أنه لا توجد تبرعات بالمرة منذ فترة طويلة، ولهذا توقف كل شىء، حتى تدبير إيجار مقر الجمعية أصبح صعبًا ولهذا نبحث إغلاقها.
وسألت أكثر من جهة صحفية ممن يتلقون التبرعات ويعيدون توزيعها على المحتاجين، فكان الجواب المشترك لقد جفت التبرعات بصورة كبيرة!
ومن خلال استطلاع أسباب جفاف التبرعات، كان الجواب: الركود المخيم على الأسواق منذ فترة، والمشاكل التى يواجهها رجال الأعمال مما قلل من تبرعاتهم السابقة، وغلاء الأسعار وانتشار البطالة والتضييق على الجمعيات الخيرية.
وأشارت بيانات صحية رسمية إلى ارتفاع نسبة التقزم بين الأطفال بسبب نقص التغذية من 18 % عام 2005 إلى 29 % عام 2008، ثم إلى 31 % عام 2011 ، ولم تنشر بيانات عن نسبة التقزم بين الأطفال فى الفترة الحالية.
ويقوم جهاز الإحصاء كجهة حكومية متخصصة بحساب معدل الفقر فى مصر، من خلال بحث ميداني على عينة من الأسر كل عامين، وكانت آخر بيانات للفقر لديه خاصة بالبحث الذى تم فى منتصف 2013، والتي تعرف خط الفقر بأنه المبلغ الذى يوفر الاحتياجات الأساسية من: 1- الطعام 2- المسكن 3- الملابس 4- خدمات التعليم 5- خدمات الصحة 6- خدمات المواصلات.
لكن المفاجأة تكمن فيما ذكره جهاز الإحصاء حين حدد خط الفقر للفرد بنحو 327 جنيهًا شهريًا، بمتوسط 11 جنيه يوميًا، وهكذا يرى جهاز الإحصاء المصري أن الفرد يستطيع تغطية احتياجاته من الطعام والمسكن والملابس وخدمات التعليم والصحة والمواصلات بمبلغ 327 جنيه شهريًا.
وفي إطار هذا الرقم المتدني الذي حدده جهاز الإحصاء بلغت نسبة الفقراء فى مصر فى يونيو 2013 نحو 3ر26 % من السكان، وهم الذين تقل دخولهم الشهرية عن 327 جنيهًا، وهي النسبة التي تعادل عدد 23 مليون و555 ألف شخص حاليًا، وهو عدد ضخم لكنه لا يلقى قبولًا لدى الخبراء، لأنه يستند إلى معيار غير معقول وهو مبلغ الـ 327 جنيه الشهري، وهو ما يعني فى حسابات جهاز الإحصاء أن من يحصل على 330 جنيهًا شهريًا ليس فقيرًا!
وهكذا الحال لمن يحصلون على 400 جنيه أو خمسائة جنيه، وهي المبالغ التي لم تعد تكفي بالمرة لمواجهة احتياجات الفرد اليومية الغذائية فقط في ضوء ارتفاعات أسعار الغذاء الحالية، فهل يكفي مبلغ 327 جنيه للفرد شهريًا لتناول ثلاث وجبات من الفول والطعمية يوميًا، منها مرة أسبوعيًا لتناول الخضر واللحم أيًا كان نوعه، ومرة أسبوعيًا للفاكهة والشاي؟
ومن هنا فإن رفع رقم جهاز الإحصاء إلى الرقم الحقيقي حاليًا، والذي يكفى الضرويات للفرد من طعام وشراب وملابس ومواصلات وعلاج وسكن، يعنى أن نسبة الفقراء الحقيقية فى مصر أكثر بكثير مما ذكره جهاز الإحصاء.
وحتى باستخدام رقم جهاز الإحصاء الصادر منتصف 2013، فإن الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والأمنية المتدهوة منذ يوليو 2013 وحتى الآن، تشير إلى ارتفاع عدد الفقراء حتى فى إطار معيار جهاز الإحصاء.
ويظل السؤال الرئيسي، وبافتراض صحة بيانات جهاز الإحصاء عن خط الفقر، والذي يشير لوجود 6ر23 مليون فقير فى البلاد، ماذا فعلنا لهؤلاء؟ وهنا نكتشف تعتيم شديد على بيانات المساعدات التى تقدمها الجهات الحكومية للفقراء، فلا يوجد موقع إلكترونى حتى الآن لوزارة التضامن الاجتماعي، وكذلك هيئة التأمينات الاجتماعية.
وبيانات معاش التضامن الاجتماعي الذي تصرفه وزارة التضامن لم تعد تنشرها مركز معلومات مجلس الوزراء، وكذلك الحال بالنشرة الشهرية لجهاز الإحصاء، حتى الكتاب السنوي لجهاز الاحصاء لم يذكرها.
وبالتالي فليس أمامنا كبيانات سوى تصريحات وزارة التضامن، والتى تحدثت مع وزارة الببلاوي عن الاتجاه لزيادة مستحقيه من 5ر1 مليون إلى 3 مليون، لكن البيان المالي لموازنة العام المالى الحالى 2015/2016 قال أن ذلك لم يحدث.
واتجهت وزارة التضامن فى فترة محلب إلى مجال آخر، وهو معاش كرامة وتكافل، والذي صرحت وزيرة التضامن قبيل عيد الأضحى، أنه سيصل إلى حوالى 124 ألف مستحق فى أربع محافظات هي: أسيوط بواقع 48 ألف مستحق، والجيزة 31 ألف، وكلا من سوهاج والاقصر بواقع 12 ألف لكلا منهما، وهو ما يشير إلى ضآلة الأعداد المستفيدة بالمقارنة بحجم الفقر حتى بتلك المحافظات، والذى بلغت نسبته حسب جهاز الإحصاء 60 % من سكان محافظة أسيوط البالغ 6ر4 مليون نسمة، ليصل عدد الفقراء بها حسب المعيار الرسمي غير الواقعي 7ر2 مليون فرد.
وبلغت نسبة الفقر 55 % من محافظة سوهاج البالغ عدد سكانها 5 مليون نسمة، و47 % بالأقصر البالغ سكنها 222ر1 مليون نسمة، و32 % بالجيزة البالغ سكانها 8 مليون نسمة.. أى حوالي 6ر2 مليون فقير.
والمعروف أن وزارة الأوقاف تصرف مساعدات شهرية غير منتظمة متوسطها حوالي مائة جنيه للأسرة، ولا توجد جهة حكومة أخرى تقدم مساعات للفقراء، وهكذا يتضح ضآلة عدد الفقراء المستفيدين من المساعدات الحكومية، بالمقارنة بالعدد الإجمالى لهم سواء حسب معيار جهاز الإحصاء أو حسب الواقع الحقيقي.
وفيما يخص الدعم السلعي الذى تقدمه وزارة التموين، فإن الاستفادة منه تشمل الفقراء والأغنياء منذ مايو 2008، حين تم إلغاء البطاقات التموينية الحمراء الخاصة بأصحاب الدخول العالية، وضمها لأصحاب البطاقات الخضراء، والمعروف أن الدعم النقدي لأصحاب البطاقات حاليًا يصل إلى 15 جنيه للفرد شهريًا بمعدل نصف جنيه يوميًا، علاوة على خمسة أرغفة يومية بسعر خمسة قروش للرغيف.
وهكذا تتكفل الجمعيات الأهلية بالنصيب الأكبر لرعاية الفقراء فى أنحاء البلاد، ومنها الجمعية الشرعية وبنك الطعام ورسالة وغيرها، مع تعرضها للمضايقات المتكررة من الجهات الأمنية والإعلامية، ليظل ملف رعاية الفقراء مفتوحًا خاصة مع إلغاء وزارتي العشوائيات والسكان.