محو ذاكرة فلم آخر عن غزو فضائي للأرض .
أتحفتنا هوليوود بأفلام كثيرة حول هذا الحدث الخيالي، ولكن يختلف الأمر مع هذا الفلم حيث كانت الحبكة السينمائية أقوى بكثير من أفلام كثيرة وأقرب الى المنطق الى حد ما .
مثلاً في فلم يوم الاستقلال Independence day عام 1996 من تمثيل ويل سميث ، بيل بولمان وجيف جولدبلوم، كان للغزاة سفينة فضائية عملاقة تتبعها عدة سفن بقطر 500 كيلومتر للسفينة الواحدة، والغزاة مخلوقات بشعة جداً ولكن لها عقل جماعي، أما في فلم محو ذاكرة فهي سفينة واحدة بنفس ضخامة السفينة الأم ولكنها هرمية مستدقة ولا وجود لأي مخلوق فضائي داخلها، ولكنها تتمتع بقوة تدميرية أكبر بكثير مقارنة مع الفلم السابق.
ولو افترضنا جدلاً وجود غزو للأرض في المستقبل فلن يكون إلا بالسيناريو الذي طرحه الفلم. أي سفينة عملاقة تنتقل في الكون بطرق غير تقليدية تمتلك طاقة تدميرية هائلة وتتمتع بتفوق تكنولوجي رفيع.
فيلم محو ذاكرة من الأفلام الصعبة التي تحتاج تركيزاً عالياً لفهمها ولا يستطيع المشاهد معرفة القصة الكاملة للفلم إلا في نهايته، فالقصة تروى بطريقتين وكثير من المشاهد فيها عودة الى الخلف flashback وأحيانا يسير الحدث الحالي وحدث الماضي جنباً الى جنب ويختلط الأمر على المشاهد بين الحدثين.
ولهذا لم يصادف الفلم النجاح المقصود رغم جمال القصة والمناظر الخلابة والتمثيل البارع لتوم كروز ومورجان فريمان وباقي الممثلين.
أتقنت هوليوود صناعة السينما وتوضع ميزانيات ضخمة لإنتاج أفلام كهذه ولهذا فالحديث عن الموسيقى التصويرية او إختيار المشاهد او الديكور إنما تكرار لزوم له.
فيما يلي مختصر يوضح القصة ويضعها في سياق الأحداث الطبيعي:
في عام 2017 انطلقت مركبة الفضاء اوديسا وهي تقل سبعة رواد من جنسيات مختلفة ، أبرزهم الأمريكي جاك هاربر ( توم كروز) والبريطانية فكتوريا والروسية جوليا متوجهة من كوكب الأرض في رحلة استكشاف الى القمر تيتان، أحد أقمار زحل، الذي يبعد عن كوكبنا مسافة مليار ونصف المليار كيلومتر تقريباً.
يفترض الفلم أننا وصلنا الى تقنية ( التنويم الصناعي - وقف النمو) لقطع المسافات الفلكية فالسرعة المحدودة التي وصلنا اليها حتى هذا التاريخ، تعني أن زمن الرحلة يمتد الى عشرات السنين.
بعد أن قطعت المركبة مسافة كبيرة في الفضاء باتجاه الهدف وكان جميع الرواد في مرحلة التنويم الصناعي، ظهر على شاشات وكالة ناسا جسم فضائي على شكل هرم.
أيقظت سالي مسؤولة الاتصال في وكالة ناسا القائد جاك هاربر ومسؤولة الاتصال في المركبة اوديسا البريطانية فكتوريا للتحقق من هذا الجسم الغريب.
حوّل جاك مسار اوديسا نحو الجسم ، ولكن بعد فترة وجد نفسه لا يستطيع السيطرة والتحكم في مركبته التي أخذت تتسارع نحو الهرم، خاف جاك على حمولته البشرية المكونة من خمسة أفراد من بينهم زوجته جوليا، ففصل قسم المركبة المحتوي على الحمولة النائمة وكان هذا القسم مبرمجاً ليعود للأرض بدون تدخل بشري.
انقطع اتصال اوديسا مع ناسا وأجبرت على الدخول الى الهرم بحمولتها البشرية المكونة من جاك هاربر وفكتوريا فقط.
وصلت سفينة الغزو الهرم (تيت) الى مسافة كافية من قمر الأرض وقامت بتدميره الأمر الذي أثر على توازن الأرض فثارت البراكين والزلازل في أماكن عديدة من الكوكب وصاحب ذلك موجات تسونامي هائلة بلغ ارتفاعها مئات الأمتار طمرت كل الأرض المنخفضة وغيرت معالم الكوكب، وكمثل على ذلك فقد غمرت الرمال والأتربة معظم ناطحات سحاب نيويورك فأصبحت تحت سطح الأرض.
لم تكن الأرض مهيأة لكوارث طبيعية بهذا الحجم الهائل، وقد تركت لتفعل فعلها في الأرض لمدة سنتين، انتشرت المجاعات خلالها ومات العدد الأكبر من سكانها، بعدها أنزل الغزاة آلاف الطائرات بدون طيار (درونات) مع آلاف الرجال مستنسخين من جاك هاربر (كلون) يقودون طائرات فضائية صغيرة عملوا تقتيلاً في من تبقى من البشر. فقد كان الرجال المستنسخون مبرمجين على أن سكان الأرض الحقيقيين هم الغزاة الذين يجب القضاء عليهم.
ولم يشر الفلم الى مصير هؤلاء الرجال المستنسخين بعد انتهاء مهمتهم ومن المؤكد أنه تم التخلص منهم، فهناك مصنع في السفينة تيت لعمل الآلاف.
بدأت المرحلة الثانية بعد خلو الأرض من سكانها تقريباً حيث تم بناء أجهزة عملاقة تقوم باستخلاص طاقة أندماجية من ماء الكوكب.
في هذه المرحلة كان هناك مستنسخ من جاك يعيش مع مستنسخ من فكتوريا في بيت حديث راق شاهق الارتفاع تكاد تظن أنه معلق في السماء، كانت المهمة إصلاح طائرات الدرون والأجهزة العملاقة التي تتعطل بفعل التخريب ممن تبقى من ( الغزاة ).
هكذا تمت البرمجة الثانية والتي تتضمن كذلك أن جاك وفيكا سيقضيان خمس سنوات في هذه المهمة وهي المدة اللازمة لتجميع الطاقة اللازمة من أجل حياتهم على القمر تيتان، وأن سكان الأرض قد انتقلوا الى داخل الهرم تيت وينتظرون انتهاء مهمة جاك وفيكا.
ضمن البرمجة أيضاً أنه لنجاح المهمة كان جاك وفيكا مجبرين على محو ذاكرتيهما حتى لا يستفيد (الغزاة) الذين يعيشون مختبئين تحت الأرض من المعلومات الموجودة لديهما فيما لو وقعا أسيرين في أيديهم.
وحتى تكتمل مشاهد البرمجة تشير الخرائط المقدمة لجاك وفيكا والتي يعملان بموجبها الى مناطق حمراء هي مناطق الإشعاعات النووية الخطرة والتي لا يستطيع جاك تخطيها فيموت.
وهذه البرمجة تعني أنهما يعيشان وحيدين على الأرض. أما الحقيقة فهي أن هناك عدة نسخ من جاك وفيكا وصلت في الفلم الى 52 ، وبهذا تمت تغطية الكرة الأرضية ، ولكل فريق منطقة يعمل بها ولا يستطيع تخطيها خوفاً من الإشعاعات النووية كما توضح خرائط كل فريق. ويعني هذا أن أجهزة الاتصالات التي يمتلكها كل فريق محدودة وتقتصر فقط على الاتصال مع الهرم.
يبدأ الفلم في العام 2077 مع الفني جاك وفيكا رقم 49 قبل أسبوعين من انتهاء مهمتهما تمهيداً لانتقالهما الى الهرم. يبدوان كفريق كفؤ وسعيدين لقرب انتهاء مهمتهما.
تنتاب جاك بعض الأحلام أو الرؤى ولكنها لا تؤثر على مهمته، ويبدو أن جاك غير متحمس كثيراً للانتقال الى تيتان فهو يحب الأرض وقد وجد لنفسه منتجعاً صغيراً بين الجبال لا تصله فيه اتصالات فيكا وسالي من الهرم.
جمع جاك في منتجعه السري كتباً واسطوانات قديمة ويتسلى بلعبته الرياضية المفضلة ويغفو أحياناً بجانب البحيرة على صوت الموسيقى، وجاك نفسه لا يعرف لماذا تهفو نفسه الى القديم. كان المستنسخ جاك بدون أن يدري يصارع من أجل استرجاع ذاكرة ليست له ولكنها ركن أساس من أركان شخصيته.
فيما بعد سنكتشف ان هناك خلل ( Flow ) في صناعة التقني رقم 49 ، فالإنسان لن يكون سلعة مصنعة مثل باقي السلع وسيظل مخ الإنسان هو ذلك المجهول الكبير الذي لا يمكن فك طلاسمه.
في هذا الوقت تصل الى الأرض جزء السفينة أوديسا الذي فصله جاك الأصلي قبل ستين عاماً. تقوم أجهزة الدرون بقتل طاقمها النائم ولكن جاك رقم 49 استطاع النجاح في إنقاذ جوليا التي يراها في أحلامه ثم تتكشف الحقيقة شيئاً فشيئاً عندما يكتشف أن الغزاة المختبئين تحت السطح ما هم إلا من تبقى من سكان الأرض الأصليين ويقودهم مالكولم بيتش الذي شهد الغزو من بدايته ويمثل دوره بكفاءة مورجان فريمان.
وفي نهاية الفلم ينجح جاك رقم 49 ومالكولم بيتش في تدمير الهرم تيت بنفس القنابل الاندماجية التي يجمعها الغزاة، ويقومان بتخليص كوكب الأرض منهم.
قصة الفلم مشوقة ولو تم إخراجها بطريقة بسيطة لنجح نجاحاً ساحقاً مثل الفلم الأول للمخرج جوزيف كوسنسكي (اسطورة ترون)، ولكن تعقيد الفلم جعله صعباً على الفهم ومن ثم على الاستمتاع.
فكل أفلام الخيال العلمي والتي تلقى رواجاً ضخماً عند محبي الأفلام السينمائية تبدأ من النقطة ألف وتنتهي بالنقطة ياء.
تكمن أهمية الفلم وتتمحور قصته حول معضلات مستقبلية سنشاهدها في المدى المنظور ، فالفلم يطرح موضوع الطائرات بدون طيار ويمكننا القول إنها كانت أحد أبطال الفلم غير البشر.
في أيامنا هذه نستطيع معرفة ما يفعله الجيل الأول منها والتي تدار من قواعد بعيدة عن مكان عملياتها آلاف الكيلومترات إذ تقوم باصطياد وقتل الأفراد غير المرغوب فيهم.
أما الأجيال التالية من هذه الطائرات فستكون روبوتات طائرة وقاتلة بدون توجيه تتوجه الى منطقة ما، تصدر لها الأوامر فتقوم بالقضاء على كل ما يتحرك فيها.
أما الموضوع الثاني فهو موضوع الاستنساخ والبرمجة.
رغم أن كثير من حكومات الأرض في وقتنا هذا قد وضعت قوانين ضد استنساخ البشر وذلك لاعتبارات دينية وأخلاقية إلا أن الاستنساخ قادم لا محالة ، ففي صراع الإنسان مع قدره النهائي وهو الموت يحاول بشتى السبل التحايل والخلاص من المصير المحتم، والاستنساخ هو إحدى هذه الوسائل، فقد يستطيع غني من الأغنياء البداية من جديد بجسم شاب خال من أمراض الشيخوخة أو الحصول على قطع غيار لأعضائه القديمة بأخرى جديدة، كما تم طرح الفكرة باقتدار شديد في فلم من أفلام هوليوود باسم (الجزيرة عام 2005) The Island ( إخراج ميشيل بيه وتمثيل ايوان مكريجور وسكارلت جوهانسن).
وهذا يقودنا الى موضوع البرمجة لهذه المستنسخات ، ففي فلم الجزيرة أبقوهم أطفالاً وأسماؤهم مجرد أرقام وسيذهبون الى جزيرة رائعة في حالة وقوع القرعة عليهم، أي عندما تتم الحاجة الى أعضائهم.
أما في الفلم الحالي فهم مقاتلون أكفاء لا قدرة لأحد على مواجهتهم. أو كما قال مالكولم بيتش (مورجان فريمان) قائد المقاومة، واجهونا بأحسن ما عندنا في إشارته الى عملية تصفية البشرية في المرحلة الأولى.
ومن يعلم ماذا يخطط عسكر العالم المتقدم لحروب المستقبل سواء مستنسخين على طراز جاك هاربر أو روبوتات آلية ذكية مبرمجة لخوض المعارك ولا يؤخذ اعتبار لخسائرها.
لا يخلو الفلم من بعض الأخطاء العلمية الهامة قد لا يعرفها المشاهد العادي.
من ذلك فالقمر تيتان وقد تم وصفه بالجنة الموعودة ، هو أبعد ما يكون عن ذلك، فدرجة الحرارة على سطح القمر هي 273 - مئوية ، أي درجة الصفر المطلق للكون ، كما أن القمر هو أكبر مخزن في المجموعة الشمسية للفحم والنفط. وهذا القمر لا يحتاج الى طاقة إضافية مستوردة من مكان آخر.
وكان عليهم إختيار كوكب مجهول الاسم لهذه الجنة الموعودة.
كذلك فإن تحديد التواريخ سواء انطلاق السفينة اوديسا عام 2017 وعودة طاقمها النائم عام 2077 هو اختيار غير موفق واستعمال التنويم الصناعي - وقف النمو للطاقم هو أمر لم يتحقق بعد وربما تحتاج البشرية خمسين عاماً لإتقان هذه التقنية الهامة لغزو الفضاء. وكان على المؤلف أن لا يتقيد بالتواريخ.
في نفس الوقت صادفت المؤلف مشكلة أخرى جعلته يحدد مواعيد قريبة من زمننا هذا، وهي عدم قدرة دول الأرض على التصدي للغزو. فقد توقف الهرم تيت على بعد 500000 كيلومتر من قمر الأرض وهي مسافة الأمان الكافية حتى لا يصاب بالشظايا المتطايرة من القمر عند تدميره. وهذه المسافة تعني بعد تيت عن الأرض مسافة 800000 كيلومتر وهي مسافة فلكية بالنسبة لدول الأرض التي لن تستطيع إيصال صواريخها وقنابلها النووية اليه وإن استطاعت فمن السهل التصدي لها وتدميرها قبل وصولها. ولهذا لم يتطرق الفلم لموضوع مواجهة الغزو، فما حدث أكبر من قدراتنا الحالية في الوقت الحاضر وفي المدى المنظور.
أما بالنسبة لاستغلال مياه الأرض لعمل قنابل اندماجية، فهذه أيضاً إحدى الهفوات التي تدل على عدم دقة البحث العلمي عند المؤلف، فمن المعروف أن الاندماج الحادث في جزيئات الماء ينتج عنه الماء الثقيل الذي يستعمل في القنابل الانشطارية. وقوانين الكيمياء لا تتغير.
وهذا يقود الى الهدف من الغزو، فليس هناك ما يستدل على استفادة الغازي من هذه الطاقة التي ينتجها، يقول بيتش لجاك إنهم يتنقلون في الفضاء يمتصون طاقة كل كوكب يمرون به.
ولكن من أين لبيتش أن يعرف هذا ، فهو لم يجر أي اتصال بين الغزاة وأهل الأرض، فالغازي لم يهتم ولا يعنيه ذلك ، ما حدث أن العقل الذكي الذي يقود الغزاة تقمص شخصية سالي مندوبة الاتصالات السابقة في ناسا وذلك بغرض التفاهم مع مستنسخي جاك وفيكا المبرمجين لخدمة أغراضه. هذا كل ما احتاجه لتنفيذ غزو ناجح.
إذاً فالهدف في هذا الفلم عبثي. فلم يكن تمهيداً لوصول سكان كوكب الغزاة للحياة على الأرض أو نقل ثروات الأرض الى كوكبهم.
وهذا يقودنا الى الثروة الوحيدة التي يتميز بها كوكبنا عن غيره. فلو وضعنا الأرض في مركز كرة ومددنا نصف قطرها عدة سنوات ضوئية أو مليارات الكيلومترات لما وجدنا كوكباً يحتوي على هذه الكمية الضخمة من المياه، قد نجد بعض أقمار المشتري وزحل أو نبتون تحتوي على الثلوج ولكن لا شيء يماثل كوكبنا، ولهذا نسميه الكوكب الأزرق ولا وجود لكواكب أخرى بهذا اللون المميز.
وكان يمكن لمؤلف قصة الفلم أن يجد طريقة تجعل هدف الغزاة سرقة مياه الأرض ونقلها الى كوكبهم ، وبهذا يصبح الغزو أكثر منطقية
من المؤسف حقاً أن لا يلقى فلم ( محو ذاكرة ) رغم عدم دقة البحث العلمي النجاح الذي يستحقه.