العربي الجديد
المثل الدارج يقول: «إن الله يضع سره في أضعف خلقه»، وقد رأينا هذا المثل حقيقة ماثلة قبل ساعات من كتابة هذه الزاوية، تتمثل في هذا الإنفراد التاريخي لفضائية «مكملين»، بإذاعة «قنبلة الموسم»، التي تمثلت في التسريبات الخاصة بعبد الفتاح السيسي وأركان انقلابه، وهم يغرقون في «شبر ماء»، في رحلة بحثهم عن طريقة يسترون بها سوءاتهم التي تبدت للناظرين بخطفهم للرئيس المنتخب!
لا أظن أن كثيرين كانوا قبل هذه الليلة الليلاء قد عرفوا باسم «قناة مكملين»، وهي واحدة من القنوات المتواضعة الموالية للشرعية، وتقف ضد الانقلاب، وتبث من بلاد «المهجر» لأن الانقلاب صدره ضيق حرج كأنما يصعد في السماء كلما استمع للرأي الآخر، ومنذ اللحظة الأولى لإسقاط المسار الديمقراطي وعزل الرئيس محمد مرسي.
فضائيات الشرعية فقيرة، وميزانيتها كلها لا تكفي لإطلاق قناة واحدة ناجحة، وفي مجال الإعلام لست مؤمناً بأن «الشاطرة تغزل برجل حمار»، فما قام نجاح على جهل وإقلال. وميزانية قناة «مكملين» السنوية لا تكفي لشراء هذا التسريب الذي جاء كاشفاً عن تواضع إمكانيات من سرقوا ثورة الشعب، ومن كان يظن كثيرون أنهم أصحاب عقول جبارة، فإذا بهم كالعنكبوت اتخذت بيتاً، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت!
نعلم أن الانقلاب إختطف الرئيس، بدون سند قانوني، وجاءت وجه الشؤم كاترين أشتون إلى
القاهرة تتمطى والتقت بالرئيس في مقر اختطافه، ولم تكشف ما دار في هذا اللقاء، وعلمنا أنها كانت في مهمة من قبل الإتحاد الأوروبي «الشريك الضالع» في هذا الانقلاب، وكانت مهمتها هي أن تسبغ شرعية دولية على هذا الانقلاب وشرعية على اختطاف الرئيس المنتخب وتغييبه القسري، وكان اللقاء لإضعاف عزيمة مرسي، ولتقنعه «الحيزبون» بقبول الدكتور محمد البرادعي رئيساً للحكومة، كشرط لعودته للحكم، لكن الرجل فاجأها بصموده، كما فاجأها برفضه قبول الدنية في أمره.
هذا الصمود الأسطوري الذي فاجأنا به الدكتور مرسي، هو الذي جعل معنى لكلمة الشرعية، وأيضاً للثورة المصرية، فلولا هذا الصمود لانتهت الثورة، ولكان حكم العسكر لا يسمعون فيه، وهم الذين استمعنا لتسريباتهم فوقنا على الخطر المحدق بالأمن القومي المصري .
بعد إختطاف الرئيس محمد مرسي، بدون مبرر قانوني، وفي قاعدة عسكرية، تتبع سلاح البحرية، جلسوا يلفقون له القضايا فكانت قضيتا «التخابر»، ومقتل شابين أمام قصر «الاتحادية» عندما تم حصاره، وكنت شاهداً على التقاعس الأمني في حماية القصر الرئاسي بشكل لا تخطئ العين دلالته!
التزوير والتلفيق
لكن هناك فترة من الزمن سابقة على مرحلة محاكمة الرئيس ووضعه في سجن «برج العرب»، والقاعدة العسكرية ليست ضمن أماكن الحبس التي حددها القانون، وبدا القوم في «حيص بيص» كناية عن الارتباك، ودارت اتصالات هاتفية بين أضواء المسرح العبثي حرض فيها النائب العام على التزوير والتلفيق، بدأت بمكالمة لقائد القوات البحرية، مع اللواء ممدوح شاهين، الذي كان المجلس العسكري في مرحلة حكم العسكر، يقوم بتقديمه على أنه عقلية قانونية ومعملية فذة، وقد كانت تتم استضافته في برامج تلفزيونية فيطفح جهلاً مطاعاً، حيث يجري الإستماع له باهتمام وإنصات من قبل الضيوف ومقدمي البرامج على حد سواء، إذ كان يعوض النقص في معلوماته القانونية بهيبة الزي العسكري، وبالمرصوص على أكتافه، من نسور ونجوم، باعتباره يحمل رتبة «اللواء»، وكتبت محذراً من هذا الإنصات المبالغ فيه، فممدوح شاهين ليس هو الفقيه الدستوري الراحل عبد الرازق السنهوري، ولا ينبغي أن يعامل على أنه السنهوري.
المكالمات الهاتفية المسربة ضمت مدير المخابرات الحربية، ومدير مكتب وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي «عباس كامل» قبل أن تضم السيسي نفسه، لنقف على أن الإختراق كان حاصلاً لهم جميعاً، والتسجيلات لم تكن من نتاج إعتراض مكالمتهم الهاتفية، والتجسس على اتصالاتهم، كما كانوا يفعلون مع ضحايا برنامج «الصندوق الأسود» الذي كان يقدمه من هو وثيق الصلة بالأجهزة الأمنية، لكن من الواضح أن مكاتب قادة الجيش هي الخاضعة للمراقبة وهي واقعة تحت السيطرة، ليطرح هذا سؤالا عن حدود الأمان المتوفر للمعلومات الأخرى التي تدخل في حيز الأمن القومي المصري!
لقد كشفت التسجيلات عن أن
مصر تحكم بالبلاهة، إذ غرق القوم في «شبر ماء» وهم يفكرون في تلفيق مبني على أنه السجن، والنشر في ملاحق لأعداد قديمة للجريدة الرسمية قرارا لوزير الداخلية يفيد أن المبنى من الأماكن الخاصة بالسجن حتى إذا اضطرت المحكمة لزيارته، ومعها دفاع الرئيس محمد مرسي وقفوا على أن الرئيس لم يكن مختطفاً. مع أن الفترة السابقة قبل أول قرار من النيابة بحبسه كانت 28 يوماً، تؤكد أنه مختطف إن كان في قاعدة عسكرية، أو في سجن قانوني!
«على ودنه»
لقد تبدت عورات الانقلاب للناظرين، فالنائب العام هو من حرض على التزوير الذي شارك فيه وزير الداخلية وعبد الفتاح السيسي نفسه. واستمعنا في التسجيلات إلى ما يجعل المرء يضع يده على قلبه لأن يكون الأمن القومي المصري في يد هؤلاء «البلهاء».
أداء متواضع حد البؤس ظهر في التسجيلات، وحديث عن التزوير بعبارات سوقية، مثل أنه «على مياه بيضاء»، أو «على ودنه»، ولم أكن مع وصف الدكتور عمرو دراج بأنهم «عصابة»، فنحن أمام أناس يمثلون «الخيبة الثقيلة»، ولا يمكن للمرء أن يطمئن على البلاد في أيديهم، بعد هذا الفيلم الهندي الهابط، الذي أثبت أن قادة البلاد بالتعيين الحر المباشر من مبارك، هم ممثلون «كومبارس»، وعندما قدر لهم أن يقوموا بدور البطولة وتمددوا في الفراغ، كنا أمام أداء لا يخرج إلا عن قدرات من تقرر له منذ البداية أن يكون «كومبارس»، ولهذا وقع اختيار مبارك عليهم منذ البداية وقام بترقيتهم للمناصب العليا في دولته.
لم تشغلني براءة مرسي، فلم يكن يساورني شك في أنه بريء، لكن الذي شغلني ليلتها هو هذا المستوى الرديء، لقادة البلاد، ولعل هذا التواضع اللافت في القدرات هو الذي جعل الرئيس محمد مرسي يأنس لعبد الفتاح السيسي ولا يصدق النصائح المتواترة للبعض بأن الرجل يمكن أن ينقلب عليه.
فالسيسي لا يمتلك المؤهلات اللازمة، لشغل منصب وزير الدفاع، ليخطط للانقلاب على الحكم، ولا يعلم الرئيس أن ضعف المقومات الشخصية هو الذي يمكن أن تجعله ألعوبة في يد الغير، ويخطئ من يظن أن الانقلاب هو قرار مصري داخلي خالص، ومن مأثورات الكاتب صلاح عيسى: «ربنا يكفيك شر عديم الموهبة»، وذلك في المجال الصحافي، وأكثر الرجال شراسة في معاملة زوجاتهم هو «العنين»!
اللافت أن التسجيلات المسربة، كانت لمن يديرون البلاد والمؤسسة العسكرية الآن، فعبد الفتاح السيسي هو الذي يشغل منصب رئيس الجمهورية، وصهره الذي كان وقت التسجيلات قد خلفه في منصب مدير المخابرات الحربية، هو الآن رئيس أركان الجيش المصري، وممدوح شاهين عضو المجلس العسكري وعقله المفكر، هذا بالإضافة لمدير مكتب وزير الدفاع، وهو عسكري برتبة لواء، وهي ذات الرتبة التي يحملها قائد القوات الجوية، وجميعهم غرقوا في «شبر ماء»!.
ليبدو السؤال الأهم: من فعلها؟!
مذيع قناة «مكملين» قال إن التسريبات وصلتهم من عسكريين نافذين، وقال إن دلالة هذا أن هناك من هم داخل المؤسسة العسكرية مع الشرعية وضد الانقلاب.
وقد يكون هذا صحيحاً، لكن معنى هذا أننا سنشهد سيلاً من التسريبات في المرحلة القادمة، وقد لا تكون الدوافع هي الانحياز للشرعية، كأن يكون القرار قد صدر بالتضحية بالسيسي، على
القاعدة القديمة التي ذكرتها وهي «تدوير الانقلاب»، من «تدوير القمامة»، وكانت عملية التدوير قد تم التفكير فيها عندما أرادت الدول الخليجية الراعية للانقلاب إقناع السيسي بعدم الترشح للرئاسة وأن يستمر وزيراً للدفاع، وفكر هو في أن يكون البديل له هو مدير المخابرات العامة، وفكرت
السعودية في سامي عنان، وكان لدى الإمارات بديلها وهو أحمد شفيق!
المهم ألا يكون البديل بينه وبين الناس عداء فلم يكن طرفا في الانقلاب على الرئيس المنتخب، ولم يعتقل الآلاف، ولم يأمر بالمذابح التي ارتكبت ولم يحدث في عهده انتهاك أعراض الحرائر، لتسهيل مهمته في الحكم!
البديل
قد يظل السيسي رئيساً لنهاية فترته الرئاسية، لكن كلما اشتد الحراك الثوري ضده، كان البحث الخارجي والداخلي عن بديل يوقف حالة الحراب، قبل أن يفاجأ الجميع وعلى رأسهم البيت الأبيض، بسقوط الانقلاب بواسطة الثوار، عندها سيكون التعامل ليس وفقاً لقواعد الثورة المصرية المسالمة، ولكن التصفيات ستكون على قواعد ثورة الامام الخوميني، لكثرة المظالم، والشارع سيكون سيد قراره، ولن يستمع للمرشد ومكتب إرشاده، ولمن هم سلميتهم أقوى من الرصاص!
اللافت أن «مكملين» و«الجزيرة مباشر مصر» وغيرهما، كانت تبث التسريبات الفضيحة بينما فضائيات عبد الفتاح السيسي وعموم إعلامه لم يتطرق إليها في هذه الليلة فقد كان إعلامه في غيبوبة. ربما لآن «دوام» من يعملون في الشؤون المعنوية في الجيش قد إنتهى مبكراً، وهم الذين يوجهون الإعلام، فالليلة ليلة الخميس، وهي «ليلة مفترجة»، وقد تكون التسريبات قد نزلت عليهم نزول الصاعقة، فعقدت الدهشة الألسن من هول الصدمة، وعندما تنشر هذه السطور، قد يكون القوم قد استردوا وعيهم المفقود وبدأوا خطة مواجهة الفضيحة وستر العورات بطرف الثياب!
ومهما يكن، فهذه الفضيحة أخطر من «ووترغيت»، التي أسقطت رئيساً منتخباً وليس شخصاً مغتصباً للسلطة. إنها فضيحة تسقط الإنقلاب ومن أيدوه ولو بشطر كلمة!
أهؤلاء هم أسيادكم.. بئس العبيد أنتم!
صحافي من مصر