إنه يوم أسود في تاريخ القضاء المصري وفي تاريخ مصر كلها بإفلات الجناة "عصابة مبارك كاملة" من العقاب بعد جرائم مشهودة للجميع ماليا وجنائيا وفساد واستبداد وخيانة عظمى وأياد ملوثة بالدماء، وذلك بحكم قضائي مسييس يبرئ المجرم ويقتص من الضحايا، ويكرس لإهدار الحقوق وكتابة شهادة وفاة العدالة والعودة لشريعة الغاب والثأر، وكأنه قرار من الاستخبارات ومن شبكة المصالح الفاسدة، وليس من منصة قضاء، ومن قاض يحكم بالعدل، وبما يستقر في ضميره.
وهذا إن دل على شئ فعلى استغباء الشعب، والاستهانة به بعد غسيل دماغه، علاوة على تعرضه للخديعة أكثر من مرة بمسرحية المحاكمة الهزلية والإدانة السابقة، ثم البراءة المشبوهة، وحين كنا نقول ان جنرالات مبارك امسكوا بالسلطة بتفويض منه للإجهاز على انتفاضة يناير وحماية الديكتاتور العجوز وعائلته وعصابته، وان السيسي ابن مبارك الوفي الذي يستكمل مساره ودوره، وان الاخوان شركاء في هذه الجريمة الكبرى المكتملة الأركان بوضع يديهم في يد القتلة والفسدة ورفض التطهير والمحاكمات الثورية والقصاص الحقيقي وليس بالشعارات من المجرمين، كان الكثيرون يشككون، حتى جاء الحكم المشئوم ليؤكد ما كنا نحذر منه ونفضحه من مؤامرات.
كنا نتوقع الحكم ومنذ وقت مبكر، لكن ليس بهذا الفجر وهذه البجاحة اللذين يضييعان الحقوق ويطمسان الحقائق، ويغفلان أو يسقطان وقائع عديدة مثل المدة الزمنية من 31 يناير حتى 11 فبراير وعدم ادخال سوزان مبارك"الملكة الأم" وابنها جمال، ومحمود وجدي وآخرون في القضية، رغم ان سفك الدماء في عهد مبارك ظل لآخر لحظة.
وكل من كان في الميادين كان يرى بأم عينه يوميا هجمات الشرطة والبلطجية التابعة لها، بدعم من الجنرالات وكل أجهزة الأمن والاستخبارات، وسقوط ضحايا بالمئات يوميا بين قتلى وجرحى واستهداف حتى اماكن اقامة المراسلين الاجانب لإرهابهم، لكي لا ينقلوا الحقيقة، فضلا عن استخدام حتى عربات الاسعاف في نقل امدادت السلاح لوزارة الداخلية، والقبض عمن كان يذهب بجريح للمستشفيات، لدرجة ان كثيرين كان يرفضون الذهاب للمستشفيات العامة والخاصة التى كانت تتواجد بكثافة قوات الامن بداخلها، خوفا من الاعتقالات.
نعم، صدر الحكم بالبراءة، لكن لم يتم تحديد من المتهم، وكأن ثمة من أتى من السماء وقتل المتظاهرين، أو أطرافا خارجية كما يزعم ابناء مبارك، وليس المتضرر من خروج الجماهير للشوارع رغبة في اسقاطه عن عرشه الذي كان يظن أنه لن يغادره إلا إلى القبر وسيورثه لولده، وكذلك شبكة المصالح المستفيدة من نظام ظل في الحكم أكثر من 30 عاما كانت الأسوأ في تاريخ مصر، وكلها جرائم في حق الشعب على كافة المستويات، وملؤها القمع والاستغلال والعمالة للخارج.
صدر الحكم من قاض يتحدث باسم الله والرسول ويحيل الأمر ومعرفة الحقائق للتاريخ ولعدالة السماء، فكيف يمكن أن نثق فيمن لا يقوم بدوره في التحقيق واثبات التهمة وملاحقة المتورطين ويتحدث بخطاب سياسي وعاطفي ويلقي خطبا ويهنئ الجميع ويستعيد القاب ما قبل ثورة يوليو الملغاة بنص القانون والدستور ويخاطب من حوله بالبكوية وصاحب المقام الرفيع، ويقوم بعمل فيلم وثائقي عن عمله، ويبكي تأثرا بخطبة السفاح مبارك، ويسمح للمتهمين بالمثول بملابسهم الرسمية وليس بملابس السجن او الحبس الاحتياطي وبالنظارات الشمسية ويتعاملون بأريحية؟!
إنها لحظة الحقيقة، ليدرك الذين يهللون لخليفة مبارك وجنراله ولاستقلال القضاء أن مصر ليس بها ثورة ولا ثورتين، وإنما نظام فاسد مستبد تابع مستمر منذ السبعينات وحتى اللحظة يتم توريثه بين اعضاء العصابة الواحدة، وأننا بالفعل في حاجة لثورة حقيقية تنهي هذه الحقبة، وتهدم كل المؤسسات الفاسدة لتعيد بناء مؤسسات ذات استقلالية وكفاءة وتنحاز للحقوق والحريات، حتى لا تضييع مصر للأبد وتنهار بشكل حقيقي، وليس بشعارات التخويف للسيطرة على الجماهير وقمعهم.
*كاتب صحفي مصري
Email:mahmoudreheem@hotmail.com