ـ كيف نجحت دولة الزعيم الملهم في أن تجمع كبار مثقفي مصر وسياسييها بكل اختلافاتهم على شيئ واحد هو كتابة التقارير؟
ـ تقارير مرفوعة لعبدالناصر في منتصف الستينيات: المسيحيون يقومون بفتح حنفيات المياه في منازلهم كل ليلة لتخريب البلاد والإخوان يكتبون شعارهم على الأتوبيسات وينشرون الشائعات وموظف بشركة «بسكو مصر» يحمل أفكارا خطيرة تهدد الوطن.
كل ثلاثة أيام تقريبًا يصلني منه نفس "الإيميل" الذي يختار له نفس العنوان (تحذير من مواطن شريف: عمارة يتم تأجيرها بالكامل للإرهابيين والإخوان المسلمين)، واضعا في المتن اسم صاحب العمارة وعنوانها بالكامل، ولاعنا سنسفيل صاحب العمارة وكل سكانها بل وكل سكان الشارع الذين يتسترون على جريمة تسكين إرهابيين يتآمرون على مصالح الوطن، ثم بدأت إيميلاته بعد فترة تصبح أكثر حدة ومبالغة، ربما لأنه لم يجد اهتماما من الكتاب والصحفيين الذين أرى أسماءهم معي في قائمة من يتسلمون الإيميل، لدرجة أنني أصبحت أراه في خيالي يزعق وهو يكتب ليصل صوته للجميع مرددا عبارات حفظها من خلال متابعته الدائمة لوسائل الإعلام (جريمة خطيرة في وضح النهار ـ مصر تضيع تحركوا لإنقاذ مصر ـ نحن نفضح بالأسماء والعناوين ـ لك الله يا مصر)، وكان آخر ما وصلني منه قبل أيام رسالة غاضبة يشتم فيها سنسفيل أحد الذين كان اسمهم موضوعا في القائمة لأنه رد عليه طالبا منه أن يذهب إلى طبيب نفسي بدلا من أن يصفي حساباته مع أحد جيرانه بهذه الطريقة.
قلت لنفسي: بالتأكيد يشعر ذلك الرجل بحزن عميق، لأنه تلقى طعنة غادرة في وطنيته، فهو لم يفعل شيئا سوى الإمتثال لقيادته الحكيمة التي خصصت في العام الماضي خطوطا ساخنة تحث فيها المواطنين على الإبلاغ عن أعضاء جماعة الإخوان الإرهابية، وربما حاول الرجل أن يفعل فكان حظه كحظ من يتصل بخطوط الإسعاف أو النجدة أو المطافئ، لعله لم يلجأ للإبلاغ المباشر عن جيرانه في قسم الشرطة لأنه اقتنع بخطورة عناصر الطابور الخامس الموجودة في كل مواقع الدولة كما كشف الخبراء الإستراتيجيون، لكنه مع ذلك لم ييأس بل قرر أن يلجأ لرجال الإعلام الذين يراهم دائما يحضون المواطنين على الإيجابية وحماية الوطن، لكنه لم يكن يتوقع أبدا أن يكون رد فعلهم سلبيا ومتباطئا، لعله قرأ الأخبار المنشورة عن اتجاه حكومي للإستعانة بالطلاب الوطنيين في الجامعات للإرشاد عن زملائهم المشاغبين، فتمنى أن يكون هناك مكان رسمي يمكن أن يشبع فيه رغبته الوطنية في الإرشاد عن جيرانه من الإرهابيين، لعله تذكر ما كان يحكيه له والده عن العصر الذهبي للإرشاد الوطني في الخمسينات والستينات، حين لم تكتف السلطة بكل ما كان لديها من مخبرين تابعين لكل الأجهزة السيادية والأمنية، بل أنشأت تنظيما سياسيا سريا أسمته (التنظيم الطليعي) كان يقوده في أزهى عصوره وزير الداخلية شخصيا، ولعله استبشر خيرا بعودة هذه الأيام عندما قرأ وسمع وشاهد المطالبات المتلاحقة للرئيس عبدالفتاح السيسي بأن يشكل حزبا خاصا به، يتجمع فيه "بتوع السيسي" كما أسمتهم ابنة الزعيم الملهم ـ الأولاني ـ هدى جمال عبدالناصر في حوار أخير لها شكت فيه من أنها تبحث على الساحة السياسية عن "بتوع السيسي" فلا تجدهم.
قبل خمسين عاما كانت مصر قد أصبحت مليئة عن آخرها ببتوع والد الدكتورة، وكان "البتوع التانيين" أيا كان انتماؤهم مرميين في السجون أو منفيين خارج البلاد أو ماشيين جوه الحيطان دون أن ينسوا أن لها ودان، ومع ذلك لم يكتف والدها بكل ما لدولته من بتوع ومخبرين تابعين لكل الأجهزة السيادية والأمنية، ولم يقنع بتأميم السياسة لتصبح ممارستها حكرا على من ينتمي إلى كيانات مشوهة تنشئها دولته لتراقب دولته، فقرر أن ينشئ "التنظيم الطليعي" الذي قام فيه بتجنيد خيرة كتاب مصر ومفكريها ومبدعيها وسياسييها، ليكون من أبرز مهامهم كتابة تقارير سرية عن كل "مظاهر الإنحراف التي تهدد مسيرة الثورة وعن كل أعدائها الداخليين المتعاونين مع الخارج"، ولم يجد إلا قلة نادرة ترفض التعاون معتذرة بكل أدب لأنها لا تصلح لهذه المهمة الوطنية الجسيمة، في حين وجد مئات آخرين يوافقون على التحول إلى كتبة تقارير سرية، دون أن يشعروا بأنهم ارتكبوا خطيئة تستوجب العار، فالإنسان حيوان مبرر بامتياز، ومسألة أن تقنع نفسك بأنك تكتب التقارير خدمة للوطن ليست مجهدة ولا تحتاج إلى أن يحرق المخ الكثير من السعرات الحرارية، وربما لذلك ظل ـ ولا زال ـ أغلب أعضاء هذا التنظيم يتصدرون الساحة السياسية في مصر، دون أن يشعروا بالعار أو حتى الحرج، فيقرروا اعتزال الحياة السياسية التي شاركوا في تأميمها وإفسادها.
للعلم، لم تكن التقارير التي يكتبها هؤلاء تقارير فكرية أو استشارية تكتب من باب مساعدة صانع القرار على إتخاذ قراره، كما ادعى الكثير من هؤلاء فيما بعد تبريرا لما شاركوا فيه، فقد كشفت الوثائق عن تقارير شخصية كان يتلقاها وزير الداخلية شعراوي جمعة ليتخذ في أغلبها إجراءاته الأمنية اللازمة على الفور بتنسيق كامل مع جمال عبدالناصر الذي كان يهتم بهذه التقارير جدا، نعم كان هناك من يكتب تقارير سياسية واقتصادية عامة يأمل بها أن تفيد الوطن، لكنه بالتأكيد رأى خلال اشتراكه في التنظيم كيف يتم استخدام تقارير كثيرة أخرى للتنكيل بكل من له رأي معارض أو مختلف، ومع ذلك فقد وافق على الاستمرار في ذلك التنظيم الإجرامي الذي كان سببا في رمي الكثيرين في السجون وقطع أرزاقهم وتشريدهم وتطفيشهم من البلاد.
ولكي لا نلجأ إلى الإستشهاد بما صار معلوما للجميع من قمع دموي للإخوان والشيوعيين والوفديين في تلك الفترة، دعونا نرى كيف كان خطر ذلك التنظيم أشمل وأوسع حتى على من لم يثبت انتماءهم السياسي لأي تنظيم من التنظيمات التي وصمت بتهمة العداء للثورة والقائد والوطن، ولنختر مثلا شهادة واحد من أنبل وأبرز علماء مصر، أستاذ الجيولوجيا الدكتور رشدي سعيد، الذي أتمنى إن لم تكن تعرفه أن تبحث في مكتبات دار الهلال عن إصداراته الرائعة وعلى رأسها كتابه الموسوعي عن نهر النيل ومذكراته الممتعة (رحلة عمر) التي يحكي فيها عن شعوره بخيبة الأمل عندما أدرك أن عبدالناصر وقيادات يوليو لم يكونوا راغبين في الحوار مع أساتذة الجامعات طبقا للمهمة التي كلفه عبدالناصر بها، وأنهم "لا يرغبون في الأخذ والعطاء مع المثقفين كما تصورت بل كانت غايتهم هي بناء تنظيم طليعي سري من بعض التابعين لهم من الأساتذة يمكن به إحكام القبضة على الجامعة... أما الحوار وبناء مصانع الأفكار فلم يكن واردا عندهم، وقد كانوا يحضرون اجتماعاتنا بين الحين والآخر من باب نقل ما يدور فيها من أفكار وقد سببت ملاحقة هذه العناصر لي أكبر الإزعاج وألجأتني ولأول مرة في حياتي إلى استخدام حبات الفاليوم المهدئة، فقد أصبحت منذ ذلك التاريخ تحت المراقبة المستمرة، وموضوعا للتقارير الكثيرة التي أوكلت كتابتها لمن جندوهم من موظفي مكتبي أو من بين أعضاء مجلس الشعب الذين كانوا يُلحقون لهذا الغرض بالوفود البرلمانية التي كنت دائم الإنتظام فيها".
ويصف الدكتور رشدي سعيد هذه التقارير التي أتيح له عن طريق بعض الساخطين على الأوضاع والمتعاطفين معه أن يطلع عليها بأنها "... تقارير لم تكن تكتب لكي تُقرأ بأي عين فاحصة بل إنها كانت تكتب بغرض إبلاغ المسئول عن رأي وانطباعات الأجهزة في المشكو في حقه، فكل التقارير وبلا استثناء مكتوبة بأسلوب متدن ضعيفة المبنى ليس للإستنتاجات فيها أية علاقات بالمقدمات التي بدأت بها كما أنها كانت مؤسسة على إشاعات غير موثقة"، ويتمنى الدكتور رشدي في كتابه ـ وقد كان دائما حسن النية ـ على المسئولين وقت صدور كتابه عام 2000 أن يتيحوا للمشتغلين بكتابة تاريخ مصر الإطلاع على هذه التقارير لبناء صورة مصر في تلك الفترة وفهم ما جرى لمصر بسببها.
لحسن الحظ، تحقق جزء كبير من أمنية الدكتور رشدي سعيد عندما قام أستاذ التاريخ الدكتور حمادة حسني في عام 2008 بنشر دراسة خطيرة مصحوبة بالوثائق التي حصل عليها من عدد من شهود المرحلة بعنوان (عبدالناصر والتنظيم الطليعي السري 1963 ـ 1971) وهو كتاب تواطأت أغلب وسائل الإعلام على تجاهله، برغم أهمية ما فيه، ربما لأن رموز ذلك التنظيم من كتبة التقارير كانوا وقت نشر الكتاب ملء السمع والبصر، أذكر أنني عندما أشرت إليه في إحدى حلقات برنامجي (عصير الكتب) طيب الله ثراه، مطالبا جميع من تورط في هذا التنظيم بالإعتذار العلني عن مشاركتهم فيه ورواية شهادتهم عليه، تلقيت لوما من بعض الكتاب الكبار لأنني أساعد على الإشارة إلى كتاب ينكأ جراحا لن يستفيد الوطن من فتحها، وأنني أتغافل عن أن كتابة التقارير من أجل الوطن كانت مرتبطة بخطورة المرحلة، وقد عشت وعاشوا حتى رأيت هؤلاء الأساتذة يباركون بالتهليل والتأييد وبالصمت أيضا عودة ملامح ذلك العصر القبيح ثانية بسبب "خطورة المرحلة"، ومن يدري فربما كانوا الآن عرّابين لتنظيم طليعي سري تتولى فيه أجيال مختلفة كتابة التقارير من أجل حماية الوطن من الأخطار والإرشاد عن أعداء الداخل المتآمرين مع الخارج، دون أن يكون لأخينا المبلغ عن جيرانه حظ الإنضمام إليهم حتى الآن.
ربما يكون أفضل ما نفعله لفهم طبيعة الخراب الذي أحدثه في مصر تشكيل ذلك التنظيم، هو أن نتأمل عناوين بعض التقارير السرية التي حصل عليها الدكتور حمادة حسني وأوردها في دراسته، لترى كيف نقوم بشكل مؤسف بإعادة تاريخنا بكل خطاياه دون أن نتعلم منه شيئا، متوقعين أن نصل إلى نتائج مختلفة لمجرد أننا غيرنا اسم الزعيم الملهم هذه المرة، تعالوا نقرأ العناوين سويا وسأترك لكم التعليق عليها:
ـ 25 يوليو 1965: مذكرة بخصوص كتابة شعار الإخوان المسلمين على بعض خطوط الأتوبيس خط 40 ورقمه 1963 نقل عام.
ـ 10 يوليو 1965: مذكرة عن بعض العائلات القبطية تقوم مساء كل ليلة بفتح جميع حنفيات المياه بمنازلهم.
ـ 31 مارس 1965: تقرير من العميد جمال هدايت بشأن شركة مصر الجديدة للإسكان والتعمير وتولي بعض المسيحيين مراكز قيادية هامة.
ـ 30 مايو 1965: مذكرة حول تزايد نشاط الإخوان المسلمين وإعادة تأسيسهم للأجهزة السرية.
ـ 22 مارس 1965: مذكرة بشأن قيام الأمير دعيج السلمان الصباح بتهريب نقد مصري. مقدمها محمد حسنين هيكل.
ــ 21 سبتمبر 1965: مذكرة عن الطلبة العرب المشكوك في انتمائهم للإخوان.
ـ 8 أكتوبر 1965: مذكرة حول جنازة مصطفى النحاس. مقدمة من ابراهيم الشهاوي.
ـ 18 أكتوبر 1965: تقرير حول ميول واتجاهات أساتذة جامعة القاهرة. مقدمه عثمان عزام.
ـ 13 يوليو 1965: مذكرة من محمد حسنين هيكل بشأن الشيوعي إدوارد يونان.
ـ 8 مايو 1965: مذكرة مقدمة من محمود أمين العالم حول بعض الندوات السياسية بين طلبة الجامعة والطلاب العرب.
ـ 15 سبتمبر 1965: مذكرة حول الاشتباه في عضوية بعض الطلاب للتنظيم السري للإخوان المسلمين.
ـ 17 ابريل 1966: مذكرة بخصوص ما حدث من سائق ومحصل الأتوبيس رقم 54 حول عدم تنكيس الإعلام لوفاة الرئيس عبدالسلام عارف. مقدمة من محمود الصفطاوي.
ـ 7 مايو 1966: تقرير من الدكتور جلال أمين (مجموعة خالد محيي الدين) بشأن سفره إلى لندن.
ـ 12 مايو 1966: تقرير الدكتور حسين كامل بهاء الدين عن نشاط معادي بدكرنس الدقهلية.
ـ 14 مايو 1966: مذكرة معلومات عن شخص يدعي حلمي غير مؤمن بالثورة وسبق تطهيره.
ـ 14 مايو 1966: مذكرة حول تعليمات كنسية للمسيحيين بعدم تنظيم الأسرة. مقدمة من أحمد كامل.
ـ 6 سبتمبر 1966: مذكرة عن أسرة يهودية.
ـ 15 أغسطس 1966: تقرير يقترح سحب الجنسية من مواطن مصري في ألمانيا الغربية.
ـ 7 سبتمبر 1966: تقرير عن نشاط إخواني في حلوان مقدم من عبدالغفار شكر.
ـ 11 يونيو 1965: تقرير حول الخلاف بين أحمد حمروش وأحمد بهاء الدين وانعكاس هذا على العمل في دار روز اليوسف.
ـ 10 أكتوبر 1966: تقرير من أحمد حمروش بشأن مقابلته مع فؤاد نصار.
ـ 13 فبراير 1966: مذكرة بخصوص الشك في وجود اثنين من الطلبة بكلية الهندسة في جامعة الإسكندرية من الإخوان المسلمين. مقدمة من سمير حمزة.
ـ 14 مارس 1966: تقرير عن نشاط بعض الشيوعيين الموجودين في شركة النصر لصناعة الخشب الحبيبي بالمنصورة.
ـ 16 مارس 1966: مذكرة مقدمة من جمال هدايت بشأن ما حدث في حادث انحراف بعض الفتيات من طالبات معهد التربية الرياضية للبنات.
ـ 19 مارس 1966: تقرير عن نشاط معاد يقوم به مدرس القاهرة للثانوية الميكانيكية.
ـ 25 يونيو 1966 تقرير حول إشاعات يرددها محمود وفيق شلبي المراجع بشركة بسكو مصر.
ـ 1 ابريل 1967: تقرير عن مجلس الكنائس العالمي والإنحرافات بجريدة وطني.
ـ 22 مايو 1967: مذكرة بحديث بين الدكتور رفعت المحجوب والدكتورة فوقية حسين.
ـ 26 يونيو 1966: مذكرة بخصوص انحراف علي كامل محمد راجي معادي للثورة والإشتراكية. مقدمة من فاروق راجي شقيق المذكور.
نكتفي بهذا القهر ونكمل الأسبوع القادم بإذن الله.
آن الأوان ترجعي يا دولة الجواسيس (الحلقة الثانية)
كيف يمكن أن ينتصر نظام يخاف من نكتة؟
سيقول السفهاء من أنصار الدولة الباطشة: وما هي المشكلة في أن يكتب المواطن فاروق راجي تقريرا في شقيقه علي، إذا كان ذلك بهدف الحفاظ على الدولة والثورة ومكتسبات الإشتراكية التي اتهمه بمعاداتها؟، وهل ستتأخر أنت في الإبلاغ عن أقرب الناس إليك إذا رأيته يتخابر مع أعداء الوطن؟، وما هي المشكلة في أن يكتب كل مواطن صالح سواءً كان مثقفا أو بسيطا تقارير سرية يرفعها إلى أعلى رأس في الدولة إذا كان ذلك بهدف الصالح العام؟
لا يدرك هؤلاء أن إيمانهم بهذا المنطق الذي اتخذه من قبلهم سبيلا لراحة الضمائر هو أكبر طريق نحو هدم الدولة ـ بفرض وجودها أصلا في حالتنا ـ فالدولة الحديثة لا تحتاج إلى أن يتحول كل مواطن إلى مخبر من أجل الحفاظ عليها، بل تمتلك من أجل حماية مواطنيها أجهزة أمنية مدربة وفعالة وكفئة، وفي نفس الوقت لا تترك هذه الأجهزة تسرح وتمرح على هواها، بل تكفل وجود آليات رقابية تقيّم أداءها وتطوره وتحاسبها على انحرافها وتقصيرها إن حدثا، أما الدول المتخلفة وإن اختبأت خلف قشرة الدولة الحديثة، فهي بزعم الحفاظ على الأمن تحول الأجهزة الأمنية إلى دولة داخل الدولة، ثم يتحول كل جهاز من هذه الأجهزة حسب قربه من قائد الدولة إلى دولة أكثر قوة أو بطشا، وتحت شعارات حماية الوطن من الأعداء والحفاظ على استقلاله ووحدته.
بالطبع تعمل كل هذه الأجهزة دون ضابط ولا رابط، فتخلق بين عموم المواطنين يقينا أن موقعك داخل الدولة يحدده رضا أجهزة الأمن عنك وعلاقتك الوثيقة بأي من مسئوليها أو منتسبيها، وهنا تتراجع أهمية الكفاءة والمعرفة والإجتهاد، لصالح العلاقات والوسايط والمحسوبيات، ولذلك لا يجد المواطن غضاضة في أن ينسى دوره الرئيسي في الموقع الذي يعمل فيه، ليلعب دور المخبر على من حوله أيا كانوا، دون أن يشعر بأدنى ذنب، لأنه يحمي الوطن، معتبرا أن ما يقدمه له الوطن من مكاسب وامتيازات لقاء هذا الدور، ليس سوى رد جميل له لكي يدفعه لتجويد عمله أكثر، ولأن هذا المواطن في البدء والمنتهى بشر له أخطاؤه وتحيزاته، ولأنه لا يوجد من يراقبه ولا يحاسبه، لا هو ولا المسئولون عنه في الأجهزة الأمنية، فإن مهمته الوطنية المفترضة تتحول غالبا إلى وسيلة لتصفية الحسابات وخلق التربيطات، لكن ذلك لا يلفت انتباه أحد من المسئولين عنه، لأن ما يهمهم أكثر هو أن يثبت ولاءه بالانتظام في تسليم التقارير، وكلما كانت هذه التقارير عن أقرب الناس إليه من أهل وزملاء وجيران وأصدقاء كلما أثبت ولاءه أكثر فتوجب ارضاءه أكثر.
ضع هذا كله في بالك ونحن نواصل تصفحنا لكتاب الدكتور حمادة حسني (عبدالناصر والتنظيم الطليعي السري) وتعال نتأمل المزيد من عناوين تقارير أعضاء التنظيم الطليعي السري التي كانت تصل إلى مكتب جمال عبدالناصر شخصيا، وضع نفسك مكان عبدالناصر وتخيل كيف يمكن أن يتصرف رئيس تصله تقارير من كبار مثقفي البلاد ومن مغموريها أيضا، عن كل شيئ يجري في البلاد مهما كان تافها، وعن كل شخص له نشاط من أي نوع سواءً كان مشهورا أو مغمورا، مواليا له أو معارضا أو محايدا مجهول الموقف، خذ عندك على سبيل المثال هذه التقارير التي تتركز في الفترة ما بين عامي 1965 وما قبل هزيمة خمسة يونيو 1967:
مذكرة حول نشاط أحمد سعيد مدير صوت العرب (كونه من أهم أصوات نظام عبدالناصر لم يمنعه من التجسس عليه) ـ مذكرة عن موضوع إشكال عبدالحليم حافظ مع أم كلثوم بخصوص حفلة 23 يوليو 1965 ـ مذكرة بشأن نشاط الإخوان بالدقهلية ـ مذكرة بشأن نشاط الإخوان بأسيوط ـ مذكرة بشأن نشاط الشيوعيين بالدقهلية ـ مذكرة حول سلوك مدكور أبو العز محافظ أسوان من حسين أبو الحسن جاد وسعد الدين محمد مدني عضوا التنظيم ـ مذكرة عن نشاط الإخوان في بعض قرى بني سويف ـ مذكرة عن نشاط المدرسين المصريين من الإخوان الموجودين في قطر ـ مذكرة من محمود العالم عن الهتاف العدائي لمرضى مستشفى الصدر بالجيزة ـ مذكرة معلومات عن جماعة الخروج في سبيل الله تنتمي إلى جماعة الإخوان مقدمة من محمود سامي العفيفي ـ مذكرة عن برنامج مواجهة الإخوان في الجامعة ـ مذكرة مقدمة من إبراهيم الشهاوي حول تصرفات مصطفى البرادعي نقيب المحامين إزاء موضوع الإخوان المسلمين (بالمناسبة هو والد الدكتور محمد البرادعي فتأمل سخرية القدر) ـ تقرير عن أسماء بعض الإخوان المسلمين من نابلس وتأشيرة السيد الرئيس لسامي شرف "كل من يثبت أنه من الإخوان يرحّل" ـ مذكرة حول قصة نجيب محفوظ "ثرثرة فوق النيل" ـ مذكرة عن أحد الأفراد يقوم بجمع تبرعات لأسر المعتقلين.
في نفس الفترة ستجد تقارير أخرى عن: محاولة مريبة لتنظيم في الإسكندرية ـ تقرير حول مسرحية "الفتى مهران" ـ مذكرة من أدهم جمال هدايت بشأن إيفاد طلبة مغتربين إلى أمريكا للدراسة في المدارس الأمريكية ـ تقرير علي الراعي حول مسرحية "الشبعانين" ـ تقرير مقدم من صلاح زكي وميشيل كامل وراجي عنايت وسعد كامل وصلاح حافظ (مجموعة أحمد فؤاد) بشأن تعيين جلال الحمامصي مشرفا عاما على التحرير بأخبار اليوم ـ رسالة واردة من مواطن يزعم فيها أن الإنتهازيين والمنحرفين يسيرون دفة الأمور في الأمانة العامة للإتحاد الإشتراكي (لم يتم اتخاذ أي اجراء بخصوصها والله أعلم ماذا حدث للمواطن نفسه) ـ معلومات عن العناصر الشيوعية الموجودة بمصانع الغزل والنسيج ـ تقرير من المخابرات العامة بشأن قيام علام محمود علام بالتخلص من أرضه الزراعية ـ تقرير مقدم من الدكتور توفيق حسين عن محادثة تليفونية بينه وبين الدكتور محمد حنفي الدين أبو العز (تخيل معي أستاذا جامعيا ينهي مكالمة ليقوم بكتابة تقرير عنها) ـ تقرير مقدم من جمال بدوي عن اتصالات حول تشكيل شيوعي ـ تقرير عن تصرفات المهندس أحمد محرم ـ مذكرة حول ما يتردد عن عبدالحميد غازي مقدمه محمد عبدالغفار ـ مذكرة عن مسرحية "بير السلم" ـ مذكرة بما يدور بين الرأي العام عن شراء زكريا محيي الدين نجف بألف وسبعمائة جنيه ـ معلومات من أفراد يعملون بمصنع صباغة الخيوط بالوايلي (موقع خطير للغاية كما تعلم!) ـ تقرير حول تعليمات كنسية للمسيحيين بعدم تنظيم الأسرة مقدمه أحمد كامل ـ تقرير من جمال بدوي عن تصرفات رأسمالية مريبة ـ تقرير من جمال بدوي عن الإقطاع بقرية القشيش مركز شبين القناطر.
في موضع آخر ستجد تقريرا يحمل عنوان (تقرير عن نكتة وتعليقات تمس النظام)، لاحظ هنا أن عبدالناصر لم يكن يتعامل بأريحية مع النكت التي تقال عنه والتي كان يجمعها له جواسيس تنظيمه السري، فهو الرئيس المصري الوحيد الذي خرج علنا في خطاب ليهاجم النكت التي يطلقها المصريون على نظامه، فضلا عن انتقاده حتى للكاريكاتيرات الإجتماعية التي كان يرسمها الفنان العظيم حجازي في مجلة (صباح الخير)، لاحظ أن عنوان التقرير يعتبر أن هناك (نكتة وتعليقات) يمكن أن تمس النظام، وربما لو تأملت هذا المعنى لأدركت لماذا توجد تقارير تتحدث عن أشخاص عاديين لا يبدو لنا الآن أنه كان لهم دور سياسي خطير تذكره كتب التاريخ مثلا، لأن الفكرة هنا لم تكن وجود خطورة للشخص من عدمه، بل ضرورة مراقبته سواءً كان مواليا أم معارضا لتكتمل السيطرة على البلاد، لذلك تجد في عناوين التقارير ما يأتي: تقرير بخصوص الصحفي محمد جلال كشك ـ تقرير من كمال الحناوي عن ممتلكات كمال رشاق ـ تقرير من الطالب حازم حسين عن منظمة الشباب بأسيوط ـ مذكرة من عبدالغفار شكر عن محاولات التهريب للأراضي الزراعية ـ تقرير إلى شمس بدران بشأن العاملين بالقوات المسلحة من عائلة التلاوي والفقي ـ تقرير إلى حسن طلعت بشأن صلة السيدة مفيدة يوسف الفقي بعائلة الفقي من عدمه ـ تقرير عن سلوك محمد كمال الدين دسوقي ملاحظ مباني بإدارة الأشغال وانحراف اتجاهاته السياسية إخوان مسلمين ـ مذكرة معلومات حول ما يجري في مدرسة السنية الثانوية عن نشاط سياسي مريب إخوان مسلمين ـ تقرير من صلاح حافظ حول تقرير للدكتور عبدالقادر حاتم ـ تقرير إلى شعراوي جمعة بشأن كشوف أسماء معادية من موظفي الدولة والقطاع العام مطلوب فصلهم واعتقالهم ـ تقرير عن الدكتورة فوقية حسن محمود ـ تقرير مقدم ضد الدكتور محمود عبده بمؤسسة الدواجن بأسيوط ـ مذكرة من جمال هدايت بشأن انحرافات فكري فرج الأخصائي الاجتماعي بمدرسة إسماعيل القباني الثانوية ـ تقرير عن التنظيم السري الجديد للإخوان المسلمين بمركز منوف ـ تقرير عن نشاط للتنظيم الشيوعي بمركز بيلا كفر الشيخ ـ تقرير بشأن نشاط شيوعي بكلية الحقوق بالإسكندرية ـ تقرير عن تصرفات حمزة الشبراويشي صاحب شركة الشبراويشي ـ تقرير عن مجلس الكنائس العالمي والإنحرافات بجريدة وطني ـ تقرير بشأن أعضاء التنظيم الطليعي الذين تم إيفادهم للحج سنة 1967.
ضع نفسك مكان قائد البلاد وأنت ترى المئات من هذه التقارير تتدفق عليك كل يوم من رجال اخترتهم بنفسك ومنحتهم كافة الصلاحيات لكي يكونوا هم عيونك وآذانك التي ترسم حركة أذرعك الباطشة وقبضتك الساحقة، ألن تشعر عندها بالرضا عن النفس لأنك تقود دولة قوية عفية لا يتسرب إليها الوهن أبدا، هل يمكن أن يخطر على بالك في ظل لحظة انتشاء كهذه أن تلك الشبكة التي قمت بتشكيلها للسيطرة على الدولة ليست سوى شبكة عنكبوتية تصطاد الضعفاء وعاثري الحظ، لكنها ستنهار على الفور إن هوت عليها يد ثقيلة؟، وهو ما حدث للأسف الشديد عندما اجتاحت اسرائيل سماء مصر وأرضها، لتسقط كل الأكاذيب التي عاش عليها المصريون طيلة عقدين من الزمان، فيكتشفوا أن البلد لم تكن مؤمنة من الأعداء الذين امتلأت سجونها بهم حتى الثمالة، لكن هل أدرك جمال عبدالناصر بعد تلك الهزيمة المريرة أخطاء دولته الأمنية المدعومة بتنظيمه الطليعي السري؟، هل قام بتغيير طريقته في التعامل مع الواقع المهترئ الذي أنتجه؟، للأسف لم يحدث ذلك أبدا، ودعونا لكي نحكم على ذلك نواصل قراءة عناوين بعض الوثائق التي رصدها الدكتور حمادة حسني في كتابه (عبدالناصر والتنظيم الطليعي السري) مركزين على الفترة التي أعقبت الهزيمة مباشرة:
ـ 13 يونيو 1967 : تقرير إلى سامي شرف حول ما يتردد في الأوساط الصحفية (لاحظ أن من كتبوا التقرير ليسوا جهازا أمنيا بل صحفيون يتجسسون على بعضهم).
ـ مذكرة معلومات بتاريخ 18 يونيو 1967 عن اعتقال بعض الشيوعيين بالجهاز المركزي للمحاسبات (كأن الشيوعيين كانوا سبب وقوع النكسة وليس عبدالناصر وقادته الذين سلم لهم حبل البلاد على الغارب).
ـ 29 يونيو 1967: تقارير حاتم صادق ـ زوج ابنة عبدالناصر ـ عن الدكتور حسين كامل بهاء الدين.
ـ 11 يوليو 1967: تقرير عن مصطفى كامل مراد عضو مجلس الأمة.
ـ 24 يوليو 1967: تقرير من الدكتورة فوقية حسين لسامي شرف حول زيارات سيدات القاهرة.
ـ 26 يوليو 1967: معلومات عن ضابط الجيش من محمود أمين العالم.
ـ 13 سبتمبر 1967: مذكرة بمعلومات من محمود العالم عن أخبار اليوم.
ـ 12 فبراير 1968: تقرير من نبيل نجم بخصوص محمد عامر زهار.
ـ 6 مارس 1968: تقرير عن ترشيحات شرق القاهرة وسجل عن بعضهم بأن لهم نشاط شيوعي وإخواني ومعزولين.
ـ 23 مارس 1968: مذكرة حول تعيين محمود أمين العالم رئيسا لمجلس إدارة أخبار اليوم.
ـ 26 مارس 1968: تقرير عن النشاط الطلابي في كلية العلوم بجامعة القاهرة.
ـ 29 مارس 1968: تقرير عن الدكتور ممدوح الموصلي.
ـ 16 مايو 1968: محضر اجتماعات مجموعة عبدالله إمام.
ـ 19 مايو 1968: تقرير معلومات عن كسر سرية التنظيم بشركة مصر للمستحضرات الطبية.
ـ 16 يناير 1969: تقرير من الصحفي سامي داود عن البرنامج التليفزيوني الكاميرا إدراك.
ـ 28 يناير 1969: تقرير عن اتصال السيد أنور السادات بمحمود أمين العالم وإبلاغه استلام إحسان عبدالقدوس للعمل في أخبار اليوم.
ـ 11 مايو 1969: تقرير مقدم من محمود أمين العالم فيه معلومات متفرقة.
ـ 15 سبتمبر 1969: مذكرة بمعلومات عن إعفاء محمود العالم من أخبار اليوم.
نكتفي بهذا القهر ونكمل في الأسبوع القادم بإذن الله بعيدا عن استعراض عناوين باقي التقارير لنستطلع بعض تفاصيلها المفزعة، ونرى أيضا كيف أسهمت عقلية تحويل المواطنين إلى جواسيس في تخريب السلطة القضائية بشكل لم تنج منه مصر أبدا حتى الآن.