ألقى السفير التركي حسين بوتسالي نظرة وداع على مقره في قلب العاصمة المصرية قبل أن يحمل أمتعته في رحلة عودة مفتوحة قد تحمل العلاقات التركية - المصرية إلى أبعد مما كان يتصور. لكن الدبلوماسي المحنك لم يدل بأي تصريحات للصحافيين عقب وصوله اسطنبول مساء الأربعاء، على أمل أن يذوب الجليد بين السفارتين يوما، وتفتح العاصمتان حدودهما المستنفرة.
لكن المتابعين لتصريحات رجب طيب أردوغان يدركون جيدا أن الباب الذي صفقه خلفه لن يعود ليفتح إلا بعد تغيرات إقليمية جذرية في إحدى العاصمتين أو كلتيهما. هذا، وتتجه أنظار المراقبين حاليا نحو بوابات السفارة القطرية، اعتقادا تسبقه عشرات البراهين بأن السفير القطري منهمك في حزم أمتعته الثقيلة في انتظار تأشيرة الرحيل. لكن أحدا من المتابعين لماراثون الرحيل القسري لا يقف على أعتاب سفارة جنوب إفريقيا ليلقي تحية وداع على رجل يترقب التاريخ قرع نعليه فوق صالات كبار الزوار بين عشية خلاف وضحاها. الشئون الداخلية للبلاد كالأسلاك الشائكة سواء بسواء، ولا يجوز عبورها طبقا للأعراف الدبلوماسية إلا بعد الحصول على تصريح مشورة، لكن الأوضاع الداخلية غير المستقرة بمصر شجعت بعض أولي الإربة من دول الجوار على التدخل المستفز في شئوننا الخاصة، ولو توافق إخوة كرامازوف على الخروج الآمن لوطن كان كبيرا بحجم الجغرافيا لما وجد المتربصون بأسلاكنا الصدأة مدخلا لأحذيتهم الرخيصة، لكن هذا بالفعل ما حدث. أدان الطيب أردوغان الطريقة المهينة التي اقتيد بها الرئيس المصري المعزول إلى قاعة المحكمة وقال متجاوزا كل أعراف الدبلوماسية اللبقة أنه لا يكن أي احترام لمن اقتادوا مرسي إلى قاعة المحكمة، فكان تصريحه بمثابة القشة التي قصمت ظهر العلاقات بين البلدين. أما قطر التي تحولت من نقطة مبهمة في محيط العرب الكبير إلى علامة تعجب مدهشة بفضل قنواتها المتناثرة فوق خطوط الطول وخطوط العرض، فقد ربطت وجودها في مصر بقدم جماعة الإخوان المصرية، مما يجعل وجودها بعد رحيل الدكتور محمد مرسي أمرا مستغربا. أما جنوب إفريقيا، فكانت أشد دول القارة السوداء تحيزا ضد حكومة مصر المؤقتة، إذ لم تتردد كمثيلاتها اللواتي اكتفين بقرار الاتحاد الإفريقي بتجميد عضوية مصر إلى أجل غير مسمى، بل سارعت إلى وصف ما حدث في مصر بالانقلاب على الشرعية والإطاحة برئيسها المنتخب، وهو ما أدى إلى إحداث أزمة دبلوماسية كبيرة بين القطرين الكبيرين. لكن التصريحات الجنوب إفريقية التي تلت فض اعتصامي رابعة والنهضة والعبارات المناهضة لاستخدام القوة "المفرط" والتعامل مع المتظاهرين "السلميين" بالعنف، ذهب بالعلاقات الباردة أصلا بين البلدين إلى مرحلة الموت السريري. ولم تفلح الدبلوماسية المصرية في إصلاح ما أفسدت الدماء، وأسهمت تصريحات الدبلوماسيين المستفزة في انهيار أخر قلاع التفاهم بين البلدين غير الشقيقين.ففي غمرة غضب مفتعلة، قرر السفير المصري بدر عبد العاطي أن يلقي قفاز الدبلوماسية في وجه منتقدي سياسات حكومته الانتقالية، فعقد مقارنة مؤسفة بين ما حدث للمتظاهرين من الإخوان في رابعة والنهضة وما حدث لعمال مناجم الفتح في ماريكانا. وهكذا ذهبت الدبلوماسية إلى حيث ألقت رحلها السياسة المصرية المتأزمة. أما مأساة ماريكانا والتي لم يشهد لها القرن الجنوب إفريقي منذ ستينات القرن العشرين مثيلا، فكانت مجزرة أدمية راح ضحيتها 44 رجلا أغلبهم من عمال المناجم التابعين لشركة لونمين في منطقة ماريكانا على حدود روستنبرج. وقد خلفت تلك المأساة 78 إصابة بين عمال الفحم المعتصمين. وقد شهدت جنوب إفريقيا على إثر تلك المجزرة نوبة من الاحتجاجات غير المسبوقة في تاريخها الحديث. لم يدرك السيد بدر عبد العاطي وهو يعقد تلك المقارنة السخيفة أن الدماء لا تبرر بالدماء، وأن قتل عمال المناجم السلميين في جنوب إفريقيا لا يبرر قتل المعتصمين السلميين في رابعة أو النهضة أو أي مكان في بلاد ما وراء المنطق. كما يعد رده الحاسم اعترافا ضمنيا من أحد سفراء الحكومة المؤقتة بأن الاعتداء قد وقع بالفعل وأن ما تعرض له إخوان رابعة والنهضة يتشابه إلى حد التطابق مع ما حدث أثناء فض اعتصام المناجم في ماريكانا من انتهاكات. وهو اعتراف يبرر ما أراد السفير المفوض نفيه، وما أرادت الدبلوماسية الجنوب إفريقية أن تصل إليه من إقرار. التصريحات المتخبطة واللغة غير الدبلوماسية سمة المرحلة إذن، والانفعال غير المبرر وغير الأخلاقي يجعل الدبلوماسية المصرية تتفوق على أوضاعنا الداخلية المرتبكة والمتأزمة. صحيح أننا نرفض تدخل المراقبين خلف الحدود لما يحدث داخل البيت المصري من خلافات، ولا نجد مبررا لتصريحات رعناء تصدر من هنا أو هناك لتشجع طرفا على طرف أو تنصر فصيلا على فصيل، إلا أننا لا ينبغي أن نسكت على تصريحات من يتحدثون باسمنا ويسيئون إلى دبلوماسيتنا العريقة بانفعالاتهم الرعناء.
* أديب مصري مقيم بالإمارات Shaer129@me.com