محمد عبد الحكم دياب
2012-02-25
خلطت ثورة 25 يناير شعارات التحررية (الاليبرالية) بالاشتراكية.. وبدا أن هذا أحد أسباب ارتباكها وتعثرها، فالتحررية (الليبرلية) وهي تعطي الأولوية للحريات السياسية والقانونية والإنسانية للأفراد، جعلتها على حساب العدل الاجتماعي المفتقد حتى الآن في أدبيات الثورة.
والاشتراكية وهي تعني حقوقا اجتماعية في العمل والتعليم والسكن والصحة والرعاية في البطالة والعجز والشيخوخة، وتعتمد نمطا جماعيا للعمل والانتاج، تغلب عليه الملكية العامة. فمن وجهة نظرنا أن مصر في حاجة إلى الاثنين معا، ولا يغني أحدهما عن الآخر.
بدت الشعارات متناقضة، فالتحررية (الليبرالية) نتاج تجربة تاريخية لثورات غربية؛ كانت الثورة الفرنسية أهم تجلياتها وأكثرها تأثيرا، ومن رحمها خرج النظام السياسي الاجتماعي الذي يعلي من شأن الفرد، وبلورت اقتصاد السوق وحرية التجارة والرأسمالية، ونمت معها الظاهرة الاستعمارية، وبعد عقود قليلة عمت الليبرالية أوروبا وامتدت إلى خارجها تحت سنابك الجيوش الغازية؛ العابرة للبحار والمحيطات، وبأسلوب القهر والاحتلال، ولما تمكنت من السيطرة صارت لها الغلبة على أغلب بقاع العالم. وحققت انتصاراتها وفتوحاتها، بما توفر لها من إمكانيات وقوات عسكرية ووفرة اقتصادية هائلة. ومع ذلك كانت الثورة الفرنسية قد شدت أنظار العالم بشعاراتها في 'الحرية والإخاء والمساواة'، ومعنى هذا أن التحررية (الليبرالية) لم تخل من النواقص، ولم تكن مبرأة من القصور والمثالب.
اعتمدت التحررية (الليبرالية) في مجالات السياسة والتشريع والحكم على التعدد الحزبي، وتنوع الآراء والاجتهادات، وعلى حرية الرأي والعقيدة وتداول الحكم وتغيير السلطة بطريق الاقتراع السري المباشر، المتاح للمواطنين بمختلف اتجاهاتهم؛ في اليمين والوسط واليسار، وما زال ليبراليو الثورة على دين الأباء المؤسسين لمذهبهم، من حيث العلاقة بين ما هو مسموح على مستوى السياسة، وما هو غير مسموح على مستوى الاقتصاد. فتداول الحكم وتغيير السلطة مسموح به سياسيا، أما التغيير الاقتصادي فغير مسموح به مطلقا، وقد يكون ذلك هو سر تثبيت الأوضاع الاقتصادية رغم قيام الثورة منذ أكثر من عام.
وفي حالة الضرورة هناك إمكانية لتدخل الدولة في مجالات السياسة، أما تدخلها في الاقتصاد فيقتصر على ضبط السوق ودعم القطاع الخاص وحده، والتغطية على استغلاله وعلى إفرازاته الاحتكارية، والحد من الإنتاج الجماعي والعام. وما زال ذلك أساس تعامل الهيئات والمؤسسات الاقتصادية والمالية الغربية والدولية مع الدول النامية، ومن لا يقبل يعد مارقا يواجه بالحصار ويتعرض للعقاب. وتدخل الدولة محسوب وهدفه التغطية على وطأة الاستغلال والاحتكار وليس القضاء عليه، وذلك لتفادي الاضطرابات والثورة. والنظام التحرري (الليبرالي) أساس لرفض الثورة والاستعاضة عن ذلك ببرامج الإصلاح المتدرج، فالثورة تهديد لانتصاراته التي تحققت بقوة الحديد والنار وبقوة ضغط وضبط عالية كي لا تفلت الأمور.
من هنا نشأ تضاد التحررية (الليبرالية) مع الاستقلال الوطني خارج نطاق الإمبراطوريات المؤسِّسة، ومع أي توجه للخروج من فوضى وعشوائية الاقتصاد، وأضحت التبعية الأساس الذي يحكم علاقة تلك الإمبراطوريات بغيرها من البلدان الأخرى، وأساس التعامل مع اتساع السوق العالمي وتضخمه، وإرغام من يبقى خارجه على الانضمام إليه عنوة، وطبيعي أن تنبت على جنبات التحررية (الليبرالية) نظم نازية وعنصرية وعسكرية شديدة الوطأة؛ ظهرت في المانيا النازية وإيطاليا الفاشية واليابان العسكرية واسبانيا (فرانكو) الديكتاتورية، وهزمت جميعها في الحرب العالمية الثانية، باستثناء اسبانيا التي كانت في حرب أهلية، وكان الغرب في حاجة إلى حسم معركتها مع الشيوعيين.
عجزت التحررية (الليبرالية) عن حل التناقض الملازم لها؛ بين الحريات السياسية والقانونية، وبين معاناة الطبقات المنتجة؛ رقيقة الحال والفقيرة، ولم تستطع تضييق الفجوة المتسعة بين من يملكون ومن لا يملكون، ولم تعالج الظلم الاجتماعي والاقتصادي والإنساني الواقع على كاهل المواطنين، ولم تتوقف عن إشعال الحروب واحتلال أراضي الغير، وتقسيم الشعوب وتفتيت البلدان، ولا تتنازل إلا مرغمة لتلبية مطالب معيشية محدودة للفقراء ومحدودي الدخل.
وثورة 25 يناير مثلها مثل باقي الثورات العربية سعت وضحت واستشهد شبابها من أجل الحريات السياسية والتخلص من الاستبداد والمستبدين والفساد والمفسدين، وألحت على تأكيد الكرامة الإنسانية لمواطنيها، وإن كان ذلك واضحا ومحددا في شعاراتها وطلباتها، ومع ذلك لم تستطع فتح باب العدل الاجتماعي بعد؛ في تجاهل واضح لشعار الخبز والعدالة الاجتماعية المرفوع منذ يوم الثورة الأول، ومر أكثر من عام ولا يبدو أن هناك حلا منفصلا عن عشوائية السوق وقبضة الاحتكارات وقيود التبعية، والسبب يكمن في استسهال التقليد والنقل، وغياب الرؤية والخيال الوطني؛ في مواجهة هذا التناقض ولحل معادلته الصعبة. وما بين السياسة والاقتصاد ما زالت الثورة المصرية في حيرة من أمرها؛ تراوح مكانها وتدور حول نفسها.
خففت التحررية (الليبرالية) في أوروبا - أثناء الحرب الباردة - من حدة ذلك التناقض، وعملت على تصديره إلى خارجها، وسنحت الفرصة للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية للوصول للحكم، فحققت مكاسب اجتماعية ملموسة.
وبعد أن وضعت الحرب الباردة أوزارها باختفاء الاتحاد السوفييتي، وتفكيك منظومة أوروبا الشرقية اتحدت أوروبا، وألغت الحدود الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بين بلدانها، فعادت التحررية (الليبرالية) الغربية إلى سيرتها الأولى؛ شرسة وعدوانية؛ لا تتوانى عن إخضاع البلدان المستقلة، ولا ترحم الطبقات والقوى المنتجة محدودة الدخل، واستأنفت حروبها ومواجهتها العدوانية والتوسعية من جديد لتعيد سيطرتها وإحكام قبضتها على العالم.
والحرب الباردة حققت توازنا استراتيجيا بفضل توازن الرعب النووي، فحوصرت الصراعات والحروب في نطاق ومدى الأسلحة التقليدية، وساعد ذلك على انتصار حركات التحرير الوطني، وأخرج الكثير من البلدان من تحت الهيمنة الغربية.
وإذا كانت أوروبا قد خففت من وطأة ذلك التناقض عن طريق الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية؛ فقد استمر رفضها للثورة ولأعمال المقاومة وللكفاح المسلح، واعتبرتها من أعمال الإرهاب والعنف المجرّم، مع أن الثورة وأعمال المقاومة والعمل المسلح كانت صاحبة الفضل في قيام المنظومة الغربية، ووحدتها اقتصاديا على قوانين السوق، وسياسيا فقد شهدت تلك الفترة نهجا واقعيا للحكم، مع كل ما فيه من تناقض بين عشوائية السوق وضوابط السياسة وسيادة القانون ودولة المؤسسات.
وحديثا بدأت الأنظار تتجه إلى آسيا وتجاربها الاقتصادية والسياسية الموزعة بين عملاقها الاقتصادي الاشتراكي الراهن وهو الصين، والقوة الاقتصادية (الليبرالية) الصاعدة في الهند، ولحق بهما مارد كان نائما في روسيا الاتحادية، بطبيعتها الأوروبية الآسيوية (أوروآسيوية) فمدت جسورها مرة أخرى إلى محيطها العربي والإسلامي، وعبر الشرق في اتجاه الصين، وأسقطت خلافها التاريخي معها، وهو خلاف لعب عليه الغرب في إنهاك الاتحاد السوفييتي، وهذه المستجدات انتهت بممارسة حق النقض (الفيتو) المزدوج؛ من الصين وروسيا الاتحادية معا ضد المشروع العربي/ الغربي بشأن سورية، وهو تحول يعيد صياغة العلاقات الدولية على توازن جديد للقوى لن يكون الغرب فيه هو اللاعب الوحيد.
والنظام التحرري (الليبرالي) الغربي لا يستسلم بسهولة، ومع رفضه للثورة لكنه اضطر للجوء إليها سعيا لتطهير أوروبا من بقايا الاشتراكية والشيوعية؛ وصاغ لنفسه ولمصالحه مسارا من نوع مختلف؛ يعتمد ما عرف بـ'الثورات الملونة'، بشر بها عملاؤه ورجاله في أرجاء أوروبا الوسطى والشرقية، وداخل الحزام المحيط بروسيا وعلى حدود الصين، وهي في حقيقتها ثورات مضادة؛ مولتها مؤسسات الغرب المالية والمخابراتية والعسكرية؛ وامتداداتها الخليجية وعمقها الصهيوني، وبها استكمل سيطرته على كامل أوروبا، واستأنف زحفه من جديد إلى أجزاء أخرى من العالم.
والثورات الملونة حصيلة نشاط سري وحرب نفسية مستمرة ضد شعوب وقوى بعينها. وبمعنى آخر فإن التحررية (الليبرالية)، التي اتخذت موقف العداء من الثورات الحقيقية لونت الثورات واستأجرت الثوار، ولعبت الاحتكارات والأجهزة السرية دورا واضحا في استنساخ فلسفتها من فكر المحافظين الجدد والمسيحية الصهيونية.
ولم تمنع الثورات الملونة المارد النائم فى المنطقة العربية وإقليم الشرق الأوسط من اليقظة، ولم يكن في حسبانها أنه سيخرج من قمقمه، وأسقط في يدها، وباغتتها ثورتا تونس ومصر واسقطتا رأسي الحكم فيهما، وفجأة تتهدد المصالح الأجنبية من اشتعال الثورات العربية، فألقى الآباء المؤسسون بكل ثقلهم لإيقاف ذلك المد والقضاء عليه في مهده؛ مراهنين على انحرافها والميل نحو طريق الثورات الملونة، بعيدا عن الثورة الحقيقية.
ونشط الليبراليون على أكثر من جبهة. بدأوا بتكثيف الحرب النفسية وتركيزها على غرس ثقافة التقسيم والتفتيت بين مكونات البلدان الثائرة، والتلويح بالتدخل المباشر، كما حدث في ليبيا عن طريق حلف الأطلسي، وفي اليمن بالمبادرة الخليجية، وفي سورية بالحرب الأهلية والتدويل، والعمل على تحويل الشعب الواحد إلى أقليات؛ منقسمة متحاربة، وتصفية الثورة بالاختراق والتواطؤ، وتخريبها من الداخل، وعقد صفقات تبقي على الحكم القديم؛ ضمانا لمصالح الغرب وحماية لأمن الدولة الصهيونية وحفظا لمصادر الطاقة؛ المهددة حاليا أكثر من أي وقت مضى.
وعلى جبهة ثانية يتم العمل على إضعاف البلدان الثائرة وحصارها وخنقها اقتصاديا وإغراقها في بحر من القروض المشروطة، لتبقى على ما كانت عليه. وعلى الجبهة الأخيرة تنشط قوى سياسية ودينية لتحويل الدولة الثائرة إلى كيان أشبه بالجمعية الأهلية، التي تعتمد على الصدقات وتبرعات الأغنياء والأجانب، كطريق بدائي يواجه المشاكل والأزمات العاجلة والملحة، فتزداد الدولة ضعفا على ضعفها، وتسلم قيادها لزحف 'المحسنين'، و'أهل البر' الخليجيين، تعاونهم جيوش من المطوعين والبلطجية ومفجري 'الفوضى الخلاقة'، ومهمتهم فتح مصر من جديد.
ومنطق العمل الأهلي كبديل لدور الدولة شاع في مصر الآن، ويتصور مسؤولوها السياسيون وقادتها العسكريون ورجال الإفتاء والأزهر والسلفيون أن 'الشحاتة هي الحل' وبديل المعونة الأمريكية، كما رأى الشيخ محمد حسان هو تبرع الأغنياء، بعيدا عن استغلال موارد البلاد واسترداد ثرواتها المنهوبة.
وازدحمت إعلانات التلفزيون والصحف بنشر أرقام حسابات التبرع بالمصارف؛ سيرا على نهج سوزان ثابت (مبارك)، ومشيا على درب جمعية 'مصر الخير' التي يتولاها مفتي الديار، أو على طريقة أحمد زويل في بناء جامعته وتأسيسها، وأستغرب أنه لم يسأل نفسه هل جمعت له الدولة الصهيونية تبرعات تغطي بها نفقاته وتكلفة مشاركته في تطوير صواريخها وأسلحتها العسكرية الفتاكة؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق