23 فبراير 2012

صراع العسكري والأمريكان.. ومسرحية 'الخداع الاستراتيجي'

محمود عبد الرحيم'


2012-02-21
هل نحن إزاء صراع إرادات حقيقي بين المجلس العسكري وواشنطن على غرار ما فعل ناصر مع الأمريكان إبان أزمة تمويل السد العالي؟، وهل ثمة تحول في السياسة الخارجية ما بعد خلع الديكتاتور العجوز مبارك، بإتجاه الخروج من حقبة التبعية الأمريكية الصهيونية التي دشنها غير المغفور له السادات وورثها مبارك؟، أم أننا نعيش فصلا جديدا في مسرحية 'الخداع الاستراتيجي' التي يعمل عليها جنرالات مبارك منذ استلموا السلطة منه بذات المنطق العسكري المعروف بمراسم'تسليم وتسلم القيادة' بشكل هادئ وسلمي، فيه تقدير جلي لكبيرهم، وحماية له و لميراثه الذي عنوانه العريض الفساد والاستبداد والتبعية، مع إدعاء حماية الثورة، ثم المشاركة فيها، وصولا إلى إعتبار أنفسهم 'الثورة'، ومعارضيهم من الثوار 'الثورة المضادة'؟
فمن السذاجة النظر إلى فتح ملف ما يعرف بـ'التمويل الأجنبي للجمعيات الأهلية ' أو'الاتهامات الموجهة لمنظمات العمل الأهلي، بالعمل على زعزعة الاستقرار ومخطط تقسيم البلاد بتوجيه خارجي'، بالترافق مع إثارة ملف 'المعونة الأمريكية'، بذات المنظور الذي يجرى الترويج له من قبل المجلس العسكري ذاته، وأدوات دعايته الموجهة، دون ربط إثارة هذه القضية في هذا التوقيت بالسياق السياسي العام، والآليات التى ينتهجها الجنرالات منذ ورثوا السلطة عن مبارك التى تتكأ على التضليل والخداع وخلط الأوراق، والمندرجة تحت أدوات الحرب النفسية، فضلا عن عامل حركة الشارع الثورية التى يقودها الشباب ذات الوتيرة المتصاعدة منذ حلول الذكرى الأولى لثورة يناير الشعبية، المطالبة برحيل فوري للعسكر.
نعم، كثير من مؤسسات العمل الأهلي في مصر لا تعدو كونها 'دكاكين' تدر ربحا وفيرا ماديا ومعنويا على أصحابها، وتتماهى في عملها مع الأجندة الغربية، من حيث المنظور للقضايا المثارة والأولويات، لكن من المبالغة القول إنها تدير مخططات لهدم الدولة أو تقسيمها أو أن منتسبيها عملاء وخونة، أو أنهم يعملون في الظلام، خاصة أن نشاط هذه المؤسسات في الأساس ذو طابع دعائي، وله حضور واضح في وسائل الإعلام، بل أن كثير ممن يعملون في هذا المجال يقومون بأنشطة يتم التنسيق فيها مع جهات حكومية بل وأمنية، و يتم دعوة شخصيات رسمية لحضور ندواتها ومؤتمراتها، وبعض كوادر هذه المؤسسات أعضاء في فعاليات شبه رسمية كالمجلس القومي لحقوق الإنسان أو المجلس القومي للمرأة.
حتى المؤسسات الأجنبية كانت تعمل لسنوات طويلة تحت أعين السلطات دون تحرك لوقف نشاطها.. فما الذي جد لإطلاق هذه الحملة؟.
ولو كان ثمة جدية.. لماذا لم يتم فتح ملف كل مؤسسات العمل الأهلي، بما في ذلك الجمعيات ذات التوجه الديني التابعة للاخوان أو السلفيين (حلفاء المجلس العسكري)، وملف التمويل الخليجي الذي يتجاوزأضعاف أضعاف التمويل الغربي؟!.
وإن كان ثمة صراع على أرضية استقلال القرار الوطني، فما هي أماراته؟
وجولات الحوار والتنسيق لم تنقطع مع القيادة الأمريكية العسكرية والمدنية، بل ازدادت وتيرتها.
وإذا كان المجلس العسكري قد فشل في أول اختبار للتحدي مع الكيان الصهيوني عقب مقتل الجنود المصريين على الحدود على يد الصهاينة،.. فهل بقادر أن يتحدى واشنطن، وهو لم يجرؤ على قطع أو حتى تجميد العلاقات مع الكيان الصهيوني أو تصعيد ملف جرائمه بحق المصريين على الساحة الدولية، وأنما سعى لإحتواء القضية كما كان يفعل مبارك، بل اضطر إلى صنع أزمة اقتحام سفارة العدو، لإسكات الأصوات المطالبة بالثأر لكرامة ودماء المصريين.
حتى توصيل الغاز المصري لـ'إسرائيل' لم يتوان في الالتزام به، رغم الرفض الشعبي الواسع، والتفجيرات المتواصلة لخط الغاز التي تعد رسالة ذات مغز واضح لمن لا يعير انتباها للارادة الشعبية، فضلا عن تسليم الجاسوس الإسرائيلي لتل أبيب في صفقة هزيلة، من باب ذر الرماد في العيون ليس إلا.
بالإضافة إلى التراجع في المقابل عن تطبيع العلاقات المصرية الإيرانية التى بدا أن ثمة مؤشرات إيجابية في طريقها في بداية تولي نبيل العربي حقيبة الخارجية، استجابة للضغوط الأمريكية والخليجية، وليس للمصلحة الوطنية المصرية.
القضية أن ثمة محاولة لصرف الانظار عن الترتيب الذي يجرى على قدم وساق لإختيار واجهة للمجلس العسكري تملأ فراغ مبارك في مؤسسة الرئاسة، وتكمل سيناريو أجهاض الثورة، وترميم النظام الذي كاد ينهار تحت وطأة الاحتجاجات الشعبية الهادرة، وتحافظ على شبكة المصالح القائمة وذات التوجهات الداخلية والخارجية، وكل هذه الترتيبات لا تتم بمعزل على الأمريكان، ولا مصالح الكيان الصهيوني.
ولا يمكن بأى حال، فصل فتح ملف 'التمويل الخارجي' الآن، وإظهار العين الحمراء لمن يرصد انتهاكات العسكر، عن 'مذبحة بورسعيد' وتداعياتها المتواصلة حتى اللحظة، وما تلاها من 'موقعة محيط وزارة الداخلية'، ولا الحملة المسعورة على الدعوة الطلابية للاضراب العام حتى تسليم السلطة للمدنيين، فكلها محاولات للالهاء والتشتيت المتعمد، وخلق حالة جدل مجتمعي واسعة تستنزف الطاقة الموجهة ضد المجلس العسكري والاستحقاقات الثورية التى يتهرب منها، بل، ويعمل على توجيه ضربات متلاحقة لها.
ولاشك أن إدعاء خلاف مصري أمريكي يدخل في باب 'حملة علاقات عامة' لتحسين صورة المجلس العسكري، ومحاولة لرفع أسهم الجنرالات المنهارة شعبيا بالظهور بمظهر المدافع عن'الكرامة والسيادة الوطنية' في مواجهة 'العملاء والخونة الذين يخططون لهدم الدولة وتقسيم الوطن ويتلقون أموالا من اجل هذه المؤامرات'، وبالطبع تهم الخيانة والعمالة والتآمر في الأخير من نصيب الثوار الذي يتمسكون بمطالب استكمال الثورة وإزاحة العسكر عن إدارة البلاد عبر إعلام يمارس الدعاية بمنهج جوبلز، ويعزف على أوتار عاطفية تجد صدى في مجتمع غالبيته أمي ابجديا وسياسيا، خاصة وسط مناخ من التخويف والضبابية وفقدان اليقين، صنعته أجهزة الاستخبارات منذ الأيام الأولى للثورة ولازالت تعمل عليه، وبمساهمة قوية من المؤسسات الدينية الرسمية كالأزهر والكنيسة، وتواطؤ من الحركات الدينية ذات الطموح الانتهازي الجارف كالأخوان والسلفيين، وبعض الانتهازيين من المحسوبين على التيار اليساري أو الليبرالي.
و من زاوية أخرى، فإن الحديث عن ضغوط أمريكية وتهديدات بقطع المعونة يقدم مبررا جديدا للحديث عن 'الوضع المتدهور للاقتصاد المصري'، على نحو يسكت أى صوت يطالب بتحسين الأحوال المعيشية وإجراءات بإتجاه العدالة الاجتماعية، على العكس، المواطنون البسطاء هم المطالبون الآن أن يسارعوا بالتبرع للحكومة وربط الأحزمة، تحت شعارات براقة يطلقها رجال دين يتلاعبون بوعي الجماهير ويسجلون نقطة لدى العسكر.
وفي الأخير يربح رجال مبارك والثورة المضادة نقاطا جديدا، ويتم حصر الثورة والثوار في الزاوية، وعزلهما عن الحاضنة الشعبية.

' كاتب صحافي مصري


email:mabdelreheem@hotmail.com

المصدر:جريدة القدس العربي اللندنية

ليست هناك تعليقات: