دخلت مصر بعد 14 أغسطس الدامي في مرحلة جديدة من تاريخها المعاصر، حيث شهدت مصر للمرة الأولى في تاريخها المعاصر، مذابح إبادة جماعية، تستهدف إبادة تيار سياسي، هو التيار الإسلامي رغم أنه تيار الأغلبية المجتمعية وهي أيضا سابقة تاريخية لأنها أول حرب إبادة بيد مصرية، تستهدف الهوية الثقافية والحضارية للمجتمع المصري، وهي أيضا أول مذابح في التاريخ المعاصر لمصريين، تتورط فيها القوات المسلحة المصرية، مما يجعل مذابح فض الاعتصام هي واقعيا شرخ في جدار الوطنية المصرية، للقوات المسلحة المصرية، التي مثلت الغطاء العسكري لتلك المذابح البشعة.
والانقلاب العسكري فتح صفحة غير مسبوقة في التاريخ المصري، حيث صنع حالة من الحرب الأهلية بتقسيم المجتمع سياسيا وطائفيا لينزلق المجتمع في صراع أهلي وسياسي دموي، بعد أن أشعلت حرب كراهية غير مسبوقة في التاريخ المصري المعاصر، بين التيارات السياسية لتمهد لحالة من النزاع الأهلي أصابت المجتمع المصري في مقتل، وحولت حالة الاستقطاب السياسي إلى نزاع أهلي وسياسي وإلى حرب إبادة سياسية لم تعرفها مصر من قبل.
ودخلت مصر إلى مرحلة حرب أهلية، ولكنها حرب أهلية بالوكالة، حيث يفترض أن فريقا من المجتمع قد فوض القوات المسلحة حتى تقوم نيابة عنه بإبادة فريق آخر من المجتمع وتشن بنفسها حربا أهلية بالوكالة لنصبح أمام حرب أهلية بين القوات المسلحة وقوات الأمن من جانب والتيار الإسلامي من جانب آخر، حيث تتولى الأجهزة الأمنية إبادة تيار سياسي بالنيابة عن قطاع من المجتمع، يفترض أنه يدعم عملية الإبادة السياسية، وتتوالى المذابح الجماعية، ضد جماهير وقوى التيار الإسلامي، مسجلة بذلك أكثر المشاهد الدموية في التاريخ المصري.
وفي أجواء الكراهية السياسية وقف بعض المجتمع فرحا بالتصفية الدموية لقطاع مهم من المجتمع وتلك لحظة تاريخية فاصلة في التاريخ المصري المعاصر، كل شيء كان قبل الانقلاب العسكري يختلف عن كل ما يحدث بعده، وكل ما كان قبل مذبحة فض الاعتصامات والمذابح التالية لها يختلف عن ما سيأتي بعدها، لقد وقفت عجلة التاريخ للحظات، وتوقف الزمن أيضا، ودخلت مصر مرحلة جديدة من تاريخها وأصبح مشهد حمام الدم في ميادين مصر يمثل صورة دموية تستقر في الوعي والوجدان المصري، لتشكل وعيا جديدا، لتبدأ مرحلة أخرى من تاريخ مصر.
الانفجار الشعبي
فجرت تلك المشاهد الدموية حالة من الغضب واستدعت معها موجات عنف وفوضى، وأصبحت الساعات التالية لمشهد الإبادة الجماعية تمثل مثالا لحالة الانفجار الشعبي الغاضب حيث وجه الغضب لكل من ينتمي للانقلاب العسكري من منشآت حكومية وكنائس ومنشآت خاصة بالمسيحيين، وكأن تفجير حرب الإبادة السياسية استدعى حالة من الحرب السياسية بين من يقف مع الانقلاب العسكري ومن يقف ضده، ولأن المشهد العام أظهر الأقباط باعتبارهم أنصار الانقلاب لذا استدعت الحرب السياسية حربا طائفية لتعمق أزمة المجتمع كله.
ولم يكن مشهد النزاع الطائفي غائبا عن من خطط للانقلاب، بل أظنه تعمد حشر المشكلة الطائفية داخل النزاع السياسي، حتى يعمق حالة النزاع الأهلي، ويفرض شروطه على الجميع، فمن خطط للانقلاب كان يدرك أنه في حاجة لكتل تؤيده خاصة الكتلة المسيحية وكان يدرك أيضا أن الزج بالأقباط في هذا الصراع السياسي يجعلهم كبش فداء للحرب السياسية.
ومن خطط لفض الاعتصامات بالقوة كان يدرك مثل غيره أنه يفجر موجة غضب شعبي واسعة وأن تلك الموجه الغاضبة سوف تصيب الأقباط والكنائس بالكثير من الأذى وأنها سوف تجعل الأقباط كبش فداء في معركة إبادة سياسية يخوضها قادة الانقلاب فلم يكن ما حدث من انفجار للغضب في وجه الكنائس أمرا مفاجئا بل كان متوقعا بل وكان مخططا له من قبل من خطط للانقلاب العسكري ومن خطط لفض الاعتصامات بالقوة، فعندما تريد فرض حكم عسكري على أي بلد فلا بد من تفجير النزاعات الأهلية والطائفية حتى يغرق المجتمع في حالة من الفوضى والعنف تتيح فرض الحكم العسكري عليه.
لقد كان من المتوقع أن يكون الطرف الخاسر في معركة إسقاط الرئيس وإسقاط الهوية هو أقباط مصر لأنه يتم الزج بهم في معركة تستهدف الهوية الإسلامية للمجتمع المصري وهي معركة خطرة وكافية لتفكيك روابط العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في مصر، خاصة وأنهم فئة لها حضور واضح ومميز في الشارع.
لقد دفعت مذابح الإبادة الجماعية مصر كلها إلى حافة الهاوية فأصبحت الدولة والمجتمع معا عند حافة الهوية وانزلق المجتمع بعد مشاهد الدماء لحالة من التفكك وانتشار الكراهية المجتمعية والسياسية لا يمكن أن تعالجها إلا السنوات أو حتى العقود.
صراع وجود
نشر حالة الكراهية السياسية وإشعال حرب إبادة سياسية جعل الصراع يتحول إلى صراع وجود وليس مجرد صراع سياسي فقادة الانقلاب يشنون حرب إبادة ضد التيار الإسلامي، بكل مكوناته وبكل القوى المعبرة عنه، والجماهير المنتمية إليه، مما يعني أن الاستسلام أمام تلك الحرب يؤدي عمليا إلى إقصاء دموي للتيار الإسلامي، وبهذا يصبح التيار الإسلامي أمام حرب وجود، فإذا انتصر الانقلاب عليه أخرج من ساحة العمل السياسي وحوصر اجتماعيا وأصبح خارج دائرة الحضور السياسي والاجتماعي في آن واحد.
ومن الجهة الأخرى فإن قادة الانقلاب عندما شنوا حرب إبادة ضد التيار الإسلامي كانوا يدركون أن فشل تلك الحرب تؤدي إلى إخراجهم من الساحة كما تؤدي إلى إخراج القوات المسلحة من العملية السياسية وتؤدي أيضا إلى هزيمة الدولة العميقة بكل مكوناتها، وخسارة فادحة لكل القوى والكتل السياسية التي شاركت في الانقلاب العسكري مما يعني أن كل مكونات الانقلاب العسكري تشن حرب وجود وتدرك أن هزيمتها تخرجها من مجال الفعل والتأثير السياسي.
وسلسلة المذابح التي ارتكبت بما فيها المذبحة الأهم وهي مذبحة فض الاعتصامات تجعل قادة الانقلاب يندفعون في معركتهم حتى النهاية خوفا من فشل الانقلاب ومحاسبتهم جنائيا، مما يعني أن المعركة بالنسبة لقادة الانقلاب أصبحت معركة وجود وهو ما يدفع قادة الانقلاب إلى التمادي في العنف الرسمي، بصورة غير مسبوقة، فليس أمامهم إلا الانتصار أو المحاسبة.
لماذا رفض قائد الانقلاب الحل السياسي؟
كل التقارير تؤكد أن قادة الانقلاب رفضوا فعليا كل جهود الوساطة، بل ورفضوا كل الحلول المقترحة وعمليا رفض قادة الانقلاب أي حل سياسي للأزمة وأصروا فقط على ضرورة فض الاعتصامات وهو ما يكشف عن حقيقة موقف قادة الانقلاب، فقائد الانقلاب لا يريد أي مخرج سياسي أو حل سياسي للأزمة بل كان يريد فقط من الوسطاء إقناع أنصار الشرعية بفض الاعتصامات ثم بعد ذلك يمكن بدء أي حوار وهو ما يعني أنه يريد سحب كل أوراق حركة مناهضة الشرعية حتى تقبل بما يفرض عليها، وهو ما يؤكد أن هدف الانقلاب ليس إعادة إنتاج المرحلة الانتقالية ولا إعادة بناء عملية التحول الديمقراطي بل إن هدف الانقلاب هو إقصاء التيار الإسلامي من العملية السياسية، وفرض علمنة وعسكرة الدولة، وكأن قائد الانقلاب يريد دفع القوى الإسلامية خارج إطار الفعل والتأثير، حتى يبني نظاما سياسيا مقيدا بشروط علمانية ومقيدا بدور سياسي للقوات المسلحة ثم بعد ذلك يمكن لأي قوى أن تشارك في العملية السياسية، لأنها ستكون عملية شكلية لا معنى لها، كما أن القوى الإسلامية إذا شاركت في النظام السياسي الذي يستهدف الانقلاب بناءه سوف تكون محرومة أصلا من أن تكون معبرة عن المشروع الإسلامي وتصبح مشاركتها بلا معنى بعد أن يصبح المشروع والهوية الإسلامية مقيد بشروط علمانية.
لهذا رفض قائد الانقلاب أي حل سياسي بل وقام بفض الاعتصامات بمذبحة مروعة لأنه يريد كسر قوة القوى الإسلامية، حتى يتمكن من تمرير تصوره عن النظام السياسي الجديد، من خلال تعديل أو تغيير الدستور، ليصبح دستورا علمانيا عسكريا، ولأن قائد الانقلاب يعرف أنه لن يتمكن من تمرير التعديلات الدستورية بسبب احتجاج القوى الإسلامية عليه، لذا يريد أولا التخلص من القوى الإسلامية بإضعافها ولو مرحليا حتى يتمكن من تمرير مخطط الانقلاب.
الديمقراطية هي الديمقراطية
لأن النظام الديمقراطي يقوم على تنظيم الخيارات الشعبية من خلال آلية لتحقيق التحرر الكامل للمجتمع وتحقيق حق المجتمع في تقرير مصيره لذا لا توجد أكثر من ديمقراطية، فالديمقراطية كآلية للعمل السياسي تقوم على إدارة الاختلاف والتنوع مما يمكن المجتمع من اختيار نظامه السياسي، واختيار المرجعية والهوية التي تعبر عن التيار السائد فيه وإدارة الاختلاف بين مكونات المجتمع من خلال قاعدة حق الأغلبية في اختيار الهوية العامة، وحق الأقلية في كل الحقوق والواجبات مثل الأغلبية.
ولا يوجد نظام ديمقراطي يفرض دستورا على المجتمع لا يعبر عنه فإذا كانت هوية المجتمع علمانية فيجب أن يكون الدستور علمانيا أيضا وإذا كانت هوية المجتمع إسلامية فيجب أن تكون الدستور إسلاميا أيضا.
لذا فالممارسة السياسية لأي نظام سياسي حر متعدد تؤدي إلى اختيار المجتمع للهوية والمرجعية التي تعبر عنه لتصبح هوية للدولة، واختيار المجتمع لمن يحكمه ومن يمثله، دون أن تكون هناك سلطة أعلى من سلطة المنتخب، وأي نظام سياسي يفرض على المجتمع هوية لا تعبر عنه، لن يكون ديمقراطيا أو حرا وأي نظام سياسي يقيد سلطة المنتخب لصالح المعين لن يكون ديمقراطيا كما أن أي نظام سياسي يقوم على عسكرة الدولة لن يكون ديمقراطيا أيضا.
والثورة في جوهرها حركة شعبية من أجل التحرر تجعل الإرادة الشعبية حرة فتختار ما يعبر عنها ويمثلها وتختار النظام السياسي وتحدد هوية ومرجعية الدولة، وبهذا تتحقق عملية التحرر الكامل وأي تحرر منقوص لن يكون تحررا فالتحرر لا يقبل التبعيض أو الانتقاص أو التجزئة فإما أن يكون التحرر كاملا فيصبح حقيقيا وإما أن يكون منقوصا فلا يصبح تحررا.
مخطط حرق مصر
مع مشاهد حمام الدم الذي سال في الميادين في يوم الأربعاء الدامي توالت مشاهد عنف وإرهاب السلطة حيث حرقت جثث الشهداء بل وحرق الجرحى أحياء وتم حرق المستشفى الميداني وجامع رابعة العدوية ومع توالي مشاهد إرهاب الدولة خطط قادة الانقلاب لحملة إعلامية تتهم أنصار الشرعية وحركة مناهضة الانقلاب بالإرهاب خاصة جماعة الإخوان المسلمين في محاولة لتصنيع حالة من الفوضى والعنف ودفع البلاد إلى حافة الهاوية.
وقد أدت عمليات القتل بدم بارد إلى إثارة حالة من الغضب الشعبي الجارف يحاول قادة الانقلاب استغلالها لتفجير حالة من الانفجار الشعبي وفي نفس الوقت يتم تحريك جيش البلطجية لإشعال الحرائق وهو ما يمهد عمليا لمزيد من سفك دماء القوى والجماهير المعارضة للانقلاب، والمعارضة للسياسات البوليسية القمعية، ومع التخطيط لعمليات عنف مدبرة، يتم تبرير السياسات الدموية تجاه معارضي الانقلاب، وهو ما يؤدي إلى تفجير مشاعر الغضب الشعبي ويفتح الباب أمام انفجار شعبي غاضب واسع المدى.
وبهذا يعتمد الانقلاب على مخطط لتوسيع دائرة الانقلاب حتى يتمكن من تحويل الاحتجاج السلمي إلى احتجاج عنيف فيشن حربا لا هوادة فيها تحت عنوان الحرب على الإرهاب فالاحتجاج السلمي المنظم هو أقوى سلاح في وجه الانقلاب العسكري لذا يحاول قادة الانقلاب إجهاض عملية تنظيم الاحتجاج السلمي، حتى يتم إجهاض سلمية الاحتجاج بعد ذلك ثم إشعال الحرائق والعنف المتعمد وتوجيه ضربات عنيفة ضد المحتجين حتى تنزلق حركة مناهضة الانقلاب في حالة احتجاج غير منظم يصعب السيطرة عليها وبالتالي يصعب الحفاظ على سلمية الاحتجاج.
ولهذا يستهدف مخطط الانقلاب ضرب تنظيم جماعة الإخوان المسلمين لأنه التنظيم الأقوى والقادر على الحفاظ على الاحتجاج السلمي المنظم، فإذا استطاع قادة الانقلاب شل القدرة التنظيمية لجماعة الإخوان المسلمين أفقدوا الانقلاب عنصر التنظيم، وبعد ذلك يمكن إجهاض سلمية حركة الاحتجاج وفي كل الأحوال فإن قدرة جماعة الإخوان المسلمين، على الحفاظ على ترابطها التنظيمي تساعد على الحفاظ على الاحتجاج السلمي المنظم وتعرقل مخطط دفع البلاد إلى سيناريو الفوضى والعنف.
كما أن قدرة جماعة الإخوان المسلمين على ضبط أعضائها تعد مسألة مهمة لمنع انتشار الغضب العنيف في صفوف الإسلاميين فإذا لم تتمكن جماعة الإخوان المسلمين من ضبط حركة جماهير التيار الإسلامي فإن هذا يمكن أن يؤدي إلى ظهور تجمعات إسلامية عنيفة، كما أن بعض من كان ينتمي لجماعات إسلامية عنيفة أو للأفكار المتطرفة والذين شاركوا في العملية السلمية يمكن أن يعودوا مرة أخرى لاستخدام العنف وفكرة التغيير بالقوة بعد أن تم إجهاض العملية السلمية الديمقراطية بفعل الانقلاب وهو ما يتمناه قادة الانقلاب حتى تصبح الحرب على الإرهاب ويتم إجهاض التحول الديمقراطي وبناء نظام عسكري بذريعة محاربة العنف والإرهاب.
والمعركة الرئيسية في مواجهة الانقلاب تتمثل في إفشال سيناريو جر البلاد إلى العنف والفوضى فإذا سقطت مصر في منزلق العنف والفوضى تفشل حركة مناهضة الانقلاب السلمية ولكن جر مصر إلى مرحلة الفوضى والعنف لن ينجح الانقلاب العسكري كما يتوقع قادة الانقلاب ولكنه سوف يدفع البلاد للدخول في مرحلة الدولة الفاشلة، وانتشار الجماعات المسلحة وتدخل البلاد في حرب استنزاف طويلة قد يكون المنتصر فيها هو الجماعات المسلحة والتي اكتسبت مبررات جديدة بعد إجهاض عملية التحول الديمقراطي.
لذا فإن قادة الانقلاب يريدون دفع البلاد عند حافة الهاوية حتى يثيرون خوف عامة الناس من موجات عنف وفوضى، مما يمكنهم من فرض مخطط الانقلاب وإقامة دولة عسكرية علمانية ويبدو أن قادة الانقلاب يكررون خطأ الإدارات الأمريكية المتعاقبة والتي تصورت أنها يمكن أن تدير حالة فوضى اعتبرتها خلاقة ومن خلال السيطرة على حالة الفوضى يمكن بناء نموذج الدولة المناسب للمصالح الغربية في المنطقة خاصة الأمريكية وثبت لعدة مرات أن من ينشر حالة الفوضى لن يستطيع التحكم في نتائجها وأن الفوضى مثل السحر الذي ينقلب على الساحر.
والآن يحاول قادة الانقلاب دفع مصر حتى تبقى عند حافة الهاوية لفترة، ويعتقدون أنهم قادرون على منع انزلاق البلاد إلى الهاوية بالكامل، ويحاول قادة الانقلاب إجهاض الاحتجاج السلمي المنظم ضد الانقلاب ثم دفع البلاد إلى قدر من العنف الشعبي التلقائي، وتنفيذ عمليات عنف مخططة ومدبرة حتى تشيع حالة من الخوف تؤدي إلى توقف حالة الاحتجاج على الانقلاب ثم تتم السيطرة أمنيا على البلاد وعلى الحياة السياسية بل وعلى مختلف الأنشطة الأهلية ثم يتم تمرير مخطط الانقلاب لتصبح القيادة العسكرية هي الحاكم الفعلي للبلاد.
البدائل والاحتمالات
لا يمكن التحكم في حالة الفوضى كما يريد قادة الانقلاب لذا يصبح المرجح إما أن تفشل عملية إجهاض الاحتجاج السلمي المنظم وبالتالي يفشل الانقلاب أو تجهض عملية الاحتجاج السلمي المنظم وتدفع البلاد إلى مرحلة العنف والفوضى ويفشل الانقلاب في النهاية بسبب حالة الفوضى التي تقضي عمليا على البقية الباقية من وجود الدولة.
فنجاح مخطط الانقلاب يمثل واقعيا البديل الأقل احتمالا أي البديل الذي يصعب تحقيقه لأن حالة الحراك في الشارع أصبحت أكبر بكثير من أي مخطط يعتمد على السيطرة البوليسية القمعية على المجتمع ومع فشل السياسة البوليسية تنجح حركة الاحتجاج السلمي وتسقط الانقلاب ولكن إذا نجحت تلك السياسة في إجهاض الاحتجاج السلمي المنظم وأصبح الاحتجاج عفويا وتلقائيا وغير منظم مما يجعله قابل للانزلاق في العنف فإن حالة الفوضى والعنف الشعبي سوف تجهض أيضا المخطط البوليسي القمعي ولكن بعد دخول البلاد في مرحلة فوضى شاملة تفتح الباب أمام جماعات العنف لتعود من جديد.
وحالة سيناء تمثل دليلا على نتائج السياسات القمعية البوليسية فبسبب عقود من السياسة القمعية والتهميش ظلت سيناء أرضا مناسبة للجماعات المسلحة في حين أن الحراك السياسي استطاع استيعاب حركة جماهير التيار الإسلامي في بقية أنحاء مصر حتى جاءت الثورة لتوسع من استيعاب نشاط القوى الإسلامية في ظل عملية سياسية منظمة وبعد الانقلاب العسكري أصبحت البيئة تتغير لتكون مناسبة لتنمية التوجهات العنيفة بتخطيط من قادة الانقلاب حتى يصلوا لمرحلة إعلان الحرب على الإرهاب لتغطية مخططاتهم السياسية وإذا كانت سيناء ما زالت في حالة فوضى وعنف فإن مخطط الانقلاب لإجهاض الاحتجاج السلمي إذا نجح سوف يدفع البلد كلها لتكون في حالة تشبه حالة سيناء.
فحركة مناهضة الانقلاب بالسلمية والتنظيم لا تجهض الانقلاب فقط بل تجهض أيضا احتمالات الدخول في مرحلة العنف والفوضى وإجهاض الاحتجاج السلمي المنظم يجعل المواجهة بين الانقلاب العسكري وحالة غير منظمة من العنف والفوضى وإذا كان الانقلاب العسكري قادر على إجهاض حركة الاحتجاج السلمي المنظم إذا استخدم السلاح وأسال بحور من الدماء وأسقط عشرات الآلاف من الشهداء فإن الانقلاب العسكري لن يتمكن من مواجهة العنف والفوضى، ولن يتمكن من مواجهة انتشار ظاهرة العنف السياسي والتي يمكن أن تتحول بعد فترة إلى جماعات عنف منظمة، وتبدأ حرب شوارع تستمر لسنوات كما حدث في العديد من الدول بسبب التدخلات الغربية.
الانقلاب العسكري ليس بديلا
إذا عدنا إلى المناخ الذي قامت فيه ثورة يناير سوف ندرك أن المجتمع المصري وصل لمرحلة عدم القدرة على التعايش مع نظام بوليسي قمعي لذا قامت الثورة واستمرار النظام السابق كان سوف يؤدي إلى الدخول في مرحلة العنف والفوضى فالنظام السابق لم يكن بديلا للفوضى كما كان يدعي بل كان يمثل السبب الذي سوف يقود البلاد للفوضى والعنف، فالدولة المستبدة الفاسدة تصل لمرحلة توحش الاستبداد والفساد، فتتحول إلى دولة فاشلة وتفقد سيطرتها على البلاد مما يدخل البلاد في العنف والفوضى وإذا لم تقم ثورة يناير لكانت مصر قد دخلت في مرحلة العنف والفوضى.
مما يعني أن الانقلاب العسكري لن ينجح في إعادة دولة مبارك مرة أخرى، أو دولة يوليو بل سوف يدخل البلاد في مرحلة العنف والفوضى فإذا استطاع الانقلاب العسكري إجهاض الاحتجاج السلمي المنظم واستطاع أيضا إجهاض أي احتجاج غير منظم فإنه بهذا يعيد البلاد للدولة البوليسية القمعية والتي سوف تتسبب عودتها إلى الدخول في مرحلة العنف والفوضى وإلى سقوط الدولة إلى مرحلة الفشل الكامل.
لهذا تقف مصر بين مفترق طرق بين طريق يؤدي إلى عودة العملية السياسية والديمقراطية وانتصار الثورة، وطريق آخر يؤدي إلى انتشار العنف والفوضى وليس بين الطريقين من طريق ثالث.
والطريق الأول، أي استعادة الثورة والديمقراطية، رهن بانتصار حركة مناهضة الانقلاب واستعادة الشرعية الدستورية مرة أخرى، واستكمال مسار بناء الدولة الديمقراطية الحرة على ما تم بناءه قبل الانقلاب العسكري أيا كانت التفاصيل والإجراءات والخطوات.
أما الطريق الثاني، فيقوم أساسا على نجاح الانقلاب العسكري في إجهاض حركة مناهضة الانقلاب السلمية المنظمة، مما يدفع البلاد إلى الدخول في مرحلة العنف والفوضى سواء حدث ذلك بسبب محاولة قادة الانقلاب لإثارة حالة عنف وفوضى، أو بسبب رجوع الدولة البوليسية القمعية والتي يصعب أن يتحملها المجتمع مرة أخرى.
وقادة الانقلاب العسكري في سبيل إنجاح الانقلاب يقومون بتقويض حركة الاحتجاج السلمي المنظم من خلال ضربات موجعة لجماعة الإخوان المسلمين حتى تفقد الحركة تنظيمها ثم توجيه ضربات دموية لمناهضي الانقلاب العسكري حتى يجهض سلمية الحركة وفي نفس الوقت يقوم قادة الانقلاب بالتمهيد لحالة عنف وفوضى حتى تبدأ مرحلة شن حرب على الإرهاب ويصبح هذا هو العنوان الذي يغطي عملية بناء نظام عسكري، فإذا نجح الانقلاب في كل تلك المراحل وأعاد دولة الاستبداد سوف يواجه بحالة فوضى شعبية غاضبة تدخل البلاد في مرحلة الفوضى الشاملة.
(*) ببعض التصرف للاختصار