الفكر الغربي الشائع اليوم فكر إلحادي؛ لأنه كان في أصله رد فعل على الكنيسة ثم على الدين ؛ فكان لذلك محاولة لإيجاد أسس فلسفية غير دينية يستند إليها الفكر العلمي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والنفسي وغير ذلك. وكونه كذلك لا يعني أن كل ما فيه من تفاصيل باطلة، لكنه يعني أنه يستند في مجمله على أساس واهٍ.
لكننا كثيراً ما نأخذ هذا الفكر معزولاً عن بيئته تلك الفكرية الإلحادية، فنَعده فكراً إنسانياً صالحاً لكل زمان ومكان، بل كثيراً ما ندعي لذلك أن ديننا يقول به أو أنه على الأقل لا يعارضه، وويل لمن يقول غير ذلك من أمثالي.
أضرب في هذا المقال مثلاً بمفهوم واحد هو مفهوم الحرية الذي يكاد أن يكون أمراً مسلَّماً به عند جيمع الناس في عصرنا، فأقول:
إن الحر حرية كاملة هو الذي لا قيود على تصرفه ألبتة هو الذي يفعل كل ما يريد. لكن الفعل يحتاج إلى علم وإلى إرادة وقدرة. فالحر حرية كاملة يجب أن يكون ذا علم كامل وقدرة كاملة وإرادة نافذة. ولا يمكن أن يكون للفاعل علم كامل وقدرة كاملة وإرادة نافذة إلا إذا كان مستغنياً عن غيره استغناءً كاملاً لا يحتاج إلى أن يتعلم منه شيئاً، ولا أن يكتسب منه مقدرة ؛ لأن الحاجة إلى علم الغير أو مقدرته قيد يتنافى مع كمال الحرية.
فما يقوله المدافعون عن الديمقراطية من أن الإنسان لا يكون حراً إذا هو أطاع قانوناً ليس من صنعه كلام صحيح. لكنهم معترفون بأن الإنسان لا بد له من أن يعيش في جماعة، وأن العيش في الجماعة يتطلب وجود سلطة تأمر وتنهى وتعاقب، وأن القوانين التي بمقتضاها تفعل هذا لا يمكن أن تكون كلها من صنع كل الأفراد الذين يكوِّنون المجتمع، وأن مشاركة الأفراد وإن كانت في النظام الديمقراطي أكثر منها في غيره، إلا أن صنع القوانين حتى في هذا النظام هو في النهاية من صنع قلة من أفراد المجتمع متمثلة في أعضاء المجالس التشريعية. وعليه فإذا كانت المشاركة في وضع القوانين هي معيار الحرية ؛ فإن الناس ليسوا أحراراً إلا بقدر يسير حتى في الديمقراطية. بل نقول إنه حتى صنع القوانين ليس ضماناً للحرية حتى لو كان الفرد يتصرف كيف شاء. لماذا ؟ لأنه قد يُتبِع نفسه هواها، فيفعل كل ما تأمره وتريده شهواته من إسراف في الأكل، وشرب للخمر، وتعاط للمخدرات، وارتكاب للفواحش، وهكذا. مثل هذا الإنسان ومثله اليوم كثير في الغرب ليس حراً. نعم إنه ليس عبداً لبشر مثله ! ولكنه عبد لهواه .
ما المخرج إذن من هذه العبودية؟
لا أمل للإنسان في حرية مثل تلك التي تريدها الفلسفات الغربية ؛ وذلك أن كل الناس بما فيهم منكرو وجود الخالق سبحانه مقرون بأن الإنسان ليس هو الذي أوجد نفسه، ولا هو الذي يبقيها، وأن علمه مكتسب، وهو علم ناقص، وأنه يعتمد في استمرار حياته على ظروف لا قِبَل له بالسيطرة عليها. فالضياء يأتيه من الشمس، والماء من المطر، والزرع من الأرض، وهكذا. فأنى يكون حراً؟ وأنى يكون مستقلاً بقراره ؟
والمؤمنون بوجود الخالق مقرُّون بأن الله هو وحده ذو العلم الكامل، والقدرة الكاملة، والاستغناء الكامل، فهو وحده الفعال لما يريد. أما الإنسان فهو مخلوق، وبما أنه مخلوق فهو مملوك لخالقه، والمملوك عبد. فالصفة التي تدل على حقيقة الإنسان هي كونه عبداً لا حراً، لكنه عبدٌ لخالقه لا لمخلوقات مثله. وعبوديته لخالقه تتمثل في كونه شاء أم أبى محكوماً في كل تصرفاته بمشيئة خالقه. نعم إن للإنسان مشيئة ! ونعم إن له قدرة ! لكن خالقه هو الذي شاء ان يجعله شائياً، وهو الذي شاء أن يجعل له قدرة. فمشيئته ليست مطلقة، بل هي مقيدة بمشيئة خالقه.
فإذا كان الخالق فعالاً لما يريد، فإن الإنسان يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد. لكن الخالق الذي جعل لخلقِه قوانين كونية قهرية لا اختيار لهم في طاعتها، قد جعل للبشر قوانين شرعية لا تتم سعادتهم الدنيوية والأخروية إلا بها، لكنه جعلها قوانين اختيارية من شاء منهم أن يلتزم بها فعل، ومن لم يشأ لم يفعل. إذا فعل كان عبداً لله باختياره كما هو عبد له باضطراره. وإذا لم يفعل كان عبداً لهوى نفسه أو هوى غيره من البشر. فالوسيلة الوحيدة لتحقيق ما يريده دعاة الديمقراطية أعني التحرر من العبودية للبشر لا تكون كما رأينا بأن يسن كل فرد لنفسه ما شاء من قوانين. إنها لا تكون إلا بإخلاص العبودية لله بطاعة ما شرع في كل مجالات الحياة.
لا مجال إذن للتخلص من العبودية للبشر إلا بالعبودية لخالق البشر. فالإنسان ليس إذن مخيراً بأن يكون حراً أو يكون عبداً، بل هو مخير بين عبوديتين. ولهذا كانت الدعوة إلى أن تكون للإنسان حرية التشريع مرتبطة دائماً بالدعوة إلى التمرد على شرع الله ؛ لأنها في حقيقتها دعوة إلى أن يكون المخلوق العبد المملوك فرداً أو جماعة إلهاً مشرعاً لنفسه أو لغيره. وكان الرد الإلهي دائماً أن الإنسان المخلوق ليس من حقه أن يضع من القوانين ما شاء فيحل ويحرم ويأمر وينهى، حتى لو كانت القوانين خاصة بشخصه، وأن الخالق هو الذي من حقه حقاً لا ينازعه فيه غيره أن يشرع وأن يُطاع.
المتخذون دون الله آلهة من الأهواء يقولون:
أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ( هود : 87 ).
مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ ( غافر : 29 )
لكن الرب الخالق يقول:
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ( الأنعام : 91 )
أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ( القيامة : 36 ) ( يترك سدى أي يهمل فلا يؤمر ولا ينهى ولا يبعث ولا يحاسب )
ويقول : قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ( يونس : 59 )
ولكن بما أن للإنسان إرادة مهما كانت محدودة، وبما أن له قدرة مهما كانت أيضاً محدودة، فإن له حرية في حدود قدرته وإرادته. لكنه قد يفقد قدراً من هذه الحرية العادية المحدودة حين يُسترَقُّ فيكون عبداً يملكه ويبيعه ويشتريه بشر مثله. فإذا ما أُعتق قلنا إنه قد صار حراً، أي رجع إلى الحرية المعتادة التي وهبها الله تعالى لكل الناس. وقد يُحبس ويُعتقل فتحد من حريته ؛ فإذا ما خرج من الحبس قلنا إنه قد أطلق سراحه. وقد تتسلط أمة على أمة أخرى فتحكمها، فإذا ما تخلصت منها قلنا إنها قد نالت حريتها، وقد يتسلط حاكم ظالم على أمة فيفرض عليها أحكاماً بهواه كما كان فرعون يقول لشعبه : ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد. وقد يمنعهم من بعض ما أباح الله أو أوجب من الكلام والحركة والاجتماع، فإذا ما تخلصوا منه قلنا إنهم صاروا أحراراً.
لكن أسوأ أنواع العبودية أن يكون الإنسان باختياره عبداً لمخلوق مثله، عبداً له يدعوه ويرجوه ويتوكل عليه ويستغيث به، أو يرضى له بحق التشريع والطاعة فيجعله في مقام المولى سبحانه. ولا فرق في هذا بين أن يكون الحكم دكتاتورية أو وصائية أو ديمقراطية ما دام حكمَ بشر مخالفاً لحكم الله تعالى. بل إن الإنسان ليكون عبداً حتى لو كان هو المشرع لنفسه ؛ لأنه يكون حينئذ متبعاً لهواه متخذاً إياه إلها [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ] ( الجاثية : 23 )، وذلك أنه إما أن يكون الإنسان عبداً لله أو عبداً لهواه ولا واسطة بين الأمرين [ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ] ( القصص : 50 ). وعليه فلا سبيل إلى التحرر من العبودية للبشر إلا بإخلاص العبودية لخالق البشر.
فالقول بأن الإنسان حر أو أنه ينبغي أن يكون حراً بالمعنى الغربي الشائع كلام يكذبه الواقع، ثم إنه مخالف للإيمان بأن الإنسان عبد لله يأتمر بأوامره، وقد أدرك هذا بعض الكتاب النصارى، منهم كاتبهم الإنجليزي المشهور لويس الذي قال كلاماً فحواه : إنني لم أولد لأكون حراً، وإنما ولدت لأسمع وأطيع