تمهيد
ومن حقّك طبعًا أن تدعو بما شئت، فما أنا هنا بداعٍ لكي تؤمِّن خلفي، لأن كل ما أطلبه منك، قبل أن تدعو أو أن تؤمِّن خلف من يدعو بأن نكون على قلب رجل واحد، أن تفكر أولًا في مصائر الدول التي ظنت أن الصف الواحد والتجمع على قلب حاكم واحد هو طريقها الأكيد للتقدم، فسحقت كل رأي مختلف واتهمته بشق الصف وزعزعة الجبهة الداخلية، ولم تستبن الرشد إلا ضحى غد الهزيمة.
حكاية أولى
يروي ويل ديورانت في كتابه (قصة الفلسفة) أنّ الفيلسوف الأشهر سقراط قال في دفاعه عن نفسه أمام المحكمة التي حكمت بإعدامه: “أحب أن تعرفوا أنكم إذا قتلتم رجلاً مثلي، أسأتم إلى أنفسكم أكثر مما تسيئون إليّ، لأنكم إن قتلتموني لن يسهل عليكم أن تجدوا رجلًا آخر مثلي، فأنا إذا صح لي أن ألجأ إلى هذا التشبيه المضحك السخيف، أشبه “ذبابة” بعثها الله إلى الدولة، والدولة شبيه بحصان عظيم كريم، ولكنه بطيء الحركة لضخامة جسمه، وهو بحاجة إلى ما يبث فيه الحياة، وأنا هذه الذبابة التي تحرك الحصان وترفعه إلى النشاط وسرعة الحركة، وإذا كنتم لن تجدوا رجلًا مثلي فإني أنصحكم ألا تقتلوني وأن تبقوا على حياتي”.
تشبيه سقراط نفسه بذبابة لم يفده كثيرًا، فغرور قاتليه جعلهم يتصورون منطق “اعتبرونا ذباب يا أخي” ضعفًا وانهزامًا، فقتلوا سقراط لكي تستقر الدولة، أو على حد تعبيرهم “لكي يتطهر المجتمع من أمثاله الذين يفسدون شباب أثينا”، لكن قتل سقراط لم يكتب حياة أطول للدولة التي فقدت الحياة يوم فقدت قدرتها على تحمل الراي المختلف.
حكاية ثانية
كانت مصر يومها قد أكملت 13 عامًا من بناء دولة الصف الواحد الذي يدهس كل من يعارضه، إما بالإعدام أو الاعتقال أو النفي، وفي يوم 23 اغسطس سنة 1965 وقعت حادثة مفاجئة لم يحسن جمال عبد الناصر قراءتها جيدًا للأسف الشديد وإلا لكان وفر على مصر الكثير.
الواقعة يرويها في مذكراته المهمة الصحفي الكبير مصطفى بهجت بدوي، وأتمنى على من يسارع باتهامه أنه كان من أعداء الثورة أن يقرأ عنه أولًا قبل الحكم عليه، يقول رحمه الله: “المفاجأة الكبرى كانت يوم جنازة مصطفى النحاس فقد بدت كأنها يوم الحشر، تحركت المباحث الجنائية العسكرية وأرادت أن تلغي تشييع الجنازة بحجة المحافظة على الأمن رغم آلاف الآلاف من الجماهير التي احتشدت وسدت الطرق من جامع عمر مكرم إلى ميدان التحرير وحتى جامع الحسين.
وتآمرت الشرطة على خطف جثمان مصطفى النحاس، ونشأت معركة حقيقية بغير مبرر بين الشرطة وبين جماهير الشعب، أيهما يفوز بالجثمان، وهل تستمر الجنازة أم تتبدد، وانتصر الشعب بطبيعة الحال، وكان أغرب المناظر التي سجلتها العين بعد انحسار المعركة بانتصار الجماهير هو هذا المنظر شديد المفارقة والتناقض الذي قد يحير أساطين علم النفس وقد لا يحيرهم، منظر شيخ في الستين استولى على الجثمان ووضع النعش فوق عربة الموتى، وأخذ يرقص أمامه “عشرة بلدي” فرحًا بالنصر على الشرطة في هذا المشهد الحزين، ودالت دولة الحمقى وبقي الشعب لأنه هو الباقي دائمًا”.
الحكاية الثالثة
“الله يخرب بيت الثورة اللي ضيعت البلد وقسمت صف الشعب”، عبارة بالتأكيد قالها ولكن باللغة الفرنسية كثيرون من الذين حاولوا أن يصوروا النظام الفرنسي في القرن الثامن عشر بوصفه فترة ظللها الهدوء السعيد الذي أنهته الثورة الفرنسية إلى الأبد.
في كتابه (التاريخ الاجتماعي للثورة الفرنسية) يقر المؤرخ نورمان هامبسن بحقيقة أن الثورة جعلت المجتمع الفرنسي منقسمًا؛ “حيث لم يجمع الفرنسيون في أي فترة من الفترات التالية للثورة على شكل الدستور، ولا على السياسة الاقتصادية التي يجب أن تتبعها الحكومة، ولا على مكان الكنيسة من الدولة”. لكنه يلفت الانتباه إلى أن تصوير الفترة التي سبقت الثورة بأنها فترة الهدوء السعيد هو محاولة للتضليل الخطير؛ لأن الانقسام الذي عاشه الفرنسيون لم يوجد فجأة مع الثورة، بل كان بسبب “الاستقرار الظاهري” الذي عاشته فرنسا في ظل حكم الملكية وفي ظل وجود المجتمع الإقطاعي المتنافر مع تقدم العصر، وفي ظل السلطة الصورية التي كانت تتمتع بها كنيسة فقدت سمعتها، وأن كل ذلك ظل يقوم بتوليد مشكلات وصراعات تحت السطح أخذت تشتد حتى كان مصيرها الانفجار الذي لم تعد بعدها فرنسا كما كانت.
لم تتعلم فرنسا بسهولة أن الديمقراطية لا تعني أن يتفق الناس مع بعضهم في الرأي، بل أن ينجحوا في إدارة صراعاتهم مع بعض في ظل القانون الذي يمنع تحول المجتمع إلى غابة، وبالتأكيد لم تحل فرنسا كل مشاكلها حتى الآن، لأنه لن توجد على الإطلاق دولة تحل كل مشاكلها، لكنها بالتأكيد أصبحت أكثر تقدمًا، ربما لأنها لم تعد تعتبر اختلاف الناس في الرأي مشكلة.
حكاية ليست أخيرة
في 23 مارس 1933 عقدت الجلسة الافتتاحية للبرلمان الألماني (الرايخستاج) في دار أوبرا كرول الواقعة بوسط برلين بعد أن دمر حريق مبنى البرلمان الأصلي قبل أسابيع، وكما يروي كيفن باسمور في كتابه عن (الفاشية): دخل النواب إلى القاعة وسط احتشاد من جموع من شباب يرتدون شارة الصليب المعقوف وينادون النواب بأوصاف مثل خنازير الوسط أو خنزيرات الماركسية، برغم أنه كان قد سبق اعتقال النواب الشيوعيين لاتهامهم بإحراق مبنى الرايخستاج، وتم احتجاز عدد غير قليل من الاشتراكيين، وألقي القبض على أحدهم لدى دخوله المبنى، واصطف أفراد كتيبة العاصفة النازية وراء الاشتراكيين وسدوا مداخل المبنى ومخارجه.
كان البرلمان يومها منعقدًا لهدف واحد هو تمرير قانون تمكين يمنح الزعيم الألماني أدولف هتلر سلطة إصدار قوانين دون موافقة البرلمان، حتى إذا كانت قوانين تخالف الدستور، لكن إصدار ذلك القانون نفسه كان يتطلب تعديل الدستور، وهو ما لم يكن يمكن أن يتم بدون موافقة أغلبية الثلثين، ولذلك كان النازيون يحتاجون إلى دعم المحافظين، وهو ما جعل هتلر في خطابه أمام البرلمان يتعهد للمحافظين بأن تمرير هذا القانون لن يهدد وجود البرلمان ولا منصب زعيمهم الرئيس هيندنبورج، لكي يصوتوا لقانون التمكين، في البدء نجح هتلر في السيطرة على نفسه خلال إلقاء الخطاب بشكل استثنائي، لكنه انفعل فجأة داعيًا لإعدام مدبر حريق الرايخستاج متوعدًا الاشتراكيين بأشد العقوبات، ليهتف النواب النازيون في نهاية كلمته “ألمانيا فوق الجميع”.
يومها، امتلك رجل وحيد الجرأة ليشق الصف الواحد الذي بدا أنه يقود ألمانيا إلى سماوات المجد، كان ذلك النائب الاشتراكي أوتو فيلز الذي وقف ليرد على هتلر بشجاعة مستندًا إلى “مبادئ الإنسانية والعدالة والحرية والاشتراكية”، وبرغم أنه كما يروي السفير الفرنسي الذي حضر الجلسة كان يتحدث بنبرة أشبه بصياح طفل مضروب، إلا أن الجميع كان مذهولًا من كلمته، خصوصًا أنه ختمها بالإعراب عن أطيب أمنياته لأولئك الذين تحفل بهم السجون ومعسكرات الاعتقال، كعادة الطغاة لم يكن هتلر سعيدًا بما قاله فيلز، لم يكن كافيًا له أن تصفق له كل ألمانيا وأن يجتمع الكل على محبته وتأييده، ولذلك فقد قام ليرد على فيلز بعصبية محمومة، متّهمًا الاشتراكيين بأنهم قد عذبوا النازيين طوال 14 عامًا، مع أن النازيين لم يكونوا يعاقبون على أنشطتهم غير المشروعة إلا بأخف العقوبات، وعندما أطلق النواب الاشتراكيون صيحات استهجان، تعالت صرخات النازيين من داخل القاعة وخارجها “سوف تعدمون شنقًا اليوم”.
يومها وافق البرلمان على قانون التمكين لهتلر، بأغلبية 444 صوتًا مؤيدًا مقابل 94 صوتًا معارضًا من الاشتراكيين الذين جرؤوا يومها على شق صف الأمة الألمانية، وهو ما أطاح بسيادة القانون وأرسى الأساس لسلطة قائمة على إرادة الفوهرر، ليمنحه ذلك القانون الحق في اتخاذ ما يراه مناسبًا لتحقيق المصالح العليا للشعب الألماني ضد أي شخص يعتبره عدوًا للأمة الموحدة، وكان الاشتراكيون الذين جرؤوا على الرفض أول ضحاياه، لكن قائمة الضحايا اتسعت فيما بعد لتشمل كل مؤيدي هتلر ومنافقيه وموالسيه والمبررين له والصامتين عليه، لتتخلص ألمانيا من كل أعدائها وتصبح بلدًا موحّد الصف، دون أن يدري أهلها أن ذلك الصف الموحد لم يقدها إلا إلى الدمار الشامل.
خاتمة
ولعلك كنت تعلم قبل قراءة هذه الحكايات أنه عندما تتحدث وسائل إع.. لامنا عن ضرورة اجتماع المصريين على قلب رجل واحد، فإنها لا تعني أبدًا أن يتوحدوا على أرضية مبادئ مشتركة مثل الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية وغيرها من المبادئ التي اجتمع عليها أحرار المصريين في ميادين التحرير، ليس لأنهم نسوا اختلافاتهم، بل لأنهم أدركوا أن اختلافاتهم لا تتعارض مع أن يتفقوا على مبادئ مشتركة أصبحت من شروط التقدم الإنساني، أما التوحد الذي تعنيه وسائل الإع.. لام الآن وبالأمس ودائمًا هو توحد على تمجيد شخص القائد الملهم الضرورة، وعلى الحفاظ على حق مؤسسات الدولة المترهلة الفاشلة في أن تمارس المزيد من النهب والسلب والفساد دون رقيب ولا حسيب.
وإن كنت لست متأكدًا من ذلك، جرب أن تتحدث مع أحد الذين يتحدثون عن أهمية التوحد وخطورة شق الصف، لتقول له في البداية إنك من أنصار الرئيس الملهم القائد الضرورة عبد الفتاح السيسي، وإنك لا ترى غيره بديلًا ولا أملًا، وستجد منه حفاوة شديدة فور أن تقول له ذلك، ثم جرب بعدها أن تقول له نقدًا لممارسات جهاز الشرطة التي تقوم كل يوم بتجذير مشكلة الإرهاب وتعميقها، أو نقدًا لارتفاع ميزانية الشرطة والجيش على حساب ميزانية الصحة والتعليم اللتين لن تنهض البلاد إلا بهما، أو أي نقد من أي نوع لأي من مؤسسات الدولة الفاشلة، وعندها ستجد نفسك وقد تحولت فجأة من خانة الأحرار المحبين لمصر إلى خانة الأعداء الراغبين في شق الصف، لتدرك أن دورك في الصف الوطني المفترض أن تتحول إلى حيوان أخرس يسير خلف قائد القطيع دون أن يمتلك حتى حق السؤال على وجهة سير القطيع، فضلًا عن حق الاعتراض على طريقة قيادته للقطيع، وعندها ستحمد الله لأنه جعل لك قلبًا اخترت له أن يظل حيًّا بدلًا أن تميته بإرادتك، لكي يظل الرجل الواحد باقيًا على كرسي الحكم.
اللهم لا تجمعنا على قلب رجل واحد، واحفظ لنا قلوبنا نابضة بالحياة والسؤال والشك حتى يأتينا اليقين.