لا بد من قراءة متأنية مدققة لخطاب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في مؤتمر المانحين الذي عقد في القاهرة بتاريخ 12/10/2014. وذلك لما يتضمنه من مستقبل لقطاع غزة، وخصوصاً، وضع المقاومة، صواريخ، وأنفاقاً، وسلاحاً، ومصانع سلاح، وتهريباً له من مصر أو البحر.
ربط السيسي، وبكلام واضح لا لبس فيه أن إعادة الإعمار في قطاع غزة يقوم على محورين: الأول التهدئة الدائمة، والثاني بسط السلطة الوطنية الفلسطينية (سلطة رام الله) سيطرتها الكاملة على كل الجوانب في قطاع غزة.
وبطبيعة الحال ذهب خطاب محمود عباس في الاتجاه نفسه، فأكد على مواجهته للارهاب من دون أن يحدّد داعش وأخواتها (القاعدة وجبهة النصرة وما شابه) الأمر الذي يجعل هذا التشديد على الارهاب حمّال أوجه ممتداً إلى سلاح المقاومة في قطاع غزة عندما يأتيه الدور. وهذا الاحتمال يزداد قوة بالرجوع إلى موقف سلطة رام الله وأجهزتها الأمنية (التي شكلها دايتون بعد استشهاد ياسر عرفات) من سلاح المقاومة في الضفة الغربية حيث طبقت سياسة تصفيته بالكامل، وابتداء بسلاح أفراد كتائب الأقصى وصولاً إلى سلاح الجهاد وحماس.
هذا وشدد السيسي من خلال بُعد ثالث تضمنه خطابه على ضرورة المضي بسياسة التسوية مع “إسرائيل وشعبها” (الكيان الصهيوني) إلى الحل النهائي والدائم على أسس التي انطلقت منها التسوية وخطواتها من السبعينيات وحتى اليوم.
وذهب خطاب محمود عباس في الاتجاه نفسه ونحو الهدف ذاته كذلك.
من هنا يستحق خطابا السيسي وعباس أن يؤخذا بكل الجديّة الممكنة ولا يُنظر إليهما بلا مبالاة أو لتصوّر بأن الطريق الذي سيذهب إليه التطبيق سيكون مغايراً في مصلحة المضي بالإعمار جنباً إلى جنب مع الحفاظ على المقاومة والبناء فوق ما أنجزته من انتصار أخير في دحر جيش الاحتلال ميدانياً، وهو يُحاول اقتحام القطاع. وللأسف أيضاً، ما من إشارة إلى انتصار الشعب وهو يخرج من وسط الدمار الهائل مقدّماً آلاف الشهداء والجرحى ومؤكداً على الصمود والاستمرارية والالتفاف حول المقاومة المسلحة الباسلة التي هي من أبنائه وبناته – فلذات كبده وليست شيئاً مفروضاً، أو هبط بمظلة أو تسلل من حدود.
بل يبدو من “المناخ العام” أن ثمة تصميماً على وضع الانتصار العظيم الذي تحقق ببطولة المقاومة وصمود الشعب على الرف أو في الثلاجة. وذلك من خلال التركيز على إعادة الإعمار، والتهدئة الدائمة، وضرورة سيطرة سلطة رام الله بالكامل على قطاع غزة. الأمر الذي يعني تصفية المقاومة إذا تحققت هذه السيطرة المقترنة بالتهدئة الدائمة وعدم السماح بعودة “التوتر مرة أخرى” وبالسياسة الذاهبة إلى التسوية المؤسسة في كمب ديفيد (المعاهدة المصرية- الإسرائيلية) والممتدة إلى مبادرة السلام العربية (2002) وما بينهما اتفاق أوسلو وتداعياته التي عبّرت عنها سلطة رام الله من خلال الاتفاق الأمني والمفاوضات الأخيرة التي رعاها جون كيري.
إذا كانت هذه القراءة لخطابَيْ الرئيسين المصري والفلسطيني صحيحة ودقيقة في ما يتعلق بالتوجه نحو إنهاء المقاومة المسلحة في قطاع غزة فسيكون الوضع الفلسطيني أمام كارثة حقيقية لها تداعياتها الحتمية على مستقبل القضية الفلسطينية كما على الوضع العربي كله بما في ذلك المقاومة في لبنان. ومن ثم ينبغي للحريصين على استراتيجية المقاومة أو للحريصين على تحرير كل فلسطين أن يتحركوا من الآن وقبل فوات الأوان لدرء الخطر المحيق بالمقاومة المسلحة والصمود الشعبي في قطاع غزة.
طبعاً ستكون عملية الذهاب إلى نزع سلاح المقاومة تحت شعار “سلاح واحد” في الضفة والقطاع، و“قرار واحد” للحرب والسلم، أو من خلال وضع سلاح المقاومة بيد سلطة رام الله كما هو حال سلاح الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية. وذلك لتجنب الظهور بمظهر نزع السلاح بالطريقة الخشنة.
فالطريقة التي ستتم بها العملية سواء أكانت بالأسلوب الناعم أم بالأسلوب الخشن، أكانت تحت شعار المصالحة والوحدة الوطنية أم كانت تحت التوجه نحو التسوية فإنها ستهدّد الوضع كله، بما يدمّر حتى التهدئة المؤقتة وعملية إعادة الإعمار وإنهاء الحصار. وذلك لأن من غير الممكن أن يكون سلاح المقاومة الذي أحدث تغييراً استراتيجياً في ميزان القوى العسكري مع العدو ثمناً للتهدئة والإعمار والمصالحة. فلا التهدئة ولا الإعمار ولا فك الحصار ولا مصالحة فلسطينية تساوي تسليم قطعة سلاح واحدة أو تدمير نفق واحد. ناهيك عن التفريط بالانتصار وما قدّم من تضحيات.
ويكفي أن نتذكر الثمن الغالي، وعلى مدى تاريخ طويل، الذي دفعه الشعب الفلسطيني وفصائل المقاومة حتى وصلت المقاومة المسلحة في قطاع غزة إلى ما وصلته اليوم من قوّة ومهابة وقدرة وإنجاز ميداني في القتال المباشر. فقد سقط على هذه الطريق آلاف المقاومين منذ 1968 حتى اليوم، وتضافرت جهود عربية وإسلامية ومقاومة وممانعة ودعم لإحداث هذه القفزة. وتحركت ملايين عربية وإسلامية وعالمية لإسناد المقاومة في وجه ما تعرضت له من حروب. ولا يُنسى عشرات الألوف من المناضلين المقاومين الذين أعطوا من أعمارهم عشرات السنين في السجون وما زالوا تحت رايات المقاومة ومقارعة الاحتلال والعدوان بالسلاح والانتفاضة.
ثم كيف يُنسى أن ما وصلته المقاومة في قطاع غزة جاء تتويجاً للانتفاضتين الأولى والثانية في القدس والضفة والقطاع وما قدمتاه من تضحيات وأحدثتاه من تغيير استراتيجي في الصراع مع العدو.
وكيف بعد أن يكون العدو قد فشل في حروب ثلاثة ضدّ المقاومة والشعب في قطاع غزة من أن ينزع سلاحها نأتي اليوم لنقدّم له وبالمجان سلاح المقاومة. وكيف بعد أن ثبتت صحة استراتيجية المقاومة والانتفاضة نعود لاستراتيجية التسوية الكارثية.
ولهذا لا بدّ من أن يؤدي أي توجه لنزع سلاح المقاومة المسلحة أو إضعافها أو حصارها أو تجميدها إلى حرب جديدة مع العدو. بل يجب أن يؤدي إلى الحرب لا محالة. فمن يسلم سلاحه يسلم رأسه وقضيته ويدمّر ماضيه تدميراً، ولا سيما حينما يكون العدو هو العدو الصهيوني الذي يغتصب فلسطين ويهوّد قدسها ويعتدي على مقدساتها. ولا يجدي معه ما يُقدَّم من تنازل حتى لو كان تسعة أعشار فلسطين.
ولهذا ما ينبغي للمقاومة أن تتوقف عن التقدّم إلى أمام في قطاع غزة. وما ينبغي للانتفاضة أن تسقط من رأس الأجندة في الضفة الغربية وتحرير القدس وإطلاق كل الأسرى وبلا قيد أو شرط. فاستراتيجية المقاومة والانتفاضة هي التي أثبتت جدارتها وهي وحدها التي يمكن أن تثبت جدارتها.
وأخيراً إذا ذهب هذا التقدير للموقف إلى أبعد من الحدود التي تحتملها قراءة خطابَيْ عبد الفتاح السيسي ومحمود عباس فيا حبذا وبكل ترحيب لنسمع نفياً، أو تأكيداً على أن لا مساس بسلاح المقاومة أو إضعافه أو حصاره أو تجميده، ومن ثم ليأتي الإعمار والمصالحة من أوسع الأبواب.