خلص تقرير أجهزة الاستخبارات الأمريكية، الى نتيجة مفادها ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو من أصدر الأوامر للاجهزة في بلاده كي تقوم بعمليات اختراق اليكتروني وقرصنة للتأثير على الانتخابات الرئاسية الامريكية. وقد حدد التقرير أربعة أهداف أراد بوتين تحقيقها، أولها: زعزعة الثقة في الديمقراطية الامريكية عبر التشكيك في نزاهة الانتخابات، وثانيها: الإضرار بفرص فوز هيلاري كلينتون، وثالثها: زرع الفتنة والانقسام بين الأمريكيين، ورابعها: تحسين فرص دونالد ترامب بالفوز.
تفضيل ترامب
الهدف الأخير، تفضيل ترامب على كلينتون، هو مربط الفرس. فقد أكد التقرير أن الروس كانوا يفضلون فوز ترامب، وسعوا الى ذلك سعيا حثيثا، بعرقلة حملة منافسته كلينتون، وتشويه صورتها لدى الناخبين بفضيحة الايميلات، وجعلها تبدو غير مؤهلة لتصبح رئيسة للبلاد. وهذا كان اسلوب موسكو للوصول الى هدفها من القرصنة. المهم انه تحقق لبوتين ما أراد، فخسرت كلينتون وفاز ترامب. لكن الأهم ما سيترتب على هذا التدخل الروسي من تداعيات على الصعيد السياسي الأمريكي الداخلي، وكيفية تصرف الكونغرس مع القضية، ومع ترامب، ومع روسيا.
قنبلة اوباما المؤقوتة لترامب
سمع أعضاء الكونغرس مباشرة، من قادة أجهزة الاستخبارات، أن روسيا تشكل تهديدا كبيرا "للحكومة الامريكية والجيش والدبلوماسية والتجارة والبنية التحتية" للبلاد. كما أكدت هذه الأجهزة أن لديها أدلة دامغة أن الروس اخترقوا موقع الحزب الديمقراطي، وسربوا المعلومات لموقع "ويكيليكس" لنشرها على الملأ. لذلك أراد اوباما إبقاء القضية حية في أروقة الكونغرس، كقنبلة سياسية مؤقوتة تنفجر بوجه ترامب في أية لحظة. وما دام الكونغرس قد علم بمحتويات تقرير القرصنة الروسية، ووضعه على جدول أعماله، فلا بد أن يصل الى نتيجة، في نهاية المطاف.
كان تصرف اوباما حين طلب إصدار التقرير الاستخباري، قبيل إنقضاء مدة رئاسته، واطلاع الكونغرس عليه، غاية في الذكاء السياسي. إذ ترك قضية، على درجة عالية من الحساسية، مفتوحة أمام الساكن الجديد للبيت الأبيض ستؤرقه من شدة خطورتها، السياسية والقانونية. ويتعين على ترامب أن يتعايش مع هذا الواقع، مهما أمضى من وقت في الرئاسة. ولن يكون بمقدروه طي الملف باللجؤ إلى أساليب النفي، والتهكم، والاستخفاف، والتصريحاته النارية. فالأمر الان ليس بيده بل بيد أعضاء الكونغرس من الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، الذين يُجّمعون على متابعة القضية، حتى نهايتها. واعلنوا أنهم سيواصلون، في الاشهر القادمة، عقد جلسات الاستماع للوصول الى الحقيقة الكاملة.
"ترامب غيت"
هناك أوجه شبه بين فضيحة القرصنة الروسية، التي ستلاحق ترامب، وبين "ووترغيت"، تلك الفضيحة المدوية التي أطاحت بالرئيس الامريكي الأسبق ريتشارد نيكسون، وأُضطر معها للاستقالة من منصبه، في 8 آب أغسطس عام 1974، لتجنب اجراءات العزل التي كان يعتزم الكونغرس البدء فيها. ولولا العفو الرئاسي من خلفه، جيرالد فورد، لدخل السجن بتهم جنائية.
ملخص فضيحة "ووترغيت" أن نيكسون قرر ترشيح نفسه، لفترة رئاسية ثانية، في انتخابات 1972، حيث كان ينافسه السناتور الديمقراطي جورج ماكغفرن. وقبيل الانتخابات بأشهر قليلة، ألقت الشرطة القبض على خمسة أشخاص كانوا يقومون بتركيب أجهزة تجسس في مقر الحزب الديمقراطي في مجمع تجاري اسمه "ووترغيت" بالعاصمة واشنطن. وكانت النتيجة أن تفجرت أزمة سياسية، وُوجهت فيها أصابع الاتهام الى الرئيس نيكسون، الذي فاز على ماكغفرن.
وتبين بعد عامين من التحقيقات أن الجرائم التي ارتكبت باسم نيكسون تشمل التجسس على أنشطة الحزب الديمقراطي مما ساعد على إعادة انتخابه، وقيام فرق من حزبه الجمهوري بالأعيب قذرة لإثارة الفتن بين أعضاء الحزب الديموقراطي. ودافع محامي البيت الأبيض انذاك بأن الرئيس قد لا يكون على علم بما جرى، إلا أنه اعترف بقيامه بالتستر على تلك المخالفات عندما علم بها. وأصبح مؤكدا أن مجلس النواب سيوجه له تهما ستؤدي الى عزله من منصبه، لو وافق 60% من النواب. فاختار نيكسون الاستقالة، وكان أول رئيس يستقيل من منصبه.
تهم بالخيانة ربما تنتظر ترامب
تتبادر الى الاذهان هذه التفاصيل عن فضيحة "ووترغيت" في وقت يولي فيه الكونغرس الامريكي أهمية قصوى هذه الأيام لفضيحة القرصنة الروسية التي ربما تتحول الى فضيحة سياسية، تفوق فضيحة "ووترغيت"، ستظل تلاحق الرئيس الجديد دونالد ترامب، الذي يصر على إنكار التدخل الروسي وينفيه، ويحاول التستر عليه، ويواصل إبداء الاعجاب بالرئيس الروسي، رغم العداء الذي تبديه الاوساط السياسية في واشنطن لروسيا ولشخصية بوتين.
ما يزيد الأمر إثارة ما تناقلته الصحافة الأمريكية من تسريبات أن تهما بالخيانة ربما تنتظر ترامب لو ظل يصر على إنكار الاختراق الروسي للانتخابات الرئاسية. والأدهى أن الصحف أشارت إلى إحتمال أن يكون ترامب قد فتح، خلال حملته، قنوات اتصال خلفية مع الروس، عن طريق معاونين له، وأنه ربما يكون على اطلاع على القرصنة ويحاول الآن التستر عليها. وما يغذي هذه التكهنات الصحفية ذلك التصريح الذي أدلى به سيرغي رايبوكوف، نائب وزير الخارجية الروسي، في جريدة "نيويورك تايمز"، بعد يومين من فوز ترامب، حيث قال ان "هناك اتصالات بين موسكو وحملة ترامب الانتخابية، وأن موظفين وأعضاء في الحملة كانوا على تواصل مع مندوبين عن روسيا".
الخلاصة إذن، أن واشنطن الآن أمام فضيحة من نوع جديد، أهم وأخطر من فضيحة "ووترغيت" في السبعينات، إذ أن فضيحة "ترامب غيت" لها أبعاد خارجية. فإذا كان التحقيق قد استغرق عامين لادانة الرئيس نيكسون، المحامي والسياسي الذكيُ المراوغ، وهو يحاول التملص من مسئوليته عن فضيحة "ووترغيت"، فكم يحتاج المحققون من وقت للايقاع بترامب، رجل المال والاعمال ليحملوه مسئولية فضيحة "ترامب غيت"؟ لقد وجد نيكسون نائبه جيرالد فورد ليُصدر عفوا رئاسيا عنه، لتجنيبه دخول السجن، فهل سيجد ترامب من يعفو عنه لو أُدين؟ وهل يعيد التاريخ نفسه في واشنطن؟