الاهرام حذفت اليوم اجزاءا من هذا المقال هاجم فيها الكاتب الشهير بتوجهاته اليسارية والحقوقية السياسة الاقتصادية للنظام ..ونحن هنا نعيده كاملا
للمفكر الأمريكي التقدمي هربرت شيللر كتاب متميز بعنوان " المتلاعبون بالعقول" ترجمه الى اللغة العربية مثقفنا الراحل عبد السلام رضوان في منتصف الثمانينيات. وهذا الكتاب مع أنه صدر بلغته الأصلية الإنجليزية عام 1974 إلا أن إعادة قراءته والى الآن تمنح منهجا علميا ومفاتيح معرفية تحليلية لفهم أساليب الإعلام تضليل الجمهور وخداعه في مجتمع رأسمالي يسوده المال و الربح والتسلط ، سواء بالنسبة لوعي هذا الجمهور بهمومه وواقعه المحلي أو بالعالم والمجتمعات الأخرى .وثمة فصل ممتع بالكتاب في تشريح المنطق الاستعماري لمجلة " ذا ناشيونال جيوغرافي" الأمريكية الشهيرة ، بل والعنصري أحيانا.
ولعل ما استقر في ذهني منذ قرأت هذا الكتاب حين نشرته سلسلة عالم المعرفة الكويتية في طبعته الأولى أكتوبر 1986 هو هذا الارتباط الوثيق بين إهانة العقل والاستخفاف بالتفكير العلمي وبين احتقار الناس. وهو ما وجدت له شواهد بلا حصر في مجتمعنا هنا وبخاصة في هذه الأيام. خذ على سبيل المثال هذه المعالجة السائدة لأزمة الدولار والجنيه والقرارات المالية والاقتصادية الأخيرة . كيف يتم تجزئة المعلومات وبترها وتغييبها على غرار ماكشف عنه شيللر في تحليله لنشرات أخبار قنوات التلفزيونات الأمريكية الكبري.وهذا حين لانستدعى من الذاكرة ولانطرح أسئلة من قبيل : لقد صدر قرار مماثل بتخفيض العملة الوطنية مقابل الدولار الأمريكي في مارس الماضي ، فلماذا استمرت السوق السوداء وجنون ارتفاع قيمة العملة الأجنبية ؟. وما الذي يحول دون تكرار السيناريو نفسه ؟ . وأليست قيمة وقوة العملة تعكس حال الاقتصاد و الإنتاج ؟ ،و ماهي خبرتنا السابقة وخبرات الشعوب الأخرى مع صندوق النقد والبنك الدوليين ؟ وكيف كانت العواقب ؟ ،وألا توجد سياسات واجراءات بديلة لهذه الروشتة الرأسمالية المكرورة من غلاء أسعار السلع الأساسية و سحق الفقراء والطبقة الوسطى و خصخضة الشركات والبنوك العامة وتخفيض قيمة العملة الوطنية ؟ .وهل من المنطقي الحديث عن أسعار عالمية بدون أجور عالمية ؟،وهل من المفهوم الأخذ بالاقتصاد الرأسمالي الفج من دون نقابات قوية ومجتمع ديموقراطي ؟،وهل الإصلاح الاقتصادي محض اجراءات مالية فنية تقنية منزلة علينا بحكمة أيديولوجية رأس المال المدعاة أم أنها وبالأساس اختيارات سياسية وتحيزات اجتماعية لصالح فئة على حساب فئات ؟ ومن يدفع فاتورة الإصلاح وكيف يتقاسم الناس أعباءها ؟ . وبالأصل هل حقا هو " الإصلاح " أم إنه شئ آخر؟ . وألا تعكس حجة أنه (لابديل ولامفر عن هذا الدواء المر ) قصورا في التفكير و استهانة بالعقل وإهدارا للبدائل تماما كما يستخدم الصهاينة العبارة نفسها لتبرير مذابحهم وطردهم للشعب الفلسطيني من أرضه؟ .
وخذ على سبيل التحديد ما نشرته صحيفة " الأخبار " في أعلى صفحتها الثالثة أمس الأول الأحد نقلا عن نائب في لجنة حقوق الانسان بالبرلمان عن أن السجين عندنا يتقاضى أجرا مقداره سبعة جنيهات نظير يوم العمل الواحد ، يحصل على نصفه سلعا من " كانتين " السجن ونصفه الآخر نقدا ، وقوله أن "هذا يعني امكانية قيام المسجون بإعالة اسرته من داخل السجن ". بل أن سيادة النائب ذهب الى أن هناك سجينا كون ثروة مقدارها 30 ألف جنيه .هكذا من ثلاثة ونصف من الجنيهات ( أي أقل من ربع دولار بأسعار البنوك الآن) يتقاضاها عن كل يوم عمل . والحقيقة أن هذه الدقة في الحساب مذهلة وخارقة للعادة إذا ما تبينا أن الصحيفة ذاتها وفي الخبر نفسه نقلت عن عضو بلجنة الخمسة المنوط بها فحص حالات الشباب المحبوسين أنه لا إحصاءات عن أعدادهم ولا قوائم بأسمائهم.
ولست بحاجة لأن استعرض نماذج أخرى ـ هي للأسف بلا حصر ـ عن الاستخفاف بالعقول واحتقار الشعب .يكفى تصريح أحد رجال الدين بأن على المصريين أن يتحملوا و يأكلوا ورق الشجر إذا أعيتهم الأزمة الاقتصادية. هكذا قال في القرن الحادي والعشرين . وما يلفت النظر بشكل عام هو حالة التهجم على الشعب واحتقاره التي أصبحت أشبه بهستيريا يقودها أوكسترا غير سيمفوني . وكأنه لايكفي الناس معاناتهم في كل أوجه المعيشة . وحالة الهستيريا هذه تستفحل كلما زاد التلاعب بجيوب الناس .وكأنه لايكفي ما يتحملونه من معاناة . بل يجب أن يقترن الأمر بإهانتهم والتلاعب بالعقول . وأختتم هنا بملاحظتين :الأولى أن الموجة الأخيرة من احتقار الشعب وإهانته مهد لها البعض بكلام كثير عن أن ثورة 25 يناير هي السبب في معاناة الناس الاقتصادية وغير الاقتصادية . وبالتالي يحق التشفي فيمن ثاروا وتخويفهم من العودة الى طلب التغيير. وهو أمر ينطوى إلى جانب إهانة الشعب على تلاعب سافر بالعقول واستخفاف بها . هذا على الأقل لأن السؤال المسكوت عنه هنا : وهل تغيرت السياسات تسببت في معاناة الناس ودفعتهم للثورة؟ . والملاحظة الثانية أن عدد المواطنين الذين يتحدثون الى أنفسهم بصوت مرتفع في الشوارع الى زيادة.وهو حديث لايخلو أحيانا من العراك مع الذات . وهذا تماما كما كان عليه الحال في السنوات الأخيرة لعهد مبارك . وهي ظاهرة بدا أنها اختفت مع 25 يناير وفي اعقابها قبل أن تعود من جديد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق