22 أكتوبر 2023

زهير كمال يكتب :الملحمة الغزّية


أيها المارون بين الكلمات العابرة

خذوا حصّتكم من دمنا وانصرفوا

محمود درويش

مثل طائر الفينيق ينهض من الرماد نهض الجيل الثالث والرابع من الفلسطينيين وحققوا مع غروب شمس السابع من اكتوبر 2023 انتصاراً ساحقاً ماحقاً على آلة الحرب العسكرية الإسرائيلية ،  نصر تمثل في التغلب على اسرائيل في نقطة تفوقها، في العقل والذكاء والقدرة

على التخيل، أليس أينشتاين واوبنهايمر وثلة كبيرة من العلماء المحترمين منهم، ألم يخترعوا القبة الحديدية وبيجاسوس والأسوار المنيعة التي لا تسمح بعبور  فراشة فوق الأرض أو دودة تحتها. وكل هذا التفوق انهار بأدوات بدائية صنعها الفلسطينيون بإمكانات بسيطة ولكن مع كثير من الإرادة الحديدية مكّنتهم من التغلب على أعتى قوة في الشرق الأوسط في وقت قياسي، ولهذا جاء القهر والغضب الإسرائيلي الذي لا يوصف.

كيف يمكنهم بعد الهزيمة، تسويق أنهم قوة ردع قاهرة لا تجروء دول المنطقة على تحديها؟ كيف يمكنهم تسويق منتجاتهم عالية التقنية وبيعها للزبائن المتشككين.

بعد أن كان الهدف في الحروب السابقة قتل بعض قادة الفصائل وتدمير بعض الأبراج السكنية، أصبح استئصال المقاومة نهائياً مرة واحدة وللأبد هو الهدف الجديد لإسرائيل حتى    تحتفظ بموقعها أنها صاحبة الكلمة العليا في المنطقة.

ولتحقيق هدف استئصال المقاومة، تريد إسرائيل تغيير الواقع الديموغرافي لغزة بالقصف العنيف المتواصل لكافة المناطق فيها ووقف شريان الحياة عن القطاع المحاصر من وقود وماء وغذاء  ثم الطلب من السكان المنهكين المرعوبين التوجه الى جنوب القطاع، ثم في مرحلة لاحقة أخراجهم الى سيناء، لو حققت إسرائيل رغبتها يصبح التعامل مع مترو أنفاق حماس أسهل. لم يغادر معظم سكان شمال غزة بيوتهم، كيف يمكنهم ذلك والقصف يطول السكان شمالاً وجنوباً، الانتقام الأعمى جعل قادة إسرائيل لا يستطيعون تنفيذ خطة بسيطة أنه إذا أردت تفريغ الشمال فاجعل الجنوب آمناً وهكذا عاد الذين نزحوا الى أماكنهم السابقة.

الذين فقدوا بيوتهم لجأوا الى مدارس وكالة غوث الأمم المتحدة ومن لم يجد مكاناً هناك لجأ إلى المناطق المحيطة بالمستشفيات حيث توجد إنارة في الليل وربما يستطيعون الحصول على بعض من مياه لإرواء عطشهم.

لم يكن باستطاعتهم قصف المدارس التي تحمل علم الأمم المتحدة حتى الآن، فالضجة التي قامت في العالم على مذابح قانا في لبنان ما تزال ماثلة في الأذهان ولن تموت بالتقادم. ولهذا كان هدفهم التخلص من المدنيين الذين لجأوا الى محيط المستشفيات، وتم توجيه عدة انذارات للقائمين عليها بإغلاقها وهو ما رفضوه.

كان السؤال أمام صانع القرار الإسرائيلي: هل ستوقف خطتنا بعض  مستشفيات تخدم (حيوانات بشرية)؟ وكان الجواب ضربها والتعامل مع النتائج فيما بعد. من يبالي ببعض الصراخ العالمي وحكومات دول الغرب قاطبة معهم، إن لم نبالغ ونقول أنها في جيبتهم.

تم قصف المستشفى المعمداني بقنبلة من نوع MK-40 الأمريكية الصنع ، كانت النتيجة صادمة فقد قتل ما يقرب من 500 مدني في هذا القصف، هذه الوحشية فاقت طاقة البشر على تحملها. وهي جريمة حرب كاملة الأركان يعاقب القانون الدولي على كل من أصدر الأوامر وكل من نفذها وكل من أيدها من الساسة الغربيين.

ولهذا السبب حاولت إسرائيل التملص من ارتكاب الجريمة باتهام حماس ثم اتهام الجهاد الإسلامي ، لم ينطل هذا الاتهام على أحد.   

يبرز هنا سؤال: هل وجود حاملة الطائرات جيرالد فورد قرب السواحل الفلسطينية هو لمجرد إثبات الوجود أم أن طياريها يشاركون بقصف غزة أيضاً؟ لا أستغرب أن تكون إحدى الطائرات الأمريكية، بعد أن زودها الإسرائيليون بإحداثيات الموقع ونوع القنبلة المطلوب استعمالها، قيامها بتنفيذ المهمة.

هذا الاتهام له أسبابه من بينها طريقة التفكير الصهيونية ، ففي العقل الصهيوني لابد لهم أن يمسكوا بأيديهم أوراق ضاغطة حتى لا تتم مفاجأتهم، على سبيل المثال في الانتخابات التي تجري في الدول الغربية يتم دعم المرشحين من كافة الاتجاهات بشكل سري، والفائز سيكون ممتناً لداعميه وفي المقابل سيقدم لهم الدعم والتأييد، وعندما ينتهي دوره يتم لفظه والقضاء عليه بشكل مهين بتدبير فضيحة مشينة له. ولعل أبرز مثل على ذلك تدمير البارجة ليبرتي التابعة للبحرية الأمريكية بعد انتهاء مهمتها في حرب عام 1967 بدون اعتبار الخدمات التي قدمتها لهم .

التورط الفعلي في ارتكاب الجريمة جعل بايدن يؤيد نظرية أن (الجانب الآخر) هو السبب، ثم بعض الهمهمات عن فتح ممرات إنسانية لتزويد أهل غزة من معبر رفح بالماء والغذاء.

ولا شك أن هذا اتهام خطير للولايات المتحدة ولكن لن نستطيع معرفة الحقيقة إلا بعد خمسين عاماً بعد كشف الارشيف الأمريكي حيث تكون الاوضاع قد بردت وأصبحت من الماضي السحيق.

ولكن ما حدث عزز سطوة نتنياهو وجعل من يد إسرائيل  اليد العليا،  لم يكونوا بحاجة الى ذلك فالإدارة الصهيونية في البيت الأبيض لبت النداء فوراً وطلبت من الكونجرس تخصيص 10 مليارات دولار كمساعدة عاجلة.

بعيداً عن هذا الخيال الجامح كان هدف كتائب عزالدين القسام في البداية متواضعاً: عدم استباحة الأقصى وتحرير كافة الأسرى القابعين في السجون الإسرائيلية منذ فترات طويلة

ما حدث أن الجيش الإسرائيلي كان في منتهى الضعف،  وفي نفس الوقت كل المنطقة المحيطة برميل بارود قابل للانفجار في أي لحظة.

احتلال كتائب القسام لمستوطنات غلاف غزة كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، لأول مرة في تاريخ الصراع تحارب اسرائيل داخل حدودها، في عام 1948 لم تستطع 7 جيوش عربية دخول مناطق تواجد الإسرائيليين في فلسطين، حتى حرب عام 2006 مع حزب الله كانت تدور على الأرض اللبنانية.

رسمت الخطوات التي سيمشيها كل طرف، وليس هناك من طريق أخرى أمام الأطراف المتصارعة ،. هناك تعبير طريف استعمله بعض المعلقين ، أن إسرائيل لا تستطيع النزول عن الشجرة، والحقيقة أنه لم يكن هناك أي شجرة بعد انتهاء يوم السابع من اكتوبر. مما يذكرنا بالملاحم الإغريقية.

من حسن حظ الفلسطينيين في هذه المرحلة أن الطرف المقابل لا يحظ بقيادات تاريخية تتمتع بالذكاء والقدرة على التحليل واستنباط الحلول والتمتع بالقدرة على استشفاف المستقبل، وهذا الغباء يمتد من تل أبيب الى واشنطن.

أهم نقطة أن المواجهة هي بين دولة وبين حركات مقاومة، وحركات المقاومة مثل الزئبق لا يمكن هزيمتها أبداً. قد تصاب ببعض الهزائم في المعارك الصغيرة ( مثل القصف الجوي) ولكن على المستوى الاستراتيجي تنتصر دائماً.

ثاني نقطة في المواجهة: ان غرور القوة يعمي صاحبها عن التقدير الصحيح للموقف. الجيل الحالي من القيادة الإسرائيلية شهد انتصارات كبيرة على العرب كونت لديهم شعور أنهم سوبرمان لا يهزم وقد شطبوا من عقولهم أن المواجهة هي بين الفلسطينيين وبين الاسرائيليين ، بدأت هكذا وهي الآن هكذا وستبقى هكذا. ولكن الفلسطينيين جزء من أمة عربية والجرح والألم الفلسطيني هو جرح وألم عربي. ناهيك عن دعم الجماهير الإسلامية المطلق.

ثالثها: أن الفلسطينيين الآن يمتلكون القوة ويتمتعون بالذكاء والدعم الجماهيري اللا محدود وهم قادرون على تحمل الخسائر لأن لديهم التصميم الذي لا يتزحزح على استرجاع حقوقهم.

هل هناك حل إنساني لهذه المواجهة الدامية: نعم ، قيام دولة فلسطينية علمانية يتمتع بها كل مواطنيها بحقوق متساوية بغض النظر عن الدين أو العرق والطائفة إضافة الى ذلك عودة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم وتعويضهم عن معاناتهم الطويلة التي استمرت 75 عاماً.

حل كهذا سيوفر الكثير من الدماء والمعاناة ولكنه للأسف لن يفرض إلا بالقوة على الاغبياء وعميان البصيرة.

الفجر دائماً قادم.  

ليست هناك تعليقات: