31 يوليو 2018

نيومي كلاين يكتب : سياسة الحروب و الكوارث و الأزمات ...من خلفها؟و ماأهدافها؟


نيومي كلاين مفكرة وكاتبة كندية عرفت من خلال كتابها "بدون ماركة" والذي أحدث ضجة واسعة حين صدوره وأصبح أحد المراجع الأساسية للحركة العالمية المناهضة للنفوذ الهائل للشركات الكبرى متعددة الجنسيات والعابرة للدول. وقد أصدرت في سبتمبر الماضي كتابها الجديد والمعنون ب "عقيدة الصدمة." وسط توقعات بين المراقبين أن يفوق هذا الإصدار سابقه من حيث الشجاعة في الطرح والدقة في المضمون والقبول لدى شرائح واسعة من الشعوب المظلومة والمستغلة عبر العالم. يتناول الكتاب الأسس النظرية وتاريخ التطبيقات العملية لسياسة الاستغلال الأقصى للصدمات التي تتعرض لها الشعوب سواء كانت هذه الصدمات بفعل الكوارث الطبيعية (تسونامي ونيو أورليانز) أو مفتعلة (انقلابات، حروب، غزو، تعذيب) هذه السياسة التي ولدت في كلية الاقتصاد في جامعة شيكاغو على يد المفكر الاقتصادي ملتون فريدمان وتبنتها الإدارة الأمريكية على مدى السنوات ال 35 الماضية. تعرض المؤلفة للتجارب المؤلمة التي أخضعت لها الشعوب من أجل تحقيق مصالح طبقة النخبة الرأسمالية المتحكمة بمفاتيح الثروة ابتداءً من الانقلاب الذي قاده بينوشيه عام 1973 في تشيلي بدعم من وكالة الاستخبارات الأمريكية ضد حكومة سلفادور أيندي المنتخبة، والذي جرى في 11 سبتمبر للمفارقة، وانتهاء بالاستغلال الفاحش لمواطني نيو أورليانز بعد كاترينا فضلاً عن الممارسات المفرطة في الظلم والوحشية والفساد التي شهدها العالم أجمع في العراق مروراً بما حدث في تيانانمين وفي روسيا وجزر الفولكلاند. جميع هذه الأحداث لم تكن عشوائية ولكنها كانت ثمرة منهج مؤصل وموثق في شيكاغو يؤمن بأن النخبة الاجتماعية التي تقبض على الثروة هي وحدها المؤهلة لدفع عجلة النمو الاقتصادي وأن جميع العراقيل التي من شأنها أن تعوق مسيرة هؤلاء يجب أن تزال ولوكانت هذه العوائق تتمثل في حق المواطن العادي أن يعيش حياة كريمة تتوفر له فيها مقومات العيش الكريم الأساسية. وتقوم المؤلفة في ثنايا الكتاب بريط الأحداث والممارسات التي ترد في وكالات الأنباء على أنها أحداث متفرقة باقتدار وتوثيق متناهيين وتسلط الضوء على أن ممارسات التعذيب في أبو غريب وغوانتانامو وغيرهما من سجون السي أي إي المنتشرة عبر أوروبا الشرقية والشرق الأوسط ليست إلا جزءً لا يتجزأ من مبدأ عقيدة الصدمة والذي يجري تطبيقه على الأفراد والشعوب على حد سواء
ما الذي يربط بين انقلاب بينوشيه في تشيلي، والمذبحة في ميدان تيانانمين في الصين، وانهيار الاتحاد السوفييتي، واحداث 11 سبتمبر/ايلول ،2001 والحرب على العراق، وموجات تسونامي الآسيوية، وإعصار كاترينا في الولايات المتحدة؟ كل تلك الكوارث، سواء كانت من صنع الطبيعة أو من صنع البشر، أحدثت شعوراً بالصدمة لدى المجتمعات التي وقعت فيها، وتم استغلال تلك الصدمة لتمرير سياسات السوق الحرة، ونشر الخصخصة، وتعزيز رأسمالية الكوارث.هذه هي خلاصة ما تقوله نعومي كلاين، الصحافية، والمؤلفة، وصانعة الافلام الحائزة على العديد من الجوائز، في كتابها الجديد الموسوم بعنوان “عقيدة الصدمة: قيام رأسمالية الكوارث”، والصادر عن دار متروبوليتان بوكس

تأليف: نعومي كلاين

عرض وترجمة: عمر عدس

كان تأثير إعصار كاترينا في مدينة نيواورلينز في ولاية لويزيانا الأمريكية مدمراً وبعيد الأمد. وفي 31 اغسطس/آب 2005 كان نحو 80% من هذه المدينة قد غمرها الفيضان، حيث بلغ ارتفاع المياه في بعض المناطق اكثر من خمسة أمتار. وعلى أثر ذلك تم اخلاء نحو 90% من سكان جنوب شرق لويزيانا في عملية إخلاء لم تشهد لها الولايات المتحدة مثيلاً من قبل. .. ولكن كيف كان وقع هذه الكارثة التي دمرت اجزاء كبيرة من مدينة نيواورلينز، على بعض الساسة والمنظّرين الاقتصاديين الأمريكيين؟ تنقل المؤلفة، التي جعلت الحديث عن كارثة نيواورلينز مدخلاً لكتابها، قول عضو الكونجرس الجمهوري ريتشارد بيكر، الذي ينتمي إلى تلك المدينة، لجماعة من أنصاره “لقد نظفنا نيواورلينز أخيراً من المساكن الشعبية. لم نكن نستطيع فعل ذلك، ولكن الله فعله”. وكان جوزيف كانيزارو، أحد اشد المستثمرين ثراء في نيواورلينز، قد عبّر عن عاطفة مشابهة، إذ قال: “اعتقد ان لدينا الآن صفحة بيضاء لنبدأ من جديد وبتلك الصفحة البيضاء تتاح لنا فرص كبيرة جداً”. وتقول المؤلفة، ان المجلس التشريعي لولاية لويزيانا ظل طوال ذلك الاسبوع مزدحما بممثلي الشركات والمصالح الكبرى، وهو يساعدهم على اغتنام تلك الفرص الكبرى: عن طريق خفض الضرائب، والتقليل من الاجراءات، والحصول على عمال بأجور أرخص، وتحويل المدينة لتصبح “أصغر وأكثر أمناً” الأمر الذي يعني من الناحية العملية، وضع خطط لازالة مشاريع الاسكان العامة واستبدالها بمباني شقق سكنية يملكها الأفراد. وتخلص المؤلفة إلى القول، ان من الاشخاص الذين رأوا أن فيضانات نيواورلينز المدمرة تشكل فرصة سانحة، ميلتون فريدمان، المرشد الأكبر لحركة الرأسمالية المنعتقة من أي قيود، الذي يعود اليه الفضل في وضع قواعد لعبة الاقتصاد العالمي المطاط المعاصر. وتضيف المؤلفة، ان فريدمان، الذي كان يومئذ في الثالثة والتسعين من العمر، وفي صحة متهالكة، وجد في نفسه القوة الكافية ليكتب مقالة رأي لصحيفة “وول ستريت جورنال” بعد ثلاثة أشهر من انهيار الحواجز والسدود في نيواورلينز. وجاء في مقالته: إن معظم مدارس نيواورلينز قد دمرت، مثلما منازل التلاميذ الذين كانوا يدرسون فيها. وقد تفرق هؤلاء التلاميذ في أرجاء البلاد. وتلك مأساة، ولكنها كذلك فرصة لاجراء اصلاح جذري لنظام التعليم. وتقول المؤلفة: إن فكرة فريدمان الجذرية هي انه بدلاً من انفاق جزء من مليارات الدولارات المخصصة لإعادة البناء، في اعادة بناء وتحسين نظام المدارس العامة القائم في نيواورلينز، ينبغي على الحكومة ان تزود العائلات بصكوك يمكن انفاقها في المؤسسات الخاصة ، التي يتوخى العديد منها الربح، والتي ستتلقى دعماً مالياً من الولاية. وقد كتب فريدمان، ان من المهم جداً ألا يكون هذا التغيير الأساسي مؤقتاً ولسد الفراغ بل ان يكون “اصلاحاً دائماً”. وقد انتهزت شبكة من بيوت الخبرة اقتراح فريدمان وتقاطرت على المدينة بعد العاصفة. ودعمت ادارة جورج دبليو بوش خططها بملايين الدولارات من أجل تحويل مدارس نيواورلينز إلى مدارس خاصة يمولها الجمهور وتديرها هيئات خاصة وفق الأسس والقواعد التي تراها ومثل هذه المدارس تخلق شروخاً عميقة في المجتمع الأمريكي، ويتجلى ذلك في نيواورلينز اكثر من سواها، حيث ينظر إليها العديد من أولياء أمور التلاميذ الأمريكيين من أصل افريقي، باعتبارها وسيلة للتراجع عن مكاسب حركة الحقوق المدنية، التي ضمنت لجميع التلاميذ مستوى واحدا من التعليم. أما بالنسبة إلى فريدمان، كما تقول المؤلفة، فإن المفهوم الكلي لنظام المدارس التي تديرها الدولة ينضح بالاشتراكية. وينحصر دور الدولة في نظره في “حماية حريتنا من أعدائنا المتربصين وراء بواباتنا، ومن زملائنا المواطنين والحفاظ على القانون والنظام، وفرض تطبيق العقود الخاصة، وتعزيز الاسواق التنافسية”. وبكلمات أخرى توفير رجال الشرطة والجنود أما كل شيء آخر، بما في ذلك توفير تعليم حر ومجاني، فهو تدخل جائر في شؤون السوق


خصخصة التعليم

وفي تباين حاد مع السرعة الفاترة التي تم بها اصلاح الحواجز والسدود، وإعادة الحياة الى شبكات الكهرباء، جرى بيع نظام المدارس في نيواورلينز بالمزاد العلني بسرعة ودقة لا مثيل لهما إلا في الجيش. ففي خلال تسعة عشر شهراً، وبينما كان معظم سكان المدينة الفقراء لا يزالون خارجها، كان قد تم استبدال نظام المدارس العامة في نيواورلينز بصورة تامة تقريباً، بمدارس خاصة يديرها القطاع الخاص. فقبل إعصار كاترينا، كان مجلس التعليم يدير 123 مدرسة عامة، أما الآن فهو يدير 4 مدارس عامة فقط. ولم يكن في المدينة قبل تلك العاصفة سوى سبع من أمثال تلك المدارس الخاصة، أما الآن فيوجد منها 31 مدرسة، وكان المعلمون في نيواورلينز ممثلين في العادة في اتحاد قوي، أما الآن فقد انفرط عقد ذلك الاتحاد وتم انهاء خدمة جميع أعضائه البالغ عددهم 4700 عضو. واستؤجر بعض المعلمين الأصغر سناً للعمل لدى المدارس الخاصة المذكورة، وبرواتب أقل، أما الغالبية العظمى من المعلمين فلم تُستخدم. وهكذا أصبحت مدينة نيواورلينز المختبر البارز في المجتمع الأمريكي، لاستخدام المدارس الخاصة المذكورة، على نطاق واسع. وقد ذكر بحماس معهد المشروع الأمريكي، وهو بيت خبرة يؤمن بفكر فريدمان، ان “إعصار كاترينا قد أنجز في يوم واحد.. ما عجز مصلحو نظام المدارس في لويزيانا عن فعله بعد سنوات من المحاولة”. أما معلمو المدارس العامة، الذين رأوا الأموال المخصصة لضحايا الفيضان تُحوّل لمحو معالم نظام عام واستبداله بنظام خاص، فقد كانوا يصفون خطة فريدمان بأنها “اغتصاب أراضٍ تربوي”. وتقول المؤلفة انها تدعو هذه الغارات المنسقة على المجال العام في أعقاب الأحداث الكارثية المدمرة، مضافة إلى التعامل مع الكوارث باعتبارها فرصاً مثيرة بالنسبة الى السوق، “رأسمالية الكوارث”. وتعود المؤلفة إلى الحديث عن فريدمان، فتقول ان مقالته عن نيواورلينز كانت توصيته الأخيرة في مجال السياسة العامة، فقد توفي قبل أقل من سنة على ذلك التاريخ أي في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2006 في الرابعة والتسعين من العمر. وتبدو خصخصة نظام المدارس في مدينة أمريكية متوسطة الحجم، من المشاغل المتواضعة لرجل كان ينعم بالثناء عليه ويوصف بأنه رجل الاقتصاد الأهم في نصف القرن الماضي، والذي كان من بين مريديه العديد من الرؤساء الأمريكيين، ورؤساء وزراء بريطانيا، وأفراد النخب الحاكمة في روسيا، ووزراء المالية البولنديين، وطغاة العالم الثالث، ووزراء الحزب الشيوعي الصيني، ومديري صندوق النقد الدولي، وآخر ثلاثة من رؤساء بنك الاحتياطي الأمريكي. ومع ذلك فإن تصميمه على استغلال الأزمة في نيواورلينز من أجل الدفع قُدما بنسخة أصولية من الرأسمالية، كان وداعاً ملائماً من قبل الاستاذ الذي لا حد لنشاطه، والذي لا يتجاوز طوله 155 سنتيمتراً، والذي وصف نفسه وهو في أوج تألقه بأنه “واعظ من طراز قديم، يُلقي موعظة يوم الأحد”. وكان فريدمان وأتباعه المتنفذون، على مدى أكثر من ثلاثة عقود، يستكملون ترسيخ استراتيجية محددة، مفادها انتظار وقوع كارثة كبرى، ثم بيع أجزاء من الدولة بالمزاد العلني لجهات في القطاع الخاص، بينما يكون المواطنون لا يزالون مذهولين من الصدمة، ثم الاسراع في جعل هذه “الاصلاحات” دائمة. وتقول المؤلفة ان فريدمان، عبّر بوضوح في إحدى مقالاته المؤثرة، عن الخطة التكتيكية الزائفة، التي تشكل جوهر الرأسمالية المعاصرة، والتي تفهمها المؤلفة باعتبارها مبدأ الصدمة. وقال فريدمان في مقالته تلك: “ان الأزمات فقط سواء كانت حقيقية أو محسوسة هي التي تخلق التغيير الحقيقي. فعندما تحدث تلك الأزمات فإن الاجراءات المتخذة تعتمد على الافكار المتوفرة، وتلك فيما أعتقد مهمتنا الأساسية: ان نوجد بدائل للسياسات الموجودة، وأن نبقيها حية ومتوفرة إلى أن يصبح المستحيل من الناحية السياسية، حتمياً من الناحية السياسية”. وتعلق المؤلفة قائلة ان بعض الناس يدخرون الاطعمة المعلبة والماء استعداداً لوقوع الكوارث الكبرى، أما أتباع فريدمان فإنهم يدخرون أفكار السوق الحرة، وعندما تقع أزمة من الأزمات يكون استاذ جامعة شيكاغو مقتنعاً بأهمية العمل بسرعة خاطفة، لفرض تغير لا يمكن الرجوع عنه، قبل ان يثوب المجتمع الذي عزلته الأزمة الى رشده، ويعود إلى الخضوع “لاستبداد الواقع الراهن” وهو يقدر ان “أي ادارة جديدة لديها ستة إلى تسعة أشهر تستطيع خلالها ان تجري تغييرات كبرى، واذا لم تغتنم الفرصة لتتصرف بصورة حاسمة خلال تلك الفترة، فلن تتاح لها فرصة أخرى مماثلة”. وذلك شكل آخر من أشكال نصائح مكيافيلي الذي يرى ضرورة تحقيق الاصابات على الفور ودون تريث


استغلال الصدمة

وقد تعلم فريدمان كيف يستغل الصدمة أو المحنة الواسعة النطاق في أواسط سبعينات القرن الماضي عندما عمل مستشاراً لدى الدكتاتور التشيلي، الجنرال أوغستو بينوشيه، فلم يكن التشيليون في حالة صدمة فقط في اعقاب انقلاب بينوشيه العنيف، بل كانت البلاد كذلك تعيش صدمة التضخم الحاد، وقد أشار فريدمان على بينوشيه ان يفرض تحولاً سريعاً جداً في الاقتصاد خفض الضرائب، وتحرير التجارة، وخصخصة الخدمات، وخفض الانفاق الاجتماعي، ووقف تدخل الحكومة وتحكمها بكثير من الأمور، وأخيراً رأى التشيليون حتى مدارسهم العامة تستبدل بمدارس خاصة يمولها كفلاء. وكان ذلك أشد عملية تجميل رأسمالي تمارس في أي مكان، وأصبحت تعرف باسم ثورة “مدرسة شيكاجو”، لأن العديد جداً من رجال الاقتصاد لدى بينوشيه كانوا قد درسوا على يدي فريدمان في جامعة شيكاجو. وقد تنبأ فريدمان بأن سرعة وفجائية وحجم التحولات الاقتصادية سوف تثير ردود فعل نفسية لدى الجمهور “تسهل اجراء التعديل”. وقد ابتدع عبارة تصف هذا التكتيك المؤلم، وهي “معالجة الاقتصاد بالصدمة” وفي عشرات السنين التي تلت ذلك، عندما كانت الحكومات تفرض برامج كاسحة لتحرير السوق، كانت المعالجة الفجائية بالصدمة، هي الاسلوب الذي تختاره. وقد سهل بينوشيه اجراء التعديل، باستعماله علاجات الصدمة الخاصة به، وكانت هذه تمارس داخل زنازين التعذيب العديدة الخاصة بنظام بينوشيه، ذلك التعذيب الذي كان يحيق بأجساد من يعتبرون أميل من غيرهم الى اعتراض سبيل التحول الرأسمالي. وقد رأى كثيرون في أمريكا اللاتينية رابطة مباشرة بين الصدمات الاقتصادية التي أوصلت ملايين الناس الى حضيض الفقر، ووباء التعذيب الذي كان عقاب ألوف الناس الذين كانوا يؤمنون بوجود نوع مختلف من المجتمعات. وتضيف المؤلفة، انه بعد ثلاثين سنة من استعمال هذه الاشكال (الصيغ) الثلاثة من الصدمة التي طبقت في تشيلي، عادت هذه الصيغة إلى الظهور من جديد، بعنف أشد بكثير، في العراق. فأولاً، جاءت الحرب، التي كان الهدف منها على حد قول مؤلفي مبدأ (الصدمة والرعب) العسكري، هو “السيطرة على ارادة الخصم، وأحاسيسه وادراكه وجعل الخصم عاجزاً بالمعنى الحرفي عن الفعل أو الرد”. وبعد ذلك جاء علاج الصدمة الاقتصادية الجذري، الذي فرض، بينما كانت البلاد لا تزال تحت لهب النيران، من قبل المبعوث الأمريكي بول بريمر وذلك بالخصخصة الشاملة، والتجارة الحرة بصورة كاملة، وخفض الضرائب بنسبة 15%. وخفض حجم الحكومة على نحو دراماتيكي. وتمضي المؤلفة قائلة انها بدأت اجراء ابحاثها على اعتماد السوق الحرة على قوة الصدمة، قبل أربع سنوات خلال الأيام الأولى من احتلال العراق، وبعد قيامها بالتغطية الصحافية من بغداد لمحاولات واشنطن الفاشلة ان تنتقل بعد الصدمة والرعب الى العلاج بالصدمة، سافرت المؤلفة الى سريلانكا، بعد شهور عدة من وقوع كارثة تسونامي المدمرة، وشهدت نسخة اخرى من المناورة ذاتها كما تقول: حيث تقاطر المستثمرون الأجانب والمقرضون الدوليون على استغلال جو الذعر وتسليم الخط الساحلي الرائع برمته إلى المقاولين الذي سارعوا الى بناء المنتجعات الضخمة، ومنعوا مئات الألوف من السكان الذين يعيشون على الصيد من اعادة بناء قراهم قريباً من الماء، وتنقل المؤلفة ما اعلنته الحكومة الاندونيسية في ذلك الوقت اذ قال ناطق باسمها “في انعطاف قاس للقدر، قدمت الطبيعة لسريلانكا فرصة فريدة، فمن رحم هذه المأساة العظيمة سيولد موقع سياحي ذو مرتبة عالية”، ففي الوقت الذي ضرب فيه إعصار كاترينا مدينة نيواورلينز، وبدأت جوقة الساسة الجمهوريين، وبيوت الخبرة، والعاملين على تطوير الأراضي واستغلالها الحديث عن “الصفحات البيضاء” والفرص المثيرة، كان واضحا ان هذا هو الأسلوب المفضل الآن لدفع أهداف تكتلات الشركات الكبرى الى الأمام، وهو: استغلال لحظات الصدمة الجماعية للانخراط في هندسة اجتماعية واقتصادية جذرية. ومظم الناس الذين ينجون من كارثة مدمرة يريدون عكس فكرة الصحيفة البيضاء، فهم يريدون انقاذ ما يمكن انقاذه والبدء في اصلاح ما لم يدمر، كما يريدون توكيد علاقتهم وارتباطهم بالأماكن التي كونتهم، وكما قالت احدى المنكوبات في مدينة نيواورلينز “عندما أعيد بناء المدينة أعيد بناء نفسي”. ولكن رأسماليي الكوارث لا يعنيهم اصلاح ما كان، ففي العراق، وسريلانكا، ونيواورلينز، بدأت العملية التي تسمى زوراً باسم “اعادة البناء” بإنهاء المهمة التي بدأتها الكارثة الاصلية، وذلك بمحو ما تبقى من المجال العام والمجتمعات التي اقتلعت، واستبدالها، قبل ان يتمكن ضحايا الحرب او الكارثة الطبيعية من اعادة تنظيم انفسهم وتعزيز مطالبتهم بما كان لهم. وتستشهد المؤلفة بقول رئيس احدى الشركات الأمنية في العراق، وهو ضابط سابق في وكالة الاستخبارات المركزية: “بالنسبة إلينا، وفر لنا الخوف والفوضى فرصة ذهبية” وهو يشير بذلك إلى أن الفوضى التي سادت العراق بعد الغزو، ساعدت شركته الأمنية المغمورة والتي تفتقر إلى الخبرة، على اقتناص 100 مليون دولار من الحكومة الأمريكية على هيئة تعاقدات، وتصلح كلماته، كما تقول المؤلفة، ان تكون شعاراً للرأسمالية المعاصرة فالخوف والفوضى هما المحفزان على كل قفزة جديدة الى الأمام


قوة الصدمة والرعب العسكرية

تقول المؤلفة انها عندما بدأت إجراء بحثها هذا على العلاقة بين الأرباح الهائلة والكوارث العظيمة، كانت تشهد تغيراً أساسياً في الطريقة التي يتقدم بها الدافع الى “تحرير” الأسواق، في أرجاء العالم. فهي بوصفها جزءاً من الحركة المناهضة للتنامي الهائل في قوة ونفوذ تكتلات الشركات الكبرى، كانت تألف رؤية السياسات المحابية لأصحاب الأعمال والمشاريع وهي تفرض من خلال عمليات لي الذراع التي تجري في مؤتمرات منظمة التجارة العالمية، أو الشروط التي تقرن بالقروض من صندوق النقد الدولي، وكانت المطالب الثلاثة، التي تشبه الماركة المسجلة، وهي الخصخصة ووقف تدخل الحكومة، وعمليات الخفض الحاد للانفاق الاجتماعي تميل إلى أن تكون ضد مصلحة المواطنين بصورة متطرفة، ولكن عندما كان يتم توقيع الاتفاقيات، كانت تبقى على الأقل ذريعة الرضا والموافقة المتبادلة بين الحكومات التي تجري التفاوض، إلى جانب الاجماع بين من يفترض انهم خبراء، أما الآن فإن البرنامج الايديولوجي ذاته، يتم فرضه بأشد الوسائل القسرية الممكنة وقاحة، أي عن طريق الاحتلال العسكري الاجنبي بعد القيام بالغزو، أو بعد حدوث كارثة طبيعية مدمرة، على الفور، ويبدو أن 11 سبتمبر/ ايلول قد وفر لواشنطن الضوء الأخضر لكي تكف عن سؤال الدول عما اذا كانت تريد النسخة الأمريكية من “التجارة الحرة والديمقراطية”، وان تبدأ فرضها بقوة الصدمة والرعب العسكرية

إدارة بوش حوّلت هجمات 2001 إلى مشروع يدر الأرباح

تواصل المؤلفة الحديث عن مبدأ الصدمة، التي تسبق اجراء التغييرات الرأسمالية الكبرى في المجتمعات. وتقول انها كلما تعمقت في دراسة تاريخ الكيفية التي اجتاح بها نموذج السوق هذا، العالم، اكتشفت ان فكرة استغلال المحن والكوارث كانت وما تزال اسلوب عمل حركة ملتون فريدمان منذ البداية، فقد كانت صيغة الرأسمالية الأصولية هذه بحاجة الى الكوارث دائماً كي تتقدم. ومن المؤكد ان هذه الكوارث المساعدة تصبح أضخم شيئاً فشيئاً وأشد إثارة للصدمة والذهول، ولكن ما كان يحدث في العراق وفي نيو أورلينينز لم يكن اختراعاً جاء في أعقاب 11 سبتمبر/أيلول بل ان هذه الممارسات الوقحة في استغلال المحنة كانت تجسيداً لثلاثة عقود من الالتزام الصارم بمبدأ الصدمة. فإذا نظرنا الى السنوات الخمس والثلاثين الماضية من خلال عدسة هذا المبدأ، لبدت مختلفة جداً. فبعض أشهر انتهاكات حقوق الانسان في هذه الحقبة، والتي اعتبرت اعمالاً سادية ارتكبتها أنظمة مناوئة للديمقراطية، كانت إما مرتكبة عن عمد بقصد ارهاب العامة، وإما انها استغلت بنشاط لتهيئة الأرضية لإدخال “اصلاحات” سوق حرة جذرية. ففي الأرجنتين كان “اختفاء” ثلاثين ألف شخص معظمهم من الناشطين اليساريين، على أيدي الطغمة العسكرية في السبعينات، مكملاً لفرض سياسات مدرسة شيكاجو في البلاد، تماماً مثلما كان الارهاب قريناً للنوع ذاته من المسخ الاقتصادي في تشيلي. وفي الصين سنة ،1989 كانت صدمة مذبحة ميدان تيانانمين وما أعقبها من اعتقال عشرات الألوف، هما اللذان أطلقا يد الحزب الشيوعي لتحويل الشطر الأعظم من البلاد إلى منطقة تصدير ممتدة، غاصة بعمال يمنعهم الذعر عن المطالبة بحقوقهم. وفي روسيا سنة ،1993 كان قرار بوريس يلتسين ارسال الدبابات لقصف مبنى البرلمان وحجز قادة المعارضة هو الذي مهد السبيل أمام حركة الخصخصة الواسعة النطاق التي خلقت الأقليات المتحكمة سيئة الذكر في البلاد. وقد خدمت حرب فوكلاند سنة 1982 غرضاً مشابهاً لدى مارجريت تاتشر في الولايات المتحدة: فقد سمحت الفوضى والهياج القومي الناتجان عن الحرب لتاتشر أن تستخدم قوة هائلة لسحق عمال مناجم الفحم المضربين، وأن تطلق أول سعار للخصخصة في دولة ديمقراطية غربية. وقد خلق هجوم حلف شمال الأطلسي على بلجراد سنة 1999 الظروف لإجراء خصخصة سريعة في يوغوسلافيا السابقة وذلك هدف يعود تاريخه إلى ما قبل الحرب. وتقول المؤلفة إن الشؤون الاقتصادية لم تكن بحال من الأحوال الدافع الوحيد لهذه الحروب، ولكن في كل حالة منها تم استغلال صدمة جماعية كبرى لتمهيد السبيل أمام علاج بالصدمة الاقتصادية. وتضيف المؤلفة أن الصدمة التي تهدف للقضاء على المعارضة، لا تحدث بعنف ظاهري دائماً، ففي أمريكا اللاتينية وآسيا في الثمانينات، كانت محنة الديون هي التي أجبرت الدول على أن “تتخصخص أو تموت”، على حد تعبير أحد المسؤولين في صندوق النقد الدولي. فبعد أن أنهكها فرط التضخم، وأصبحت مدينة إلى درجة لا تسمح لها برفض المطالب التي جاءت مقرونة بالقروض الأجنبية، قبلت الحكومات “العلاج بالصدمة” على أمل أن ينقذها ذلك من كارثة أعمق، كما حدث مع بعض دول آسيا سنة 1997 1998. وكان العديد من هذه الدول ديمقراطياً، ولكن تحولات السوق الحرة الجذرية لم تفرض فيها بطريقة ديمقراطية. بل على العكس تماماً، إذ وفر جو الأزمة الواسعة النطاق الذريعة اللازمة لنقض أماني الناخبين وتسليم البلاد إلى “تكنوقراطيين” اقتصاديين. وكانت هنالك حالات، جرى فيها تبني سياسات السوق الحرة بطريقة ديمقراطية حيث كان هنالك ساسة خاضوا الانتخابات على أسس متشددة وفازوا فيها، وخير مثال على ذلك الولايات المتحدة في عهد رونالد ريجان، وانتخاب نيكولاي ساركوزي في فرنسا في الآونة الأخيرة. ولكن أنصار السوق الحرة واجهوا ضغطاً شعبياً وكانوا مضطرين لذلك إلى تعديل خططهم الراديكالية، وقبول إجراء تغييرات تدريجية بدلاً من التحول الكلي. وخلاصة القول إنه بينما يصلح أنموذج فريدمان لأن يفرض جزئياً بموجب الديمقراطية، فإن الظروف الاستبدادية مطلوبة لتطبيق نسخته الحقيقية، ولكي يطبق العلاج بالصدمة الاقتصادية من دون قيود، كما حدث في التشيلي في السبعينات، والصين في أواخر الثمانينات وروسيا في التسعينات، والولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر/ أيلول ،2001 كان مطلوباً على الدوام نوع من الصدمة الجماعية الكبرى الإضافية، صدمة إما أن تعلق تطبيق الممارسات الديمقراطية مؤقتاً أو تعطلها بصورة تامة. وكانت هذه الحملة الإيديولوجية الشرسة قد ولدت عند الأنظمة الاستبدادية في أمريكا الجنوبية، وفي أوسع المناطق التي فتحتها مؤخراً وهي روسيا والصين تتعايش بكل ارتياح، وبأكبر قدر من جني المكاسب مع قيادة ذات قبضة حديدية حتى يومنا هذا

يتبع

ليست هناك تعليقات: