انتقل الى رحمة الله يوم الاحد الموافق 26 سبتمبر 2021 المؤرخ الكبير الدكتور/ قاسم عبد قاسم، الذى تعتبر كتاباته عن الحروب الصليبية وعن العصور الوسطى من اهم المراجع المنهجية والتاريخية فى المكتبة العربية، والتى تمثل بالنسبة لنا النافذة الاوسع والادق والاكثر مصداقية للتعرف على هذه المرحلة الهامة والمفصلية من تاريخ الامة، بالذات فى كتابه "ماهية الحروب الصليبية" الذى اصدرته سلسلة عالم المعرفة الكويتية، والذى قمت منذ بضع سنوات بتقديمه فى عدة حلقات.
واليوم أعيد نشر هذه السلسلة التى تتكون من أربع حلقات، تكريما للراحل العزيز، وتنويها للقراء الكرام بالذات من الاجيال الجديدة باهمية الاطلاع والانفتاح على الانتاج الفكرى والتاريخى لمفكر ومؤرخ ثقيل الوزن وغزير العلم.محمد سيف الدولة***
قراءة تاريخية عامة للحروب الصليبية.
***
مدخل تاريخى:
· يمكن اعتبار يوم 27 نوفمبر 1095 هو البداية الفعلية لأحداث الحركة الصليبية، وهو تاريخ الخطبة الشهيرة التى القاها البابا "أوربان الثانى" فى منطقة كليرمونت بجنوب فرنسا، والتى وجه فيها الدعوة الى شن حملة تحت راية الصليب ضد المسلمين فى فلسطين.· وكانت هذه الخطبة بمثابة اشارة البدء لسلسلة من الحملات الصليبية، قادتها اوروبا الكاثوليكية للعدوان على العالم العربى تحت راية الصليب.
· بدأت اولها عام 1096 ولم تنتهِ وتندثر الا عام 1291.
· خلال هذه الفترة اسس المعتدون عدد من المستوطنات الصليبية على التراب العربى فى فلسطين وأعالي بلاد الشام والجزيرة.
· وكانت هذه الحملات سببا رئيسيا من اسباب تعطل قوى الابداع والنهوض والنمو فى الحضارة العربية الاسلامية، والتى ادت فيما بعد الى ضعفها ووقوعها تحت السيادة العثمانية.
· ورغم ان العثمانيين قاموا بحماية العالم الاسلامى من العدوان الغربى لقرون طويلة، الا انهم لم ينجحوا فى اعادة استنهاضه من التراجع الذى تم بسبب الحروب الصليبية، مما ادى فى النهاية الى سقوط العالم العربى تحت الاستعمار الاوروبى الحديث.
· كما كانت هذه الحروب هى اول المشروعات الاستعمارية الاوروبية، وكانت السابقة او التجربة التى سبقت مرحلة الاستعمار الحديث.
· فضلا على انها كانت الهاما للتجربة الصهيونية الاستيطانية.
***
مصطلح الحروب الصليبية :
جذور الايدولوجية الصليبية:
اولا ـ الحج والحرب الصليبية:
· ظهرت فكرة الغفران الصليبى والنظام الكنسى المبكر للتكفير عن الذنوب. والغفران له ثلاث خطوات هى الاعتراف بالذنب والرضا والمصالحة بمعنى العودة الى الجماعة المسيحية. وكان الحج هو احد الوسائل الهامة للتكفير عن الذنوب (الحج التكفيرى)· لم تتوقف رحلات الحج الى الاراضى المقدسة عبر العصور، فى ممارسة دينية هادئة وطبيعية، وتنامت هذه الرحلات فى القرن الحادى عشر كوسيلة للتكفير عن الذنوب، كما أسلفنا، بتوجيه من الكنيسة او بفرض منها، او الحج للرغبة فى الخلاص قبل نهاية العالم، وفقا لبعض الاساطير والخرافات التى سادت، عن نهاية العالم بعد الالفية الاولى من ميلاد السيد المسيح. المهم ان حركة الحج ظلت حركة متصاعدة.
· ولقد استثمر اصحاب الدعوة الصليبية، حركة الحج التى وصلت فى القرن الحادى عشر الى مجموعات يصل عددها الى عدة آلاف.· ثم تطورت فكرة الحج فيما بعد الى فكرة الحرب الصليبية، انطلاقا من افكار مثل: ان الارض التى شهدت قصة المسيح وفيها ضريحه لابد وان تكون تحت سيطرة اتباعه، وضرورة تخليص الارض المقدسة من المسلمين، وحملات الحج المسلحة او عسكرة الحج. ومما جاء فى خطبة البابا الشهيرة:((اننى اخاطب الحاضرين، وأعلن لاولئك الغائبين، فضلا على ان المسيح يامر بذلك، انه سوف يتم غفران ذنوب اولئك الذاهبين الى هناك اذا ما انتهت حياتهم باغلالها الدنيوية سواء فى مسيرتهم على الارض او اثناء عبورهم البحر، او فى خضم قتالهم ضد الوثنيين. وهذا الغفران امنحه لكل من يذهب بمقتضى السلطة التى اعطانى الرب اياها))· ولقد منح البابا الغفران الجزئى من الذنوب الى كل الذاهبين للحملة الصليبية ضد الوثنيين.· وطور البابا اجينيوس الثالث الغفران فى الحملة الثانية 1145/1149 الى غفران الخطايا والاعفاء من التوبة والتكفير.· وتطورت مسالة الغفران لتشمل الحملات ضد اعداء الكنيسة داخل اوروبا نفسها.· ولقد أصبح الغفران بعد ذلك سلعة تباع بالمال فيما عرف من صكوك الغفران، ولكن هذه مسألة أخرى.
***
ثانيا ـ الحرب العادلة و الحرب المقدسة:
واخيرا كان لطبقة الفرسان الاقطاعيين التى تطورت ونضجت فى اوروبا عبر احداث القرون الماضية دورا رئيسيا فى الحروب الصليبية، من خلال مصالحها ونفوذها وقوتها العسكرية.
***
تناولنا اليوم جذور الحركة الصليبية فى مسائل مثل الحج والحرب المقدسة وتطور الفكرة الصليبية.
ولكن لا شك ان العوامل الاقتصادية والاجتماعية كان لها اهميتها البالغة فى فهم وقراءة الحروب الصليبية وهو موضوع الحلقة القادمة باذن الله.
(2)
"الظروف التاريخية والدوافع"
الظروف التاريخية التى أحاطت بهذه الحملات والحروب، وكذلك الدوافع والاسباب التى حركت كل قوى وأطراف العدوان، وذلك من خلال المحاور الاربعة التالية:
الدكتور قاسم عبده |
2) حال اوروبا عشية الحرب: (الفلاحون ـ الفرسان ـ البرجوازية الناشئة ـ الكنيسة)
3) الوضع فى الامبراطورية البيزنطية.
4) العالم العربى الاسلامى.
***
مشروع العصر:
· مثلت الحرب الصليبية انعطافا خطيرا فى تاريخ الغرب الاوروبى من حيث مجالها الجغرافى او اطارها الزمنى او اعداد الذين شاركوا فيها.
· وهى اول حرب يخوضها الاوروبيون تحت راية ايدولوجية واحدة.
· وكانت افرازا للتفاعل بين الكنيسة والاقطاع.
· فكانت الكنيسة تهدف الى السيادة المطلقة على العالم المسيحى منافسة فى ذلك الامبراطورية.
· وكان فرسان الاقطاع يتوقون الى توسيع سلطانهم واملاكهم، ولم يكن هذا ممكنا دون الصدام مع الملكية وكان الحل فى الحملات الصليبية.
· اما البرجوازية الناشئة ممثلة فى المدن التجارية الايطالية فكانت تهدف الى السيطرة على تجارة البحر المتوسط وتجارة العالم.
· اما الفلاحين فكانت الحملات الصليبية بالنسبة لهم، محاولة للتحرر من حياة البؤس والشقاء الذى كانوا يعيشونه فى ظل النظام الاقطاعى.
· وبذلك مثلت الحملة الصليبية مشروع العصر بالنسبة للكثيرين.
***
حال اوروبا عشية الحرب:
· منطقة جغرافية لم تتشكل بعد على المستوى السياسى.
· وكانت مجرد منطقة ريفية بالقياس بكل من العالم البيزنطى والعالم العربى الاسلامى.
· فلقد كان الطابع الريفى مسيطرا وكان هناك ادراك بضيق الاراضى الاوروبية.
· وكانت البلدة والقرية هما النموذجان السائدان.
· بالاضافة الى عدد قليل من المدن التجارية الايطالية على البحر المتوسط مثل البندقية وجنوا وبيزة.
· وكانت الناس تحت رحمة الطبيعة الى حد كبير: فيضانان ومجاعات واوبئة كانت قد ضربت اوروبا قبل الحملة الاولى بعشرة سنوات.
· وشهدت اوروبا بدءا من القرن الحادى عشر ثلاثة قرون من الابداع فى القرون الوسطى، فلقد كان تبللور المؤسسات السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية الذى بدأ منذ خمسة قرون، هو الاساس الذى قامت عليه الحضارة الاوروبية فى العصور الوسطى وشهدت هذه المرحلة عدد من الشخصيات البارزة مثل وليم الفاتح ملك انجلترا وهنرى الثالث وغيرهم من الحكام الجنود الذين يبحثون عن السلطة ، كما عاش فى القرن الحادى عشر معظم البابوات الاصلاحين الذى كان ابرزهم جريجورى السابع الملقب بالشيطان المقدس، الذى كان خليفته هو البابا اربان الثانى صاحب الدعوة الشهيرة الى الحملة الصليبية .
· كان التوسع والتنظيم من اهم سمات القرن الحادى عشر.
***
الفلاحون:
· كانوا يعيشون حياة قاسية ويعملون فى ازالة الغابات واستصلاح اراضيها.
· وكانت الاراضى الزراعية لا تزال ضئيلة المساحة بالنسبة الى مناطق البرارى والغابات والاراضى البور.
· يعيشون فى اكواخ حقيرة وطعامهم فقيرا وبسيطا من انتاج حقولهم، وملابسهم من انتاج جلود حيواناتهم، يأكلون اللحوم الطازجة مرة واحدة فى اعياد الميلاد ويحتفظون بالباقى مقددا ومملحا لباقى السنة.
· وكان القساوسة فى الريف فى معظمهم اميون، يقدمون الى الفلاحين معلومات مشوشة عن المسيحية يسودها التعصب والتزمت.
· وكان القرويون يجمعون بين التدين العاطفى والايمان بالخرافات والمعجزات.
· وكان الفلاح مقيدا بالتزامات قاسية تجاه السيد الاقطاعى، وتحول بالفعل الكثير منهم الى اقنان وفقدوا حريتهم. وفيما يلى إحدى وثائق القنانة فى ذلك العصر:
" ليكن معلوما، لكل من يجيئون بعدنا، ان رجلا فى خدمتنا يدعى وليم، شقيق رينالد، الذى ولد لابوين من الاحرار، قد تحرك مدفوعا بحب الرب صوب غاية يحسبها له الرب حسنة. اذ وهب نفسه قنا للقديس مارتن فى مورموتيه، ولم يكتف بان يهب نفسه فقط، بل وهب جميع ذريته من بعده لكى يظلوا الى الابد فى خدمة رئيس الدير والرهبان فى هذا المكان بشروط واضحة. ولكى يتم التاكيد على هذه الهبة وتوضيحها وضع حول رقبته حبلا، كما وضع اربع قطع من النقود على مذبح القديس مارتن اعترافا بالقنانة، وكرس نفسه للرب العظيم. وقد راى ما حدث، وشهد عليه اولئك الآتية اسماؤهم .. "
· وكان القن مربوطا بالارض لا يمكنه الرحيل عنها، كما لا يستطع ان يستبدل سيده.
· ولم تقف الكنيسة ضد ظاهرة الاقنان، بل استفادت منها بصفتها من أكبر ملاك الاراضى الزراعية.
· وكان الاقنان يحتلون مكانة فى البناء الاجتماعى بين الفلاحين الاحرار وبين عبيد الارض من الارقاء.
· وكان الاقنان يشكلون قطاعا هاما من سكان الريف الاوروبى عشية الحملة الاولى.
· وكان النظام الاقطاعى بجناحيه الفرسان والقساوسة يعيشون من ناتج عمل الفلاحين.
· وكان للاقطاعين السيطرة السياسية والقضائية على الفلاحين بما فيها حق جمع الضرائب منهم.
· ولذا كان الفلاحون فريسة للخوف الدائم والاضطراب المستمر والافتقار للامن، فمن ناحية يقعون تحت وطأة الطبيعة بمجاعاتها واوبئتها، ومن ناحية اخرى وقعوا تحت وطئة السادة الاقطاعيين الذين جعلوهم وقودا لحروبهم الاقطاعية.
· ولانهم قد تشبعوا منذ فترة طويلة بافكار الوعاظ الجوالين، فانهم قد وجدوا فى دعوة البابا فرصة للخلاص الدنيوى والاخروى.
· وهكذا كانت الاوضاع الاجتماعية المحبطة والجو الفكرى المشبع بالخرافات والتعصب الدينى من اهم الدوافع التى حركت المقهورين من ابناء الغرب الاوروبى الى المشاركة فى الحملة الصليبية الاولى، وهو ما ادى الى الحملة الشعبية وهى الحملة التى ازعجت البابا الذى لم يرى فى هؤلاء القوى المناسبة لتحقيق اهداف الحملة.
· لقد كان الجوع الذى عض بانيابه معظم انحاء الغرب الاوروبى فى سنة 1095 وراء خروج اعداد غفيرة من الفلاحين والمعدمين خلف قادة العصابات التى شكلت تلك الحملة الشعبية او ما سميت بحملة الفلاحين.
***
الفرسان:
· كان للعوامل الاقتصادية والاجتماعية الجافة اهمية كبيرة فى تفسير الدور الكبير الذى لعبه الفرسان الاقطاعيون فى الحركة الصليبية.
· ان من اهم خصائص القرن الحادى عشر الميلادى فى اوروبا الغربية هو بلورة النظام الاقطاعى الذى كانت مؤسساته آخذة فى التطور والنمو منذ القرن الثامن الميلادى.
· وقد قام النظام على ثلاثة عناصر هى:
اولا ـ عنصر شخصى يربط السيد الاقطاعى بتابعه ويتمثل هذا العنصر فى رابطة الولاء الشخصى الذى يدين به التابع لسيده وقد اصطلح على تسميته السيادة والتبعية
ثانيا ـ عنصر فعلى وهو حيازة الاقطاع فى مقابل تقديم الخدمة العسكرية المناسبة فى جيش السيد الاقطاعى
ثالثا ـ لا مركزية القضاء وقد اتاح هذا العنصر حقوقا قضائية للسادة الاقطاعيين على حساب سلطة الملك المركزية
· وتتلخص الفكرة الاقطاعية فى انه "لا ارض من دون سيد اقطاعى".
· وبذلك ظهر هرم اقطاعى على قمته الملك الذى له سلطة اسمية على كبار السادة الاقطاعيين.
· يليه مباشرة عدد من الامراء الاقطاعيين، لكل منهم اتباعه، ولكل تابع تابع، الى نصل الى الفارس العادى الذى يملك ارضا بالكاد تعوله وتكفيه.
· ولكل عضو فى الهرم الاقطاعى التزاماته وواجباته تجاه سيده وتجاه اتباعه.
· وكان الهدف الاساسى من التنظيم الاقطاعى هو التعاون فى الحرب.
· وكانت الحرب هى الحرفة الاساسية للفارس الاقطاعى، وكانت هى مهنة الرجل الراقى، يقضى الشطر الاكبر من حياته متدربا على القتال او مشتبكا فى معركة حقيقية.
· وكان من عادة فرسان الغرب الاوروبى منح الهبات السخية للاديرة التى اسستها العائلة او تاسيس اديرة جديدة باعتبار ان ذلك وسيلة للتكفير عن الخطايا.
· ولذلك كانت الدعوة الى الحملة الصليبية وما يصاحبها من غفران مصدر اغراء لابناء هذه الطبقة.
· ولم يكن الفارس يعيش فى مستوى افضل كثيرا من مستوى الفلاحين فى ارضه.
· وكانت الاقطاعات اقل من عدد الفرسان الطامحين الى الحصول على الارض وقد عرفت هذه الظاهرة باسم الجوع الى الارض وقد تسببت فى كثير من الحروب الاقطاعية التى مزقت اوروبا تماما.
· وقد جاء فى الخطبة الشهيرة للبابا اربان الثانى اثناء الدعوة الى الحملة الاولى ما يلى:
هذه الارض التى تعيشون عليها محاطة بالبحر من كل جانب، تحوطها سلاسل الجبال ، وتضيق باعدادكم الكبيرة ، وهى لاتفيض بالثروات الكبيرة ، وانما تكاد تعجز عن توفير الطعام لمن يقومون بزراعتها . وهذا هو السبب انكم تشنون الحرب ضد بعضكم بعضا "
· وكانت هناك اسباب أخرى وراء ضيق الارض فى اوروبا، فلقد دأبت طبقة الفرسان على اتباع عدة وسائل للحفاظ على اقطاع العائلة دون تفتيت مثل أن حق الارث قاصر على الابن الاكبر
وكان الابناء الصغر بناء على ذلك، ينتهى بهم المطاف الى الانضمام الى الكنيسة او الالتحاق بتبعية احد السادة الاقطاعيين.
· وكان هناك ايضا نظام الملكية على المشاع، او ما يسمى بملكية الاخوة، وهو النظام الذى تم ابتكاره لمنع تفتيت الارض ايضا، وهو ما ادى الى ان يتشارك الاعمام وابناء اخوتهم فى الملكية التى تضيق عليهم، مما دفع الكثير من الورثة الى الالتحاق بالاديرة والكاتدرائيات.
· وفى القرن الحادى عشر كان الانضمام الى الحملة الصليبية فرصة حقيقية للهرب من نظام ملكية الاخوة وتحقيق الاستقلال عن العائلة.
· لقد جاءت الحملة الصليبية متنفسا لطبقة الفرسان التى كان عددها ينمو باستمرار بدون نمو فى الارض
· على اى حال كانت ثمة اهداف ومطامع دنيوية عديدة وراء مشاركة ابناء هذه الطبقة فى الاشتراك فى الحملات الصليبية تبلورت كلها حول الرغبة فى التوسع وملكية الارض.
***
البرجوازية الناشئة:
· على الرغم من ان غرب اوروبا فى القرن الحادى عشر، كان منطقة ريفية الطابع، الا ان كان هناك عدة مدن ايطالية احتفظت بعلاقتها التجارية مع القسطنطينية وخرجت سفنها تجوب البحار.
· وفى منتصف هذا القرن كانت البندقية قد بنت اسطولها البحرى القوى.
· واخذت جنوا وبيزا زمام المبادرة فى الهجوم على اساطيل المسلمين التى كانت قد دابت على مهاجمة موانيهما والاستيلاء على سفنهما.
· وتحولت الى جمهوريات مستقلة غير خاضعة لسلطة الكنيسة وفرضت نفسها على تجارة البحر المتوسط.
· وكان لها دورا هاما فى الحملة الاولى فى مقابل السيطرة على موانىء شرق المتوسط.
· كانت هذه الجمهوريات تحاول ان تفوز بالثروة الطائلة التى نعم بها العالم الاسلامى.
***
الكنيسة
-كانت الكنيسة الكاثوليكية قد تورطت فى الشؤون العلمانية البعيدة عن المجالات الدينية الى حد بعيد:
o فملكياتها الكبيرة من الاراضى الزراعية، يقوم بحمايتها عسكريا وكلاء علمانيين.
o والسادة الاقطاعيون يعينون الاساقفة ومقدمى الاديرة داخل اقطاعاتهم واماراتهم، فكانوا يعملون لديهم مستشارين ورجال ادارة.
o وكذلك كان التنافس بين العائلات الكبيرة على الفوز بمنصب البابا وجعله عرشا وراثيا.
o وأدى تداخل الكنيسة مع النسيج الاقطاعى ادى فى النهاية الى أن صارت الوظائف الكنسية تباع وتشترى.
o ولقد أضر كل ذلك بالوظيفة الروحية للكنيسة الى حد بعيد.
o ولقد ادى ذلك فى مرحلة ما الى ضعف البابوية وهوانها.
·وبدءا من بدايات القرن العاشر الميلادى بدأت تتبلور على مستوى اوروبا حركة اصلاحية داخل الكنيسة، هدفت الى عدم تدخل النبلاء فى اختيار البابا وقصر هذه المهمة على الكنيسة وحدها، كما سعت الى زيادة سلطة البابا على الكنيسة فى كل مكان، مما ادى الى بداية الصدام مع سلطات الدول وملوكها فى اوروبا.
·ولقد وصل هذا الصراع الى ذروته فى عهد البابا جريجورى السابع 1073 م، الذى قام بما سمى بالاصلاح الجريجورى او الثورة الجريجورية واهتم بتدعيم سلطة الكنيسة الى ابعد الحدود واصدر مرسوما يحدد هذه السلطة يتكون من 26 نقطة كلها تدور حول مفهوم سمو البابوية على الدولة
ودخل معارك كبيرة ضد الملك الالمانى لمنعه من التدخل فى تعيين كبار رجال الكنيسة وقام بخلعه ووقع عليه قرارا بالحرمان
· وكان هذا نموذجا للصراع الذى دار بين الكنيسة والدولة. وقد وجدت الكنيسة فى الدعوة الى الحروب الصليبية وسيلة وفرصة لتحقيق السمو البابوى على الامبراطورية، فهذه الدعوة تضعها فى مكانة المدافع عن الاراضى المقدسة، وتقربها من الوجدان الدينى لدى مختلف فئات الشعب، ويمكنها من توظيف الميول الحربية لدى الفرسان بعيدا عن الملوك المنافسون لها على السلطة والسيادة على اوروبا. كما ان الحملات على الشرق ستكون بعيدة عن الاراضى التى تسيطر عليها الملكية فى اوروبا، فى ارض لا يملكونها وليس لهم عليها نفوذ.
***
اذن كان التوسع فى الخارج هدفا مشتركا للجميع: الكنيسة والفرسان والفلاحون والمدن التجارية فى ايطاليا.
***
الوضع فى الامبراطورية البيزنطية:
·عندما مات باسيل الثانى الامبراطور البيزنطى سنة 1025 م، كانت الامبراطورية شاسعة.
ولكن كان هناك مشاكل من المسلمين على الحدود الشرقية ومن السلاف فى منطقة البلقان ومن الروس ايضا.
هذا بالاضافة الى الاعداء الجدد من البشناق والنورمان والاتراك السلاجقة.
·اما البشناق فهى قبائل بدوية من اصل تركى، حاربت البيزنطيين فى البلقان وحققت انتصارات كبيرة.
·اما فى الجبهة الايطالية فكان العدو هو النورمان الذين غزوا صقلية وجنوب ايطاليا وهددوا وجود الامبراطورية ذاتها.
·اما الاتراك السلاجقة الذين ظهروا فى القرن الحادى عشر، فقد كانوا علامة على بداية مرحلة جديدة فى تاريخ العالم الاسلامى وفى تاريخ الامبراطورية البيزنطية ايضا.
وهم قبائل بدوية من الاتراك الغز وقد اعتنقوا الاسلام على المذهب السني فى القرن العاشرثم تاقلموا مع المعطيات الحضارية فى العالم الاسلامى.
ودخلوا بغداد بناء على دعوة من الخليفة العباسى 1055 م لصد مؤامرة لبسط سلطة الخلافة الفاطمية الشيعية على عاصمة الخلافة العباسية السنية، وبذلك حلوا محل البويهيين فى الهيمنة على الخلافة العباسية الضعيفة.
وبدأ نفوذهم فى التصاعد واشتبكوا فى عدة حروب مع البيزنطيين الى ان انتصروا عليهم فى معركة مانزكرت الشهيرة عام 1071 م . ونجحوا بعدها فى التوغل فى آسيا الصغرى منذ 1073م واستولوا على انطاكية عام 1085 م
· وكانت هذه المعركة تعبيرا عن حالة التردى فى اوضاع الامبراطورية التى كانت جيوشها تتكون من المرتزقة من كل لون. وكان اقتصادها منهارا وخزانتها خاوية والحروب الداخلية مشتعلة.
· وفى مواجهة هذا طلبت القسطنطينية العون من بابا روما اربان الثانى الذى وجد فيها فرصة لاعادة توحيد الكنيسة تحت قيادته بعد الانشقاق الذى تم عام 1054م.
· وفى 1095م دعا البابا الى مجمعا فى ايطاليا وطلب من الحاضرين تقديم كل مساعدة ممكنة للامبراطورية الشرقية. وكانت هذه مقدمة هامة للدعوة اللاحقة بعدها بعدة شهور الى الحملة الصليبية الاولى.
***
العالم العربى الاسلامى:
عشية الحروب الصليبية كان التمزق السياسى والتناحر العسكرى مخيما على العالم العربى:
فقد كان المسلمون فى المنطقة العربية موزعين ومنقسمين فى ولائهم السياسى بين الخلافة العباسية السنية فى بغداد والخلافة الفاطمية الشيعية فى القاهرة.
·وكانت بلاد الشام موزعة بين عدة امارات صغيرة على راسها حكام عرب او سلاجقة، تتبادل مشاعر الحقد والشك والعداء السياسى والعسكرى مما حال دون توحدها فى مواجهة الغزو الصليبى
·وكانت الخلافة العباسية فى بغداد ذو سلطة اسمية فقط انتقلت فيها من نفوذ البوهيين الشيعة الى السلاجقة الاتراك
· ونجح السلاجقة فى الاستيلاء على معظم انحاء فلسطين من الفاطميين بما فيهم القدس عام 1071التى استعادوها عام 1098م قبل ان يفقدوها على يد الصليبيين عام 1099 م.
وساد صراع آخر بين سلاجقة الشام وسلاجقة الروم حول السيادة على حلب
·كانت المنطقة العربية فى أخريات القرن الحادى عشر نهبا للمعارك بين الحكام الكثيرين الذين اقتسموا حكم مدنها واقاليمها بصورة فسيفسائية مربكة.
· والخلافة الفاطمية كانت قد دخلت مرحلة التدهور السياسى بعد ان سيطر الوزراء على الخلفاء وحولوهم الى دمى يحركونها كيفما شاءوا. وضاع نفوذهم فى الشام.
·اما مدن الشمال فى آسيا الصغرى واعالى بلاد الشام فاخذت تنتقل من حكم البيزنطيين الى حكم المسلمين وبالعكس، فخربت وتدهورت بشكل كبير.
· لقد كانت كل هذه الكيانات متورطة تماما فى الحروب والمنازعات على مدى قرن كامل قبل قدوم الصليبيين. وعندما قدموا لم يكن لدى حكام المنطقة سوى ميراث طويل من الشك والمرارة تجاه كل منهم للآخر ومن ثم مضت قوات الصليبيين كما تمضى السكين فى الزبد. وفى طيات الموجة الصليبية الاولى غرقت هذه الامارة الصغيرة واحدة تلو الأخرى. وكان سقوط مدينة نيقية فى ايدى قوات الحصار المشتركة من الصليبيين والبيزنطيين صدمة ونذير خطر لجميع القوى الاسلامية. ولكن الانانية وضيق النظر جعل تلك الصدمة وذلك النذير بلا فائدة.
..........................................................
خطبة البابا والاستجابة الشعبية
الخطبة الشهيرة :
فى السابع والعشرين من نوفمبر سنة 1095 م، ومن مدينة صغيرة فى جنوب فرنسا تدعى كليرمونت، وجه البابا اربان الثانى خطبة الى جمع غفير من الناس يشمل الاساقفة ورجال الدين والامراء والاقطاعيين، دعا فيها الى القيام بحملة مقدسة تحت راية الصليب هدفها تحرير فلسطين من ايدى المسلمين
وكان اهم ما جاء بها:
اولا ـ ان هدف الدعوة هو تحرير الكنيسة الشرقية من ربقة المسلمين. وتخليص الارض المقدسة من سيطرتهم، هذه الارض التى وصفها الكتاب المقدس بانها الارض التى تفيض باللبن والعسل، ووصفها اربان الثانى بانها ميراث المسيح.
ثانيا ـ وانه قد اضفى القدسية على نفسه اعتمادا على نصوص وردت فى الاناجيل المسيحية، واهمها نص من انجيل لوقا يقول: " ومن لا يحمل صليبه وياتى ورائى فلا يقدر ان يكون لى تلميذا"
ثالثا ـ و انه كان يدعو الى هذه الحملة المقدسة باسم الرب بوصفه نائبا عنه فى الارض، فقد ذكر انه قال "ومن ثم فاننى، لست انا، ولكن الرب هو الذى يحثكم باعتباركم وزراء المسيح ان تحضوا الناس من شتى الطبقات ..
رابعا ـ ولقد امتدح البابا شجاعة الفرنج وقدراتهم القتالية وادان حروبهم ضد بعضهم البعض وحثهم على عدم اراقة الدماء المسيحية وفرق بين الفارس الجديد الذى يحب المسيح ويحمل صليبه ويحب جاره ويناضل من اجل تحريره وبين الفارس القديم الذى يسعى وراء اطماعه الشخصية ويصب العنف على اخوانه المسيحيين.
خامسا ـ اشار البابا الى منح غفران جزئى لكل من سيشارك فى هذه الحملة، سواء مات فى الطريق الى القدس، او قتل فى الحرب ضد المسلمين.
***
·ولقد لقيت خطبة البابا استجابة فورية وهائلة، فلقد طرح مشروعا طال انتظارهم اياه بما فيه من مكاسب دنيوية وخلاص للروح. وتجسد هذ القبول والحماسة فى الصيحة المشهورة التى رددها الحاضرين "أى الرب يريدها"
· وظلت هذه هى الصرخة الرسمية للحروب الصليبية والتى يرددونها فى كل معاركهم ضد المسلمين.
·وسارع الكثيرون يقسمون امام البابا على القيام بالرحلة، كما اخذ كثيرون يخيطون صلبانا من القماش على ستراتهم
·وقد تم الاعتراف بجميع الفرسان الذين اقسموا على الذهاب، جنودا فى جيش الرب فى احتفال رمزى، وصار الصليب شارة لكل فارس فى كل حملة صليبية فهو علامة على الحماية الالهية بالاضافة الى تحوله الى شارة قانونية تدل على الامتيازات الدنيوية لان الكنيسة اصدرت مراسيم غاية فى الاهمية لصالح الصليبيين فاثناء فترة غيابه تعفى املاك الصليبى من الضرائب وقد يمنح تسهيلات فى ديون.
· ولقد حدثت استجابة سريعة من جانب الكثير من الفئات، فبدأ الغرب الاوروبى يتحرك كله استعدادا للخروج: " كافة ممالك الارض كانت تتحرك، لم يكن هناك منزل خال من المشاركين .... " على حد قول بعض شهود العصر.
***
المهندس عصمت سيف الدولة |
الحملة الشعبية
على عكس رغبة البابا الذى وجه دعوته الى المحاربين من الفرسان والنبلاء، كانت اولى القطاعات استجابة هى العامة من الفلاحين والفقراء، الذين رأوا فى هذه الدعوة فرصة للتحرر من الاحباط والجوع و من نير القنانة وسيطرة السادة الاقطاعيين.
· فقد فاقت استجابتهم كل التوقعات فى فرنسا والاراضى الواطئة والمانيا وغرب ايطاليا.
وتكونت منهم حركة شعبية ارتبطت باسم "بطرس الناسك" وهو راهب هجر الدير بتكليف من البابا لكى يقوم بالدعوة الى الحملة الصليبية.
· وقد تحول بطرس الناسك فيما بعد الى اسطورة، فقد نسب اليه فضل اثارة الغرب الاوروبى لشن الحملة الصليبية ضد الشرق العربى الاسلامى واعتبره بعض المؤرخين نبى الحركة الصليبية.
·وتكونت الحملة الشعبية من آلاف الفلاحين الذين لم ينتظروا الموعد المتفق عليه فبداوا الزحف فى ربيع 1096.
· وكان اول فرقة من حملات الفلاحين تحت قيادة شخص يدعى "والتر المفلس" وبدا اتباعه فى عمليات السلب والنهب فى اراضى بلغاريا، فقاتلهم البلغار وقتلوا العديد منهم.
· وفى 20 ابريل 1096 غادر جيش بطرس الناسك الاراضى الالمانية، وضم مئات من الافاقين والمجرمين وبنات الهوى والفلاحين والفقراء من اهل المدن فضلا على عدد صغير من الفرسان، متوجها شرقا الى القسطنطينية.
· وعند مدينة سملين على حدود المجر مع الامبراطورية البيزنطية كشف جيش الرب عن وجهه القبيح وجرت على سملين واهلها من المسيحيين مذبحة رهيبة وازهقت ارواح 4000 من ابناء المدينة.
· وتكررت الماساة فى مدينة نيش اذ قام جيش الصليبيين باحراق مساكن القرويين بسكانها الاحياء فى داخلها.
· فقامت الحامية البيزنطية بمهاجمة جيش بطرس الناسك وقتلت الكثيرين من رجاله، فتفرقوا بضعة ايام ثم تجمعوا مرة اخرى ووصلوا مشارف القسطنطينية فى اغسطس 1096 وعاثوا فيها فسادا فنهبوا واحرقوا وسرقوا. فنقلهم الامبراطور بسرعة الى آسيا الصغرى عبر المضايق وهناك ومرة اخرى ارتكبوا ابشع المذابح ضد السكان المسيحيين.
·وانتهى بهم الامر ان وقعوا فى شباك كمين أعده لهم الاتراك السلاجقة. وتم الاجهاز على الحملة الشعبية وقتل والتر المفلس وهرب بطرس الناسك الى القسطنطينية.
وكانت هذه البديات الاولى التى كشفت عن الوجه الحقيقى لجيش الرب.
...............................................
الحملة الاولى واغتصاب القدس
***
فى خضم احداث الحملة الشعبية الفاشلة، كانت البابوية والفرسان بصدد تجهيز حملة من نوع مختلف، وعلى اواخر صيف 1096 وبعد ان حلوا مشكلة التمويل كانت جيوشهم متأهبة للرحيل صوب فلسطين. وتكونت خمسة جيوش على اساس من التقسيمات اللغوية والجنسية وعلى اساس من الروابط الاقطاعية.
فقد تولى جودفرى البويونى قيادة الجيش الأول الذى جمعه من اللورين شمال فرنسا ومن الالمان، واشترك معه اخوه بلدوين.
اما الجيش الثانى فقد تكون من فرسان غرب فرنسا ونورماندى وبعض مناطق الشمال فضلا عن الكثير من الفرسان الانجليز وتولى قيادته دوق نورماندى المدعو روبرت وستيفن كونت بلوا.
اما الجيش الثالث فكان تحت قيادة ريمون الرابع كونت تولوز وتألف من فرسان جنوب فرنسا والبروفنسال وكان فى صحبته اديمار أسقف لوبوى والمندوب البابوى فى هذه الحملة.
وكان الجيش الرابع وهو أصغر الجيوش تحت قيادة هيو كونت فرماندوا المعروف باسم الاشغر وشقيق فيليب الاول ملك فرنسا.
والجيش الخامس والاخير تألف من المقاتلين النورمان الاشداء فى جنوب ايطاليا تحت قيادة بوهيموند النورمانى.
توجهت الجيوش الى القسطنطينية التى كان امبراطورها متوجس من نوايا جيوش الغرب الاوروبى المدعوم من الكنيسة الكاثوليكية. فأصر على عدم السماح بدخول القوات الصليبية المدينة والاكتفاء باستضافة القادة فقط مع اصراره ان يقسموا له يمين الولاء. وحدثت بالفعل بعض المناوشات العسكرية بين قوات الطرفين ولكنها انتهت بالتهدئة.
لتنتهى بذلك المرحلة الاولى من هذه الحملة، وتبدأ المرحلة الثانية بعبور الجيوش الصليبية مضيق البوسفور الى آسيا الصغرى ليجدوا نفسهم لاول مرة فى ارض "العدو".
***
اغتصاب عاصمة السلاجقة الروم:
فى السادس من مايو 1097 وصلت جيوشهم لمدينة نيقية (مقرها الآن مدينة اسيك التركية) عاصمة دولة السلاجقة الروم التى يحكمها قلج ارسلان. وبعد حصار مشترك صليبى بيزنطى سقطت المدينة فى 19 يونيو 1096.
وهزمت قوات قلج ارسلان فى معركة فاصلة فى بدايات شهر يوليو 1097، وقد توقفت بعدها كل مقاومة اسلامية منظمة.
***
اغتصاب الرها:
تلى ذلك سقوط امارة الرها على يد بلدوين القائد الصليبى من اللورين. وهى الآن مدينة تركية تاريخية تقع بالجزيرة الفراتية شمال شرق سوريا.
ولقد أفاد الصليبيون كثيرا، التشرذم السياسى للحكام العرب والسلاجقة فى المنطقة العربية.
***
اغتصاب انطاكية:
فى 21 اكتوبر 1097م فرض الصليبيون الحصار على انطاكية وبعد صمود دام 8 شهور سقطت المدينة بتآمر بعض الارمن الذين فتحوا احد البراج التى كانت تحت حراستهم.
وحاول جيش فارسى بقيادة كربوقا صاحب الموصل انقاذ المدينة ولكنه فشل.
ولم تسقط المدينة فورا بعد اختراقها، الى ان اخترع ولفق أحد القساوسة حكاية عن رؤية مقدسة اخبرته عن مكان الحربة التى طعن بها المسيح منذ أحد عشر قرنا من الزمان، وربط بين العثور على هذه الحربة وبين النصر. وبطبيعة الحال تم العثور على هذه الحربة بسهولة مما ادى الى رفع معنويات الفرنج وتحقيق النصر على جيش كربوقا. ولم يكن هناك جيش اسلامى آخر يمكنه سد الطريق الى القدس.
تسلم بوهيموند النورمانى القلعة من قائدها احمد بن مروان، وبعد سلسلة من الصراعات والدسائس بين القادة الصليبيين، نجحوا فى تاسيس الامارة الصليبية الثانية على ارض الشرق فى مطلع سنة 1099.
***
اغتصاب القدس:
· وفى مصر كان الوزير الفاطمى الافضل بن بدر الجمالى يراقب الموقف، فحاول مفاوضة الصليبيين على اقتسام بلاد الشام. ولكنه لم يلقَ استجابة، فقرر ان يستفيد من هزيمة السلاجقة فاغار على فلسطين ونجح فى الاستيلاء على القدس عام 1099 م.
·وفى شمال بلاد الشام كانت الاسر العربية الحاكمة ترقب انهيار السلاجقة فى سرور، ولم يتدخل أحد لانقاذ انطاكية.
·وفى يناير 1099 واصل الصليبيون زحفهم الى القدس. وكان الامراء العرب المحليين غاية فى الضعف والتشرذم لدرجة ان معظمهم كانوا على استعداد لتقديم الهدايا والاموال تحاشيا لهجوم الصليبيين عليهم.
·اتخذ الصليبيون الطريق الساحلى من جنوب طرابلس وتوغلوا فى الاراضى الفاطمية وفرضوا حصارا على مدينة القدس لمدة خمسة اسابيع من 7 يونيو الى 15 يوليو 1099 وهو اليوم الذي سقطت وكان يوافق يوم جمعة.
·ولم ينج من سكانها سوى قائد الحامية الفاطمية "افتخار الدولة" وعدد من رجاله واعقب ذلك مذبحة فظيعة وابيحت المدينة للسلب والنهب والقتل عدة ايام وفاض الدم. وظلت الجثث مطروحة فى شوارع القدس عدة ايام.
·وفى هذا الجو الموحش الكئيب، اجتمع الصليبيون فى كنيسة القيامة لاداء صلاة الشكر. وهكذا تم زرع الكيان الصليبى فى الشرق العربى.
· وبعد سلسلة من الصراعات والمناورات السياسية تم اختيار "جودفرى البويونى" حاكما لبيت المقدس تحت لقب فضفاض هو "حامى الضريح المقدس".
· وفى 12 اغسطس 1099 حاول الافضل شاهنشاه امير الجيوش المصرية مهاجمة الصليبيين ولكنه هزم وعاد الى مصر.
·وبذلك تم تامين الوجود الصليبى فى بيت المقدس الى حين.
· وبعد وفاة جودفرى البويونى تم استدعاء بلدوين من امارته فى الرها ليتولى حكم بيت المقدس. وفى الخامس والعشرين من ديسمبر 1100 م قامت مملكة بيت المقدس الصليبية.
·وكانت فى ذلك الحين تتكون من مدينة القدس الى جانب يافا واللد والرملة وبيت لحم والخليل.
·وكان لها ظهير ريفى من المسلمين الذين رفضوا التعاون مع الصليبيين.
·وفى اوروبا توفى البابا اربان الثانى صاحب الدعوة الى هذه الحملة فى 29 يوليو 1099 قبل ان تصله انباء الاستيلاء على القدس وخلفه راهب شاب اعتلى العرش البابوى فى 14 اغسطس 1099 تحت اسم البابا "باسكال الثانى" والذي بدا عملية دعائية نشطة لمساعدة الصليبيين الذين نجحوا فى اقامة مملكة وامارتين فى بلاد المسلمين.
· وبالفعل كانت اخبار النجاح الذى احرزته الحملة الاولى قد شجعت عناصر اوروبية جديدة على القدوم الى الشرق العربى رغبة فى الحصول على نصيب من المغانم التى شاعت اخبارها فى الغرب الاوروبى مع العائدين من فلسطين.
***
مزيد من الدعم الصليبيى:
·وفى عام 1101 م تجمعت حملة جديدة فى الغرب الاوروبى لمساعدة صليبى الشرق.
·ومن لمبارديا تحركت الجموع الى القسطنطينية فى ذات الطريق الذى سارت فيه الحملة الاولى، وعند وصولهم بدأوا فى اثارة المتاعب الصليبية المعتادة، فاسرع الامبراطور البيزنطى بنقلهم الى آسيا الصغرى وهناك لحقت بهم الجيوش الالمانية والفرنسية.
· ولكن تصدت لهم الجيوش الاسلامية بقيادة قلج ارسلان سلطان سلاجقة الروم ورضوان امير حلب والغازى امير سيواس والحقوا بهم الهزيمة.
***
التوسع الصليبى:
· ومن ناحية أخرى بدأ الصليبيون يمدون نفوذهم بين الاراضى والموانىء التى كانت تفصل بين النقاط المتناثرة التى استولوا عليها.
· فاستولوا عام 1101 م على سروج وحيفا وارسوف وقيسارية.
·واستولوا عام 1103 م على اللاذقية من البيزنطيين.
·وعلى عكا عام 1104 م.
· ثم على طرابلس عام 1109 م بعد حصار دام سبع سنوات، لتكون هى الامارة الصليبية الثالثة بعد الرها وأنطاكية.
·وبذلك تمكن الصليبيون من فرض سيطرتهم على كل الساحل فيما عدا صور وعسقلان التى لم تسقط الا عام 1153 م.
· وهكذا اسفرت الحملة الصليبية الاولى عن قيام مملكة فى القدس وثلاثة امارات صليبية فى الرها وانطاكية وطرابلس.
****
بدايات الوحدة والمقاومة والتحرير
دور مصر وصلاح الدين الأيوبى وتحرير بيت المقدس والحملة الصليبية الثالثة بقيادة الملك الانجليزى ريتشارد الأول، الشهير بريتشارد قلب الأسد.
بعد تحرير الرها على أيدى عماد الدين زنكى عام 1144، ووقوع دمشق فى ايدى نور الدين محمود عام 1154 م، و تماسك الجبهة الشمالية العربية الاسلامية فى مواجهة الصليبيين، بدأت انظارهم تتجه الى مصر حيث ساد الضعف السياسى الشديد فى السنوات الأخيرة من حكم الخلافة الفاطمية.وكان اتحاد حلب ودمشق تحت حكم نور الدين قد جعل من غزو مصر الحل الوحيد لنجدة الصليبيين. خاصة وانها بمواردها البشرية والاقتصادية الكبيرة كفيلة بترجيح كفة من يستولى عليها أو يضمها الى جانبه، ولقد خشى الصليبيون بان تقع فى يد نور الدين هى الأخرى، فقرروا ان يأخذوا بزمام المبادرة.
***
الوضع فى مصر:
· كانت مصر تحت حكم الخلافة الفاطمية منذ 969 م.
· ومع قدوم الحملة الصليبية الاولى كان الدولة الفاطمية اشبه بالرجل المريض الذى ينتظر الجميع نهايته والاستيلاء على تركته.
· وكان الصليبيون قد نجحوا عام 1153 م فى الاستيلاء على مدينة عسقلان من المصريين والتى كانت تمثل تهديدا لوجودهم فى فلسطين.
· اما داخل مصر فمنذ وزارة بدر الدين الجمالى عام 1073 م صار الوزراء هم اصحاب السلطة الحقيقية وأصبح الخلفاء الفاطميين ألعوبة بايديهم.
· وبعد اغتيال الأفضل بن بدر الجمالى عام 1121 م دخلت البلاد فى دوامة من المؤامرات والدماء لم تنته.
· والتى كان من آثارها انه فى عام 1163 م، نشأ نزاع على كرسى الوزارة فى مصر بين رجلين هما ضرغام وشاور، وقد هرب الأخير الى الشام يستنجد بنور الدين محمود، من ضرغام الذي نجح فى الانفراد بالحكم.
· وفى نفس العام 1163 م توفى بلدوين الثالث ملك بيت المقدس، وخلفه أمارلريك الأول (عمورى)
· وتحت حجة عدم دفع مصر للجزية التى تقررت عليها فى عهد سلفه، قام امالريك 1163 بعبور برزخ السويس وحاصر مدينة بلبيس.
· ولكن تصدى له ضرغام، وقطع جسور النيل بحيث شكلت مياه الفيضان واوحال الدلتا عائقا رهيبا جعل الصليبيين يعودون الى فلسطين.
· ورغم هذا الموقف من ضرغام، الا انه عندما علم ان نور الدين محمود قد قرر دعم شاور فى استرداد كرسى الوزارة فى مصر، فانه هو الذى قام بطلب دعم الصليبيين، الذين لم يترددوا واطلقوا حملة صليبية جديدة بقيادة ملكهم أمالريك الى مصر.
· وكان نور الدين قد ارسل حملة الى مصر لدعم شاور، بقيادة أسد الدين شيركوه وبرفقته إبن أخيه الشاب ذو السبعة وعشرين ربيعا صلاح الدين يوسف الايوبى. وقد نجحت الحملة فى دخول مصر واعادة شاور الى كرسى الوزارة.
· ولكن شاور هو الذى قام هذه المرة بالاستنجاد بالملك الصليبيى للتخلص من نفوذ أسد الدين شيركوه. والذى استجاب فورا وهاجم مصر.
· وخلال السنوات 1163 – 1169 قام الملك الصليبى بغزو مصر خمس مرات.
· وبعد سلسلة من المعارك انتهى الأمر بانتصار جيوش أسد الدين شيركوه واستتباب الأمر له فى مصر.
· وكانت المحاولة الأخيرة لهذا الملك الصليبى عام 1169 عندما فشلت حملته المشتركة مع البيزنطيين على مصر، بعد ان حاصر ميناء دمياط 50 يوما.
· وفى خضم هذه الأحداث قتل كل من ضرغام وشاور.
· وأصبح أسد الدين شيركوه وزيرا للخليفة العاضد الفاطمى.
· وبعد موته عام 1169 تولى صلاح الدين الوزارة.
***
صلاح الدين يحرر القدس:
· وفى 10 سبتمبر 1171 م أعلن صلاح الدين نهاية الخلافة الفاطمية واعادة مصر الى الخلافة العباسية.
· وفى هذه الأثناء كانت دولة نور الدين محمود قد اتسعت لتشمل خمس عواصم هى دمشق والرها وحلب والموصل ثم القاهرة.
· ولكن وافته المنية عام 1174، وتلاه الملك الصليبى امالريك فى نفس العام، وخلت الساحة لصلاح الدين، والذى استطاع بعد سلسلة من المنازعات والصراعات اعلان نفسه ملكا على مصر والشام بمباركة الخليفة العباسى عام 1175 م.
· وقضى صلاح الدين فى مصر ستة سنوات 1176-1181 لترتيب الاوضاع الداخلية فى مصر والشام، استعدادا للحرب ضد الصليبيين، متجنبا قدر الامكان اى مواجهة كبيرة معهم قبل الأوان.
· وطوال هذه الفترة، لم تتوقف غارات الصليبيين على مصرعبر سيناء، وبل انهم وصلوا فى أحد غزواتهم الى بحيرة البردويل.
· وحاول رينالد دى شاتيون أمير الكرك ان يقتحم البحر الأحمر ويغزو مكة والمدينة وهاجم بالفعل بعض موانىء مصر والحجاز، ولكن الاسطول المصرى سحق اسطوله تماما.
· وبعد مرحلة الاستعداد قرر صلاح الدين بدء عملياته ضد الصليبيين، وكانت قمة انتصاراته فى 4 يوليو 1187 فى موقعة حطين الشهيرة، والتى أدت الى فقدان مملكة بيت المقدس لقواتها العسكرية الرئيسية، وتم تدمير أكبر جيش صليبى أمكن جمعه منذ قيام الكيان الصليبى.
· وبعد حطين كانت الأمور أشبه بنزهة عسكرية، اذ سارعت المدن والقلاع الصليبية الى الاستسلام واحدة تلو الأخرى، فتحررت عكا ويافا وبيروت وجبيل ثم عسقلان وغزة.
· وفى 27 سبتمبر 1187 دخل صلاح الدين المدينة المقدسة وحررها بصورة انسانية تناقض وحشية الصليبيين حين غزوها قبل بضع وثمانين سنة. واقيمت خطبة الجمعة فى المدينة المحررة بعد أن ظلت ممنوعة طويلا.
· ولم يتبق بايدى الصليبيين سوى صور وأنطاكية وطرابلس وبعض القلاع والحصون المتناثرة على الارض العربية فى بلاد الشام.
· وجاء رد الفعل الصليبى عنيفا، فمات البابا اربان الثالث من هول الصدمة حين بلغته الأنباء. وبعث خليفته البابا جريجورى الثامن خطابا بابويا الى " كل المؤمنين فى الغرب " ووعدهم بغفران كامل لخطاياهم اذا شاركوا فى حملة صليبية جديدة، وفرض صياما كل يوم جمعة على مدى خمس سنوات قادمة، والامتناع عن أكل اللحم فى أيام السبت والأربعاء.
· وتم فرض ضريبة مقدارها 10 % على كل دخل وعلى الأملاك المنقولة، عرفت باسم " عشور صلاح الدين".
***
الحملة الصليبية الثالثة :
· واستلم شارة الصليب كل من الامبراطور الالمانى فردريك بربروسا والملك الانجليزى ريتشارد الاول والملك الفرنسى فيليب اغسطس.
· وفى 11 مايو 1189 تحركت قوات الامبراطور الالمانى عبر ذات الطريق البرى الذى سارت فيه من قبل الحملة الاولى، ولكنه لقى حتفه غريقا فى أحد انهار آسيا الصغرى عام 1190، واكتفت قواته بعدها بمشاركة رمزية فى هذه الحملة.
· اما الملكين الانجليزى والفرنسى فتوجها بحرا الى صقلية ثم الى فلسطين، وفى الطريق انتزع الملك ريتشارد قبرص من الحكم البيزنطى.
· وكانت بقايا جيوش الصليبيين فى الشرق قد تجمعت فى مدينة صور. وبدأت الجيوش والامدادات الاوروبية تفد الى بلاد الشام.
· وفى المعارك الاولى سقطت عكا فى يد الصليبيين عام 1191، وعاد فيليب اغسطس الى فرنسا.
· بدأ ريتشارد بعد سقوط عكا يعد للاستيلاء على شاطئ فلسطين من عكا إلى عسقلان، فاستولى الصليبيون على حيفا التي أخلتها حاميتها الإسلامية، ثم على قيسارية التي خربها المسلمون حتى لا ينتفع بها الصليبيون، وفي أثناء ذلك فتح ريتشارد باب المفاوضات مع صلاح الدين، ولكنها فشلت بسبب تمسك ريتشارد بأن تعود مملكة بيت المقدس الصليبية إلى ما كانت عليه قبل حطين. ثم نشبت بين الطرفين معركة أرسوف 7 من سبتمبر 1191م، والتى انتصر فيها الصليبيون. ثم اتجه ريتشارد إلى القدس، ولكنه فشل فى الاستيلاء عليها.
***
صلح الرملة :
وبعد 16 شهرا قضاها الملك الانجليزى فى حروبه ضد المسلمين، اضطر فى النهاية الى عقد صلح الرملة مع صلاح الدين عام 1192، وهو الصلح الذى ابقى الوضع على ما كان عليه. وقد نص على ما يلى:
· أن يسود السلام بين الفريقين ثلاث سنوات وثلاثة أشهر.
· أن يكون للصليبيين المنطقة الساحلية من صور إلى يافا، بما فيها قيسارية وحيفا وارسوف، وتبقى صيدا وبيروت وجبيل للمسلمين.
· تكون عسقلان مدينة غير مسلحة في أيدي المسلمين.
· تكون اللد والرملة مناصفة بين المسلمين والصليبيين.
· تبقى القدس في أيدي المسلمين على أن يكون للمسيحيين حرية الحج إلى بيت المقدس دون مطالبتهم بأية ضريبة.
بعدها، أعلن صلاح الدين أن الصلح قد انتظم، فمن شاء من بلادهم أن يدخل بلادنا فليفعل ومن شاء من بلادنا أن يدخل بلادهم فليفعل.
***
وفى 4 مارس 1193 انتقل صلاح الدين الى جوار ربه، بعد أن سطر سلسلة من الانجازات والانتصارات، ما زالت تمثل مرجعية والهاما لكل الراغبين فى التحرر والنصر على مدار الأجيال و حتى يوما هذا.
ولكن ظل للصليبيين وجودا فى الشام، وظل خطر قدوم حملات صليبية جديدة قائما، ومر قرن آخر قبل ان يتمكن العالم العربى الاسلامى من تحقيق التحرير الكامل والتام للارض المحتلة.