لقد وصل بنا التدهور فى عصر كامب ديفيد أن استبدلنا خطر ((اسرائيل الكبرى من النيل الى الفرات)) بأكذوبة أن الفلسطينيين يريدون استيطان سيناء! هَزُلَت.
***
· ان قيام السلطات المصرية بإخلاء الحدود الدولية لإقامة منطقة عازلة، بالإضافة الى قيامها بالتنازل عن الجزيرتين المصريتين تيران وصنافير للسعودية، قد دفع كثيرا من الناس الى تصديق ما يتردد عن تأسيس دولة فلسطينية على جزء من ارض سيناء بمشاركة ومباركة مصرية رسمية.
· ولكنني رغم ذلك أكاد أقطع ان الحديث عن أى نوايا مصرية من هذا النوع، هو حديث عارٍ تماما من الصحة، فعلى عكس مما يشاع، لا يوجد فى المنطقة من يقبل او يتبنى مثل هذا المشروع.
· وهو ما يستدعى تمحيصه والرد عليه، لأن مثل هذه الادعاءات تدق إسفينا تاريخيا عميقا بين الشعبين الشقيقين فى مصر وفلسطين، اذ تظهر الفلسطينيين، على غير الحقيقة، وكأنهم يتربصون بمصر فى انتظار اى فرصة سانحة للاستيلاء على جزء من ارضها الغالية. وهذا هو السبب الرئيسى الذى دفعني لكتابة هذا المقال.
· كما ان الموضوع بأكمله ليس سوى حيلة قديمة عمرها يزيد عن عشر سنوات، يستخدمها الفرقاء على الدوام للنيل من خصومهم السياسيين. كما يستخدمها اعداء الشعبين الشقيقين لإفساد العلاقة بينهما. فهى تنتمى الى حزمة الاكاذيب الشهيرة والشريرة التى تستهدف تبرير الغدر العربى الرسمى بفلسطين، مثل أكذوبة ان الفلسطينيين قد باعوا أراضيهم بأنفسهم، فلماذا نساعدهم فى تحريرها؟!
· ولقد عايشت شخصيا ومن قريب خدعة مماثلة عام 2012 اثناء العدوان الصهيونى على غزة.
· والدوافع وراء الترويج لمثل هذه الشائعات يمكن رصدها او استنتاجها والتعرف عليها وعلى المستفيدين من اطلاقها.
· كما اننا لسنا فى حاجة الى فبركة اخبارا مغلوطة للطعن فى نظام عبد الفتاح السيسى، ففى سياساته ما يكفى ويزيد مما يستوجب التصدى له ومعارضته.
وفيما يلى بعض التفصيل.
***
أولا ـ لماذا لن يقبل احد بها لا فى مصر ولا فى فلسطين ولا حتى فى (اسرائيل) ؟
· اما فى مصر، فلا أحد، كائنا من كان، ولا حتى أكثر الحكام والانظمة استبدادا وتفريطا، بقادر فيما لو أراد، على تمرير مثل هذه التنازل عن ارض سيناء.
· ولا يصح اتخاذ التنازل عن جزيرتى تيران وصنافير المصريتين للسعودية مقياسا، لعدة أسباب أهمها هو ان المصدر الرئيسى وربما الوحيد لشرعية النظام الذى يحكم مصر منذ عام ١٩٧٣ وحتى يومنا هذا، كما يروّجون له ليلا نهارا، هو تحرير سيناء من الاحتلال الاسرائيلى، (بصرف النظر عن السيادة المنقوصة فى سيناء بموجب المعاهدة)، وبالتالى يستحيل ان يفرطوا، حتى لو أرادوا ذلك، فى شرعيتهم الوحيدة.
· كما ان انتفاضة القوى الوطنية المصرية بعد التنازل عن تيران وصنافير، تبشر وتؤشر بانه فى حالة التفريط فى سيناء لا قدر الله فان المفرطين سيواجَهون بحركة مقاومة شعبية واسعة لن تلتزم بالسلمية هذه المرة. مقاومة ستتصاعد ولن تتوقف حتى تسقطهم وتقدمهم للمحاكمة.
· أضف الى ذلك ما تقوم به مؤسسات الدولة اليوم فى سيناء من مطاردة للجماعات الانفصالية (1)، فلو كانت تنوى التنازل عنها، لما كلفت نفسها كل هذا العبء والمخاطر والاموال والضحايا والشهداء، وكل هذه التنازلات لاسرائيل، ولقامت بتسليمها بقضها وقضيضها الى المعنيين بهذا المشروع ليؤسسوا عليها ما يشاؤون من اوطان بديلة.
***
· واما عن فلسطين، فان الشعب الفلسطينى بكل فصائله وممثليه وسلطاته يرفضون منذ عقود طويلة مبدأ ومشروع الوطن البديل فى الاردن، وفى سبيل ذلك ومع اصرارهم على تحرير ارضهم المحتلة قدموا مئات الألوف من الشهداء والمصابين والاسرى على امتداد ما يزيد عن ٧٠ عاما. فكيف يقبلون بعد ذلك بوطن بديل فى سيناء. فمن يسعى لترك ارضه والبحث عن وطنا بديلا لا يقاتل ويستشهد دفاعا عن وطنه الذى ينوى تركه وهجرته الى بلاد أخرى.
· ثم الم تكن غزة تحت الادارة المصرية لما يقرب من عشرين عاما 1949-1967، ومع ذلك لم يطلب فلسطينيو غزة الهجرة الى مصر أو التجنس بجنسيتها ولم يبحثوا عن وطنا بديلا عندنا.
· أضف الى ذلك ما حدث فى يناير 2008 حين اقتحم عشرات الالاف من اهالى غزة للحدود المصرية لشراء احتياجاتهم المعيشية من اسواق العريش نتيجة للحصار الذي فرض عليهم، وعادوا جميعا الى وطنهم وبيوتهم بعد ساعات قليلة، فلم يهرب احدا منهم او يطلب اللجوء او الاستيطان او التجنس فى مصر.
· والامثلة كثيرة.
***
واما عن العدو الصهيونى المسمى (باسرائيل) فيستحيل ان يسمح بتأسيس اى كيان فلسطينى (معادى بطبيعة الحال) على حدوده وخارجا عن سيطرته، خاصة وهو لا يزال يطمع فى الاستيلاء على سيناء فى يوم من الأيام، كما قال مناحيم بيجين عام ١٩٧٩ بوضوح بعد توقيع اتفاقية السلام ردا على منتقديه بالتفريط فى سيناء وهى جزء من ارض الميعاد فى الادعاءات الصهيونية، اذ قال "ان سيناء تحتاج الى ثلاثة ملايين يهودى اضافى لاستيطانها، ونحن لا نملك هذا العدد الهائل والفائض اليوم، لكن تأكدوا انه فى الوقت الذى سيتوفر فيه هذا العدد فإنكم ستجدونها فى حوزتنا فى اليوم التالى."
ان (اسرائيل) تريد سيناء منطقة عازلة خالية من البشر، سواء كانوا مصريين او فلسطينيين، فتريدها منزوعة السكان منزوعة القوات والسلاح. فهذه هى طبيعتها ككيان استعمارى متخصص فى استيطان الاراضى الخالية.
***
ثانيا ـ هى حيلة قديمة كانت تستخدمها اجهزة الامن المختلفة لشيطنة الفلسطينيين لدى الرأي العام المصرى، واتذكر انه اثناء عدوان عامود السحاب الصهيونى على غزة فى 14 نوفمبر 2012 والذي توقف بعد ثمانية ايام بعد الضغط الشعبى والرسمى المصرى، وكنت وقتها قريبا من الاحداث، ان فوجئت بشائعة أطلقتها اجهزة الدولة العميقة بان الفلسطينيين بدأوا بالفعل باستيطان سيناء، وهو ما كان كذبا بواحا.
وقامت جريدتى الوطن والمصرى اليوم بإيعاز من الأجهزة الامنية، بفتح الدفاتر القديمة واستخراج ورقة كان قد قدمها الجنرال جيورا ايلاند الرئيس السابق لمجلس الامن القومى الاسرائيلى عام 2009 يطرح فيها ضم جزء من سيناء الى غزة مقابل منح مصر مساحة مماثلة فى صحراء النقب. وهي ورقة قديمة قُتِلَت بحثا ونقاشا ايام مبارك، وحين لم تجد من يقبل بها أو يتبناها او يتخذها على محمل الجدية حتى فى (اسرائيل)، انتهى بها الحال الى ارشيف المهملات. ولكن مع ذلك قامت الجريدتان بإعادة نشرها على نطاق واسع فى وقت متزامن مع العدوان الصهيونى على غزة عام 2012، وسط حملة شعواء تستهدف شيطنة الفلسطينيين وتتهمهم بالطمع فى ارض سيناء، من اجل التشويش على التضامن المصرى غير المسبوق مع الشعب الفلسطينى.
وفى ذات حملة الشيطنة تم حينها توظيف كارثة اصطدام اتوبيس مدرسة بأحد القطارات بمحافظة اسيوط فى 17/11/2012 ووفاة ما يقرب من 50 طفلا جراء الحادث، واستخدامها فى المزايدة على من يدعمون الفلسطينيين ضد العدوان الصهيونى، بان الاولوية هى التضامن مع اطفال اسيوط واهاليهم. وكأن هناك تناقض بين التعاطف مع الضحايا فى مصر وفلسطين وفى كل مكان فى ذات الوقت.
***
ثالثا ـ من يطلق هذه الشائعة ولماذا؟
ومنذئذ، كلما فتح أحدهم أو بعضهم هذا الملف القديم المتهافت وحاول الاستشهاد بمشروع جيورا ايلاند، أسارع الى البحث عمن يريد توظيفه فى صراعاته مع خصومه السياسيين.
وبعد استبعاد واستثناء كل الوطنيين المصريين القلقين من تكرار ما فعلته السلطة فى تيران وصنافير، فان هناك عديد من الاطراف التى قد تستفيد من انتشار هذه الشائعة:
· فهناك اولا من يريد افساد وضرب العلاقات الحميمة والتاريخية بين الشعبين المصرى والفلسطينى، وعلى رأسهم بالطبع الصهاينة وحلفائهم فى مصر وفلسطين.
· وهناك السلطة الفلسطينية بقيادة ابو مازن التى تسعى دائما الى شيطنة فصائل المقاومة الفلسطينية فى غزة وافساد علاقتها مع مصر والمصريين.
· وهناك من يرى ان طرح هذا الموضوع الان قد يساعد على قبول الراي العام المصرى لأي تسوية امريكية صهيونية حتى لو كانت بدون القدس وبدون نصف الضفة الغربية طالما ابتعدت عن سيناء وارضها.
· وهناك بالطبع الجماعات الانفصالية فى سيناء، التى تريد ان تنزع الشرعية عن جهود الدولة لاسترداد سيادتها المهدورة هناك بسبب القيود الامنية فى اتفاقيات كامب ديفيد، من خلال الترويج لأكذوبة ان الجيش يريد السيطرة على سيناء تمهيدا لتسليمها الى (اسرائيل) وامريكا لتقوما بتوطين الفلسطينيين فيها.
· وهناك اخيرا ممن يعارضون السيسى، من يوظف لذلك كل الادوات والاساليب والاخبار والشائعات حتى لو لم تكن حقيقية.
الى هؤلاء الأخيرين، اوجه كلامى فى النقطة التالية والاخيرة.
***
رابعا ـ المعارضة الحقيقية لا تفبرك الشائعات وانما تمحصها:
اما عن المعارضين لعبد الفتاح السيسى وانا منهم، فان هناك قائمة طويلة من الأسباب الحقيقية لرفض ومعارضة نظامه وسياساته:
· على راسها انه تلميذ نجيب وعضو اصيل فى جماعة كامب ديفيد، وموقفه شديد السلبية من فلسطين وقضيتها ومقاومتها ناهيك عن انه قام بتعميق وتوطيد علاقته باسرائيل الى درجة غير مسبوقة، وصفتها فى أكثر من موضع بالعصر الذهبى للعلاقات المصرية الاسرائيلية.(2)
· وكذلك قام باخلاء الحدود الدولية لإقامة المنطقة العازلة التى كانت (اسرائيل) تطالب بها منذ سنوات طويلة. وكان مبارك نفسه يرفضها. (راجع مقال اخلاء سيناء مطلبا اسرائيليا)(3)
· وأيضا قيامه بالتنازل عن جزيرتى تيران وصنافير المصريتين لمملكة آل سعود وولى عهدها محمد بن سلمان، ضاربا عرض الحائط بأحكام الدستور وبالأمن القومى المصرى وبالغضب الشعبى وبحكم المحكمة الادارية العليا.
· ثم قيامه بالارتداد على ثورة يناير، واجهاض كل مكتسباتها والعصف بالحقوق والحريات والزج بكل من شارك فيها فى السجون والمعتقلات لا فرق فى ذلك بين مدني واسلامى.
· وكذلك ملف السياسات الاقتصادية والخضوع لتعليمات نادى باريس وصندوق النقد الدولى، التى أدت الى مزيد من افقار الفقراء وضرب دخول ومدخرات غالبية المصريين ودفع قطاعات واسعة جديدة من الطبقة المتوسطة الى مراتب الفقر.
· والقائمة تطول.
ومع وجود كل هذه التناقضات ومبررات ودوافع التصدى والمعارضة، فاننا لسنا فى حاجة الى اختراع وتلفيق قضايا غير حقيقية، فالحقيقة تكفي وتزيد. كما أن التلفيق او الاستسهال فى نقل اخبارا غير صحيحة يفقدنا مصداقيتنا لدى الراى العام، وهي الشئ الوحيد الذى تبقى لنا بعد ان تم تجريدنا من كل أدوات الفعل والتأثير والتعبير، انها مصداقية ثمينة وعزيزة علينا ان نصونها ونحرص عليها.
***
ولنختتم هذه السطور بالتأكيد مجددا على ان اشقاءنا فى فلسطين لا يطمعون فى ارضنا وانما فى دعمنا لنضالهم وهم يقفون وحدهم فى مواجهة العالم أجمع.
*****
الروابط :
القاهرة 26/6/2018