04 ديسمبر 2015

بركات الحائط المائل .. قصة قصيرة بقلم المستشار فؤاد راشد

منذ طفولته كان وهدان يمر ويده بيد أبيه الحاج سعيد النعماني بعد مسجد النجع علي طاحونة مهجورة , دارت حكايات كثيرة عن الجن والعفاريت التي تظهر أحيانا جهارا نهارا داخل سور الطاحونة القديم , كان الرواة يحددون أسماء قتلي لقوا حتفهم قرب الطاحونة عند حفر بئر الساقية المجاورة , كان الحفر يتطلب النزول الي أعماق بعيده لوضع الساقية وضبط حركتها , وكان بعض الشباب يتطوع بالنزول الي أسفل حيث ينهار الركام أحيانا فيموت بعضهم اختناقا .
حسب زعم أهل النجع فان شيخا مباركا طيبا مدفون من زمن سحيق تحت السور الشرقي للطاحونه .
اعتاد وهدان أن يري والده كلما مر بجانب السور الشرقي يقف خاشعا ويقرأ الفاتحه لروح ( سيدي مسعود المكباتي ) ثم يدعو لنفسه والأسرة متضرعا الي الله أن يتقبل دعاءه ببركة الشيخ الطاهر .
وراح وهدان يقلد والده في الدعاء قرب السور الشرقي للطاحونه , وكان حتي حصل علي الثانوية العامة كلما شعر بالضيق لأي سبب بادر الي الذهاب قرب السور والدعاء متضرعا الي الله أن يتقبل ببركة الشيخ الطاهر سيدي مسعود .
بعد أن صار وهدان طبيبا شرعيا واستقر في القاهرة كان لايكف عن تذكر أيامه الخوالي بالنجع ويقرأ الفاتحه لروح الشيخ الطاهر ويذكر بامتنان عظيم كيف كان يعود صافي البال كلما جلس بجوار مقام الشيخ الطاهر وتضرع الي الله أن يجيب دعاءه ببركة الشيخ .
ذات يوم عقب أحد الأعياد تجمع ورثة مالك الطاحونة وكانوا جميعا يقيمون خارج النجع وقرروا تكليف مقاول كبير بهدمها وبناء عمارة شاهقة تكون مأوي لهم جميعا كلما تجمعوا في أي مناسبة .
بدأت أعمال الحفر مع حذر شديد من الاقتراب من السور الشرقي للطاحونه حيث مثوي الشيخ .
لم ينصت المقاول طويلا الي تحذيرات متكررة من الأهالي بعدم الاقتراب من مدفن الشيخ , وقرر بناء علي تعليمات المهندس المشرف هدم السور واجراءالحفر تحته للعمق الذي حدده المهندس .
كانت المفاجأة المذهلة أن تحت السور بقايا حصان نافق من زمن طويل .
ازاء احتدام النقاش بين أهل النجع حول الشيخ المدفون وتأكيد بعضهم أن جده هو من دفن الشيخ بيديه , وأن ملاك الطاحونه لم يراعوا حرمته , حضر من القاهرة ابن النجع الدكتور وهدان وراح بمعاونة العشرات من أهل النجع يفحص كل العينات بالتربة فحصا دقيقيا ليؤكد في النهاية أن المدفون حصان ولا أثر يدل علي دفن أي انسان تحت السور الشرقي في أي وقت ..
كان الدكتور وهدان بعدها وحتي وفاته , كلما زار النجع واقترب من موقع السور الشرقي اشتعلت في روحه فكرتان تتصارعان تجسدان معني الحنين الي أيامه الخوالي ودعاءه وتضرعاته الي الله أن يتقبل ببركة الشيخ مع شعور طاريء فاجع بالخديعة الطويلة .

29 نوفمبر 2015

المفكر القومى محمد سيف الدولة يكتب:لماذا نحيى ذكرى تقسيم فلسطين؟

لماذا يجب ان نحيى ذكرى قرار تقسيم فلسطين الصادر من الجمعية العامة للأمم المتحدة فى ٢٩ نوفمبر ١٩٤٧؟
1) لأنها فرصة لننقل القضية وحكايتها وحقيقتها الى أولادنا الذين لم يتعرفوا عليها بعد، خاصة بعد ان توقفت غالبية الانظمة العربية عن القيام بهذ الدور، وحين تفعل فانها تلقنهم روايات مضللة ومزيفة.
2) كما ان لإحياء ذكرى هذا العام أهمية خاصة، وهى دعم الشعب الفلسطينى فى انتفاضته الثالثة المتفجرة اليوم فى الارض المحتلة، والتى وقع فيها حتى يومنا هذا ما يزيد عن 100 شهيد.
3) وكذلك لنتذكر ونتعظ ونتفكر ونتدبر فى أكبر جريمة استعمارية ارهابية دولية شاهدها العالم فى تاريخه، اذ تحالف الجميع ضدنا، لا فرق فى ذلك بين أمريكان وسوفييت.
4) وللتأكيد على فشل المشروع الصهيونى، فرغم مرور ٦٨ عاما من الاحتلال وسيول الدعم العسكري والاقتصادى والغطاء الدولى من أقوى دول العالم ومؤسساتها الدولية، الا ان اصحاب الارض لا يزالون هنا، لم يتوقفوا لحظة واحدة عن المقاومة، وكل الامة والارض والشعب تلفظه.
5) كما فى احياء ذكرى قرار التقسيم ٤٧ والنكبة ٤٨، تأكيد على حقيقة الصراع وطبيعته وهدفه النهائى المتمثل فى تحرير كامل الارض المحتلة منذ 1948، فى مواجهة الصهاينة العرب الذين يروّجون ان فلسطين التى تخصنا تقتصر على ارض ٦٧ فقط.
6) ولنتعاهد ونجدد التزامنا بانهاء هذا الكيان الصهيونى ومشروعه، وما يترتب على ذلك من رفض الاعتراف بـ (إسرائيل) او الصلح معها. والعمل على إسقاط كل الاتفاقيات العربية معها، بدءا بكامب ديفيد ومرورا بأوسلو ووادى عربة وانتهاء بمبادرة السلام العربية والدعوات الحالية لتوسيع السلام معها. مع الحرص على تقديم كل الدعم للمقاومة الفلسطينية، والعمل على احياء الحركات واللجان الشعبية العربية لنصرة فلسطين ومناقضة اسرائيل والصهيونية
7) وللرد على العرب من اصدقاء اسرائيل، الذين ينشرون روح الهزيمة والاستسلام ويهاجمون رفض اسلافنا الاعتراف باسرائيل ورفضهم لقرار التقسيم. ففى احياء الذكرى تأكيد على صواب الموقف العربى الرسمى والشعبى فى ذاك الوقت، الذى أجمع على رفضه للقرار 181 والتفريط فى أى جزء من فلسطين الى العصابات الصهيونية وهو الموقف الذى صمد واستمر الى ان بدأ السادات بكسره والانقلاب عليه فى اتفاقيات كامب ديفيد، ثم لحقه الحكام العرب واحدا تلو الآخر.
8) ولنؤكد على أن قضية فلسطين ومواجهة الكيان الصهيونى، ستظل دائما هى القضية المركزية لدى الشعوب العربية، حتى بعد ان تخلت عنها الانظمة العربية. وتتجاهل مؤسساتها الاعلامية اى اشارة الى هذه الذكرى الاليمة.
9) كما انها البوصلة الوحيدة الصحيحة والنبيلة، فى ظل غابة كثيفة من الانقسام والصراع والاقتتال العربى/العربى.
10) وأخيرا وليس آخرا، لكى نواصل فرز صفوفنا وطنيا وعربيا، بين انصار فلسطين وبين اصدقاء اسرائيل.
*****
القاهرة فى 29 نوفمبر 2015

د. فيصل القاسم يكتب: هل الحاكم العربي غير وطني أم ممنوع أن يكون وطنياً؟

لا يمكن لأمة أن تنهض إلا بعقول وطاقات وقلوب أهلها. وحتى لو كانت الشعوب تحب أوطانها، وتريد أن تبينها، ولديها كل ما يلزم للنهوض بها، لا شك أنها ستفشل إذا كانت الطبقات الحاكمة غير وطنية، أو أن دوائرها الانتخابية خارج أوطانها، كما هو الحال بالنسبة للعديد من الأنظمة العربية. السمكة عادة تفسد من رأسها، وكذلك الأوطان. فإذا كان الحكام يعتمدون في وجودهم على قوى ودعم خارجي، فإنهم، دون أدنى شك، سيكونون أكثر اهتماماً بتحقيق أهداف الخارج في بلادهم من تحقيق أهداف شعوبهم. فكما هو معلوم، فإن السياسي يخدم في العادة الدائرة التي انتخبته. وبما أن مصير العديد من القيادات في العالم العربي مرتبط بقوى أجنبية، فعلى الأغلب أن الأوطان والشعوب ستعاني، وستتخلف عن ركب التقدم واللحاق بالأمم الوطنية المتقدمة.
من أعظم بركات الثورات العربية أنها كشفت بشكل فاضح عمالة الكثير من الأنظمة العربية، وخاصة تلك التي رفعت شعارات قومية ووطنية فاقعة كالنظام السوري مثلاً. فعندما كنا نسمع الشعارات الوطنية والقومية التي كان يرفعها، ويرددها نظام الأسد في سوريا، كان المرء يأخذ الانطباع أنه نظام لا يباريه نظام في العالم في الوطنية وحب الوطن، خاصة وأنه كان يسحق أي أصوات معارضة بحجة أنها غير وطنية وخائنة للوطن. لكن الثورة أظهرت للسوريين لاحقاً أن النظام له علاقة بالوطنية كما للسوريين علاقة بكوكب المريخ. لم يكن حتى نظاماً طائفياً فقط، بل كان يأتمر، ويعمل لصالح قوى خارجية أولاً وأخيراً. لم يكن ينقص الشعب السوري أبداً لا الطاقات، ولا الإرادة ولا الذكاء والمثابرة، فهو شعب وطني خلاق وقادر على الإبداع والابتكار والتقدم، لكنه فشل على مدى نصف قرن في تحقيق أي إنجازات صناعية وتكنولوجية وسياسية واقتصادية معتبرة. لا بل إن السوريين باتوا يترحمون على النظام السياسي الذي كان يقودهم في منتصف القرن الماضي، حيث كان أكثر عصرية وتقدماً وديمقراطية وانفتاحاً وإنسانية، بينما أمسوا اليوم مضرباً للمثل في التشبيح السياسي والأمني.
لسنا بحاجة للكثير من الجهد كي نتعرف على مكمن الخلل في سوريا. إنه النظام الحاكم الذي كان دائماً يتهم العرب الآخرين بالعمالة والتبعية للخارج، بينما كان هو غارقاً حتى أذنيه في العمالة والتبعية للاتحاد السوفياتي سابقاً وروسيا وإيران وإسرائيل حالياً. لقد اكتشف السوريون على ضوء الثورة أن مهمة النظام الأولى على مدى نصف قرن كانت كبح قيام أي نهضة سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو علمية في سوريا، لأنه مكلف بإبقاء سوريا وشعبها في حالة تخلف وتجمد لصالح جارته إسرائيل. ويرى بعض العارفين أنه لو لم يقم بذلك، لما بقي أصلاً في مكانه. وكما هو واضح، فإن النظام يعرف قدر نفسه جيداً، فهو لا يصلح لأن يقود وطناً نحو التقدم والازدهار، بل قادر فقط على ممارسة الهمجية والقمع والاضطهاد، لهذا تم تمكينه من رقاب السوريين كي يبقوا في الحضيض سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
طبعاً لا نقول أبداً أن النظام السوري هو الوحيد الذي يعمل لصالح قوى خارجية. لا أبداً، فهو مجرد نموذج فاقع للأنظمة المتشدقة بالوطنية والغارق بالعمالة والخيانة. هناك الكثير الكثير من الأنظمة الأخرى التي لا تحكم بإرادة شعوبها، بل بإرادات خارجية. وقد صدق الرئيس التونسي السابق الدكتور منصف المرزوقي عندما ألف كتاباً بعنوان «الاستقلال الثاني» يكشف فيه أن معظم الأنظمة العربية التي وصلت إلى السلطة بعد حروب الاستقلال المزعومة لم تكن وطنية أبداً، بل كانت مجرد وكلاء للمستعمر الذي خرج من الباب، ليعود من النافذة عن طريق عملائه الذين عينهم ممثلين له في مستعمراته القديمة. وبالرغم من أن بلداً مثل الجزائر مثلاً قدم أكثر من مليون شهيد لطرد المستعمر الفرنسي، إلا أنه انتهى في أيدي من يسمون بـ»بني باريس» أي الجنرالات والطبقة السياسية التابعة قلباً وقالباً للمستعمر القديم.
حتى الأنظمة المنبثقة عن بعض الثورات الجديدة فهي بدورها لا تمثل تطلعات الثوار، ولا الشباب الذين قادوا الثورات، بل هي مجرد واجهات لقوى خارجية. ولا شك أن المرء يشعر بحسرة وألم كبير عندما يسمع أن الكثير من القيادات التي تحكم تونس الآن مرتبطة بتوجيهات وتوجهات قوى خارجية أكثر مما هي مرتبطة بتطلعات الشعب وأحلامه. فهذا القيادي تدعمه أمريكا، وذاك تدعمه فرنسا، والآخر يتلقى تمويلاً عربياً لشراء الأصوات والفوز في الانتخابات. وكأن الثورة لم تحدث أبداً.
لا شك أن البعض سيقول لنا إن تركيبة العالم والقوى المتحكمة به لا تسمح بوجود قيادات وطنية خالصة، وخاصة في العالم العربي. يقول المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي في هذا السياق: «الأهداف الرئيسية للسياسة الأمريكية هي منع وصول المغالين في وطنيتهم إلى الحكم في العالم الثالث. وإذا ما وصلوا إليه بطريقة أو بأخرى، فيجب عزلهم وتنصيب غيرهم. وتتحالف الولايات المتحدة مع العسكريين لسحق أي جماعات وطنية تفلت من قبضة اليد». وما ينطبق على أمريكا ينسحب على القوى العظمى الأخرى في تعاملها مع بيادقها. ويقول المفكر التونسي أبو يعرب المرزوقي هنا: «بشار الأسد دمية لا حول له ولا قوة: لو كان ذا سلطان حقيقي لكان فضّل النجاة بذاته وبأسرته، لأنه يعلم أن المآل في الغاية هو رأسه ورأس أسرته». وبناء على هذه الحقيقة المرة بوجود قوى خارجية تمنع الوطنيين من الوصول إلى السلطة في العالم العربي والثالث عموماً، ما العمل؟ هل الخلل في القوى المتحكمة التي تختار عملاءها حكاماً هنا وهناك؟ أم إن الخلل في الحكام الذين يقبلون أن يكونوا مجرد وكلاء؟ لا أريد أن أفتي في هذا الموضوع. أترك لكم الفتوى.
٭ كاتب وإعلامي سوري

27 نوفمبر 2015

المفكر القومى محمد سيف الدولة يكتب: لا لزيارة البابا تواضروس للارض المحتلة

نرفض زيارة البابا ‫ تواضروس ، لفلسطين المحتلة بتأشيرة إسرائيلية، كما رفضنا من قبل زيارة الدكتور على جمعة و آخرين، لمخالفته القرار الوطنى السابق للكنيسة المصرية وللبابا شنودة، بحظر السفر اليها الا بعد تحررها، ودخولها كتفا الى كتف مع الإخوة المسلمين المصريين. ولمخالفته للإجماع الوطنى المصرى منذ ١٩٧٩، بمقاطعة اسرائيل وعدم الاعتراف بها او التطبيع معها او دخول فلسطين بتأشيرتها. 
نرفض هذه الزيارة ولو كانت لأسباب دينية او لتقديم واجب الصلاة والعزاء، فلقد حرم ملايين المصريين أنفسهم على امتداد ما يقرب من نصف قرن، من زيارة أشقائهم وأقاربهم وأهاليهم الفلسطينيين وتقديم العزاء لهم فى الآلاف من شهدائهم ضحايا الجرائم و الاعتداءات الصهيونية. 
ان سلطات الاحتلال التى فشلت مرارا وتكرارا فى اختراق المقاطعة الشعبية المصرية والعربية والتى تحرض المصريين والعرب لزيارتها، وتدعى كذبا تحضرها وديمقراطيتها وحبها للسلام، هى ذاتها السلطات التى تقيد حق الفلسطينيين اصحاب الارض الذين يعيشون هناك، من الصلاة فى المسجد الاقصى، وتستبيح باحاته وساحاته يوميا طمعا فى تقسيمه زمنيا، كما تحظر عليهم الحركة والتنقل بحرية فى أراضيهم وأوطانهم، ونحن بزيارتنا لها وبتطبيعنا معها نساعدها على الاستمرار فى تضليل العالم. 
ان الواجب الوطنى المصرى والعربى والانساني كان يحتم على البابا تواضروس وكل المؤسسات الدينية المسيحية والإسلامية وكذلك الأحزاب والقوى السياسية ان تفرض مزيدا من الحظر والمقاطعة ومقاومة التطبيع ومناهضة اسرائيل فى ظل الاعتداءات الصهيونية الحالية على الشعب الفلسطينى التى أوقعت اكثر من ١٠٠ شهيد فى ٥٥ يوم من عمر الانتفاضة الثالثة، بدلا من ان تقوم بالتراجع وكسر القرار ألوطنى للكنيسة المصرية بحظر التطبيع.
اننا نناشد اخوتنا من المثقفين والمفكرين والسياسيين المسيحيين الذين نعلم غضبهم من زيارة البابا ورفضها رفضا قاطعا، ان يقودوا حملة وطنية لتصحيح هذا الموقف وعدم تكراره والحيلولة دون الاحتذاء به وتكراره من قبل مواطنين مسيحيين آخرين، والعودة الى الموقف الوطنى العظيم للكنيسة المصرية وللبابا شنودة بحظر التطبيع مع اسرائيل وزيارتها والحج الى القدس فى ظل احتلالها.
*****
موضوعات مرتبطة:

13 نوفمبر 2015

سيد أمين يكتب: ينابيع الحياة

آخر تحديث : الجمعة 13 نوفمبر 2015 17:38 مكة المكرمة
من الفطرة , والفطنة, والفكرة, تعلم البشر أنه لا يمكن معرفة الناس معرفة حقة إلا في أوقات المحن, ولا يمكن قياس مدى صلابة مواقفهم وتضحياتهم في سبيل ما يؤمنون به إلا حين الاقتراب من أثمن شيء في دنياهم وهى أعمارهم هم أنفسهم, أو أبنائهم
والخوف من الموت هو سمة كل كائن حي, لكن يبقي الفرق بين الانسان وما عداه من كائنات اخر , هو شديد إدراكه لمواطنه وكثرة تفكيره فيما سيؤول إليه.
ومصدر هذا الخوف أن الناس عادة يخشون المصائر المجهولة التي لم يؤتوا علمها من تجارب الأسبقين اليقينية, ويصبح لا سبيل لهم هنا لاستنباط مصيرهم بعد الموت إلا بعقيدة اعتقدوها, أو دين دانوا به, وهو الذى كلما زاد إيمانهم به, ترسخ يقينهم بمصير ما بعد الموت.
والمدهش أن الموت عند غالبية البشر لا معنى له إلا الفناء, إلا أنه عند المؤمنين يصبح نوعاً من الارتقاء, ويتلاشى الخوف منه ليتحول عند بعضهم إلى اشتياق.

تجربتان حديثتان

ولنا تجربتان حديثتان من ثلة تجارب أليمة ضجت بها حياة المصريين في الأعوام الثلاثة الأخيرة , تكشفان نبعا إيمانيا عميقا تجذر في وجدان بعض منا.
فهذا رجل حينما نطق القاضي حكم إعدام ابنه، اعتقد الكثيرون ممن حضروا المحاكمة أن الملياردير سيتمنى لو أنه أنفق كل أمواله من أجل أن ينقذه من الموت, إلا أن الرجل المتمرس في أصول التجارة، والذى يتحول التراب بين يديه إلى ذهب, علم أن تجارته الآن مع الله تعالى، ففاجأهم جميعا بعبارته الشهيرة "ربح البيع".
أما الرجل الثاني والذى قتلوا ابنه بالفعل, فقد علق حينما نطق القاضي منتشيا بحكم إعدامه قائلا :"لقد أمضيت سبعين عاما أنتظر لحظة الشهادة في سبيل الله ولو أعدموني ألف مرة لن أنكص عن قول كلمة الحق".
كان الأول هو رجل الأعمال الإخواني المهندس "حسن مالك" الذى صادروا أمواله ثم بعد ذلك اعتقلوه وانتظروا بحثا له عن تهمة، بينما كان الرجل الثاني هو المرشد العام للاخوان المسلمين "د.محمد بديع" والذى طاله من افتراءات إعلامية ما يكفي لكتابة التاريخ من جديد.
والحقيقة أن ما قاله الرجلان لا يأتي من قبيل التزامهما تكنيكا إعلاميا يفسد على الخصم فرحته ولكنه جاء على ما يبدو من خلال قناعة شخصية صهرتها وصقلتها تربية خاصة قوامها أن الاخرة خير وأبقي
كان موقف الرجلين متناغما لحد بعيد مع مواقف ثلة من رفاقهما الذين لا يحسبون للدنيا حسابا إلا أنها دار ابتلاء وجب اتخاذها درجا للارتقاء والتطهر من خلال صالح الأعمال, وهو ما لا يمكن له أن يتحقق إلا بوصول هذا الطهر إلى مرحلة النعيم الكبير والذى لا يتحقق إلا في الجنة.
من هذا الينبوع الإيمانى تحولت عقوبة الإعدام إلى درجة راقية من التكريم , فخرجت الحياة من جوف الموت, لا سيما حينما تطال شخصا في السبعين من عمره, هو مفارق الحياة لا محالة, طال عمره أو قصر, بحكم أعمارنا القصيرة كبشر, وهو ما أدركه مبكرا فقرر أن يستنفذها سعيا ليس لها ولكن للمحطة التي تليه.ا

من تاريخ المؤمنين

تجارب تاريخنا العربي والإسلامي تكتظ بالفداء والتضحية لأجل الفكرة والعقيدة والإله, وصلت أوجها في الفتوحات الاسلامية وتظل تتقد كلما اتقدت المشاعر الدينية والقومية أو كلما يكون هناك مدعاة للجهاد والوطنية مثل اوقات الغزو الصليبية والتتارية حتى مقاومة الاستعمار الغربي الذى افترش اقطارنا شرقا وغربا, ليس أول هؤلاء المجاهدين الليبي "عمر المختار" الذى طالبوه بكلمة تعطى حقا لسلطة روما الفاشية في ليبيا إلا أنه رفض وراح يجعل من القرآن آخر شيء طالعته عيناه قبل أن تقطف المقصلة رأسه لتزفها إلى النعيم , وليس آخرهم "صدام حسين" القائد القومي الذى جلجل صوته بالشهادة في ثبات ويقين فاخترق قلوب مليار مسلم في كل بقاع العالم , مرورا بالشاعر والمفكر "سيد قطب" في مصر و"أدهم خنجر" المقاوم اللبناني الجنوبي ضد الاحتلال الفرنسي والمقاوم الجزائري "أحمد زبانة" والمناضل القومي" رشدي الشمعة" في سوريا والطالب السوري "سليمان الحلبي" والاشتراكي السوداني "عبد الخالق محجوب" وآخرين كثيرين يختلفون في الدين والمذهب والفكر ولكنهم يتفقون في عدم اكتراثهم بالموت
ويمكننا أن نستعيد مأثورة واحدة في التاريخ الاسلامي لنعرف منزلة الموت استشهادا عند المؤمنين قالها سيف الله المسلول "خالد بن الوليد" الذى على ما قدم للإسلام من أعمال استنكر على نفسه أن يموت دون شهادة واضحة يقدمها للحياة الأبدية وقال لقد شهدت مئة زحف وما في بدني موضع شبر إلا وفيه ضربة (بسيف) أو طعنة (برمح) أو رمية (بسهم) , وها أنا أموت على فراشي كما يموت البعير.


العالم المؤمن

كما أن الشوق إلى الموت رغبة في نعيم الحياة الابدية, ليس خصيصة لاناس ينتمون للفكر الاسلامي سواء ذاك الذى يري الاسلام دينا ودنيا او حتى هذا الصوفي بمعناه الزاهد من الحياة فحسب, ولكنه أيضا هو قرين لكل من يحمل فكرا وثق فيه وثوق اليقين بدءا من عقيدة البعث والحساب عند الفراعنة حتى الديانات الانسانية في شرق اسيا وغرب أفريقيا وأمريكا اللاتينية.
وفي الفكر الأوروبي بل والعالمي حكايات كثيرة ومثيرة للغاية في هذا المضمار, كان "كيركجارد" فيلسوفا دنماركيا مؤمنا, راح يغوص في حياة الدنيا حيث متاع الحواس ولما سئم من تلك الرتابة , وثب وثبته القوية نحو إمتاع روحه حتى تتشبع, ولما سئمت روحه من هذا التحليق الروحي في الكون "الافتراضي" الفسيح وطمحت في نهاية الارتقاء , قال إنه أدرك حقيقة الحقائق , فوثب وثبته القوية نحو اللاهوت في جنة الإله.
وكان دانتي شاعرا إيطاليا مؤمنا أيضا, عكس عبر بلورة سحرية في اعجوبته "الكوميديا الإلهية" المكونة من ثلاثة أقسام "الجحيم، المطهر والفردوس" في عمق وصف متاع النعيم الذى لا يشبهه شيء ولا يناله إلا الصالحون , وبرغم أن البعض اتهمه بسرقة أو اقتباس بلورته السحرية تلك من سيرة "الإسراء والمعراج" الاسلامية و"رسالة الغفران" للشاعر العربي "أبي العلاء المعري" وهي رسالة تصف الأحوال في النعيم والسعير والشخصيات هناك، إلا أن "دانتي" أجري عليها بعض التعديلات لتواكب الدين المسيحي, ومع ذلك فان الانبهار الغربي بها يؤكد أن قوة الاعتقاد ليس لها وطن ولا دين.
وأيضا استشعر خصوم "سقراط" خطورة تعاليمه على مراكزهم ومصالحهم فاتهموه بالهرطقة، وعندما عرض عليه صديقه تهريبه من السجن وإنقاذه من حكم قضائي ضده بالإعدام أو النكوص عن اعتقاده, انحاز لما يعتقد ، فتجرع السم باطمئنان وبقي يلقي تعاليمه على الذين حضروا مأساته إلى اللحظة الأخيرة.

12 نوفمبر 2015

مقال تعيد المدونة نشره بمناسبة احتفال السيسي للعام الثانى على التوالى بالحرب العالمية الاولى التى بيع فيها العرب


محمد سيف الدولة يكتب:
 خطيئة الاحتفال بالحرب العالمية الأولى
لا اعلم من هو صاحب فكرة ان تحتفل مصر بالذكرى المئوية للحرب العالمية الاولى، وهى الحرب التى كانت وبالا علينا جميعا، ففيها تم تقسيمنا بموجب اتفاقيات سايكس ـ بيكو، وتم توزيعنا كغنائم حرب على المنتصرين من الاوروبيين، وخرجت منها كافة الأقطار العربية وهى ترزح تحت الانتداب/الاحتلال البريطانى او الفرنسى او الايطالى الذى استمر الى ما بعد الحرب العالمية الثانية، والذى كان سببا رئيسيا فى تخلفنا ونهب ثرواتنا.
وفيها بدأ تدشين المشروع الصهيونى بإعطاء اليهود الحق فى وطن قومى فى فلسطين بموجب صك الانتداب البريطانى 1922 ومن قبله وعد بلفور المشئوم 1917.
وفيها قام الاوروبيون باحتلال القدس لأول مرة منذ ان حررها صلاح الدين فى 1187، ودخلها الجنرال الانجليزى اللنبى بجيوشه فى 9/12/1917 وقال قولته الشهيرة "اليوم انتهت الحروب الصليبية". وهو ذات المعنى الذى كرره بعده الجنرال الفرنسى هنرى غورور حين احتلت قواته دمشق فى 25 يوليو 1920، فذهب الى قبر صلاح الدين وقال بشماتة "ها قد عدنا يا صلاح الدين".
ان استكمال احتلال البلاد العربية فى الحرب العالمية الاولى، وخاصة بلدان المشرق العربى التى لم تكن قد خضعت بعد للاحتلال الاوروبى، هو فى التاريخ والوعى والضمير الاوروبى الاستعمارى العنصرى، هو مجرد امتداد للحملات الاستعمارية التى شنت على أوطاننا منذ تسعة قرون، والتى لم ينسوا او يغفروا لنا أبدا انتصارانا عليهم فيها و طردنا لآخر جندى منهم فى عام 1291.
فنأتى نحن اليوم ونحتفل بها !؟
اى رسالة تلك التى نريد ان نبعث بها الى شبابنا وأولادنا بمشاركتنا فى هذا الاحتفال ؟
أنريد أن نخبرهم اننا نفتخر بهذه الحقبة التى كنا فيها محتلين وتابعين وضعفاء ومساقين وشعوبا من الدرجة الثالثة والرابعة.
هل نريد ان نروج لعصور الاحتلال والتبعية ؟
ام اننا نريد أن نتقرب من الغرب ومجتمعه الدولى، فى محاولة لنيل الرضا والاعتراف،على غرار مشاركتنا الحالية فى التحالف الامريكى الاستعمارى فى العراق وسوريا ؟
ان الشعوب والأمم العريقة، لا تنسى أبدا ثأرها، ممن اعتدى عليها واستعمرها واستعبدها.
حتى الصهاينة المجرمون لا يزالون يهاجمون مصر والمصريين بدعوى إخراجهم لليهود من مصر منذ ما يزيد عن 3000 عام. ولا يزالون يبتزون العالم بالهولوكست، وبالاضطهاد الاوروبى لهم فى العصور الوسطى، وبعنصرية شكسبير فى رواية تاجر البندقية، ولا يزالون يتاجرون بمحاكمة الضابط الفرنسى اليهودى "دريفوس" للتدليل على عنصرية أوروبا ومعاداتها للسامية.
فلماذا نسينا نحن جرائم الحقبة الاستعمارية الاوروبية التى قد تمتد آثارها المدمرة علينا لقرون طويلة ؟
هل يمكن ان ننسى لهم مذابح الإسكندرية والتل الكبير ودنشواى وثورة 1919 وكوبرى عباس والاسماعيلية وحريق القاهرة والعدوان الثلاثى وغيرها؟
ثم نتذكر لهم بدلا من ذلك انتصاراتهم على بعضهم البعض، باستغلالنا واستخدامنا أوطانا و بشرا ومواردا كوقود لحروبهم الاستعمارية الإجرامية.
***
لقد قامت الحرب العالمية الاولى بسبب تنافس وصراع الدول والامبراطوريات الاوروبية على استعمار باقى شعوب العالم. صراعا بين القوى الاستعمارية المهيمنة كبريطانيا وفرنسا وروسيا من جانب، وبين ألمانيا والامبراطورية النمساوية المجرية والدولة العثمانية رجل اوروبا المريض.
وللفيلسوف البريطانى الشهير "برتراند راسل" مقولة شهيرة بالغة الدلالة فى عنصريتها، حين سألوه عن سبب رفضه للحرب العالمية الاولى واعتقاله لذلك؟ فأجاب انه كان من الممكن تجنب الحرب لو قامت بريطانيا وفرنسا بإعطاء ألمانيا بعضا من مستعمراتها !
هكذا يفكرون، لقد كانت حرب بين لصوص العالم. حرب المنتصر و المهزوم فيها أشرار. والضحية فى جميع الاحوال هى شعوبنا.
***
لقد قال اللواء أركان حرب جمال شحاتة رئيس هيئة البحوث العسكرية فى الكلمة التى ألقاها فى الاحتفال، إن الجيش المصرى قدشارك مع الحلفاء فى 5 أغسطس 1914، لنصرة الإنسانية، بأكثر من مليون و200 ألف مقاتل، وقاتل فى 3 قارات "آسيا وإفريقيا وأوروبا"، وكان ترتيبه الثامن من حيث عدد القوات المشاركة. وانه قدّم أكثر من نصف مليون شهيد فى الحرب العالمية الأولى، ودفن من سقطوا من هؤلاء الشهداء فى بلاد مختلفة بمقابر الكومنولث.
فهل يجوز الافتخار بمثل هذه المشاركة التى قدمنا فيها نصف مليون شهيد من جملة عدد القتلى الذى بلغ 8.5 مليون فى هذه الحرب الاستعمارية الإجرامية ، بدون أن نحقق أى مقابل أو مكسب او مصلحة.
فازت بريطانيا التى لم يتعدَ عدد قتلاها هى ودول الكومنولث مجتمعة، 900 الف قتيل، باحتلال غالبية بلدان أفريقيا وآسيا بالمشاركة مع حلفائها، بينما خرجنا نحن فاقدى الاستقلال، مجزئين مستعبدين، بل ومحرومين من المشاركة فى كل مؤتمرات ومقررات ما بعد الحرب، التى رفضت مطالبنا بالاستقلال. انها أياما سوداء فى تاريخنا .
ورغم كل هذه التضحيات المصرية المجانية، لم ينسب لمصر أى دور أو فضل فى اى من المراجع التاريخية الرئيسية التى تناولت الحرب.
كما أن الجنود المصريين، شاركوا فيها بالإكراه والكرباج والسخرة لصالح مصالح بريطانيا الاستعمارية وليس لصالح مصالح مصرية او عربية.
وحتى لو كان الاحتفال مجرد مناسبة بروتوكولية، فان المشاركة غير مقبولة أيضا، فلا أحد يحتفل بهزائمه أو بعصور استعباده؛ فهل نحتفل بالاحتلال البريطانى 1882 أو بالانتداب 1922 ؟ أو بذكرى النكسة فى 5 يوينو 1967، أو بذكرى النكبة فى 1948 ؟
وهل يمكن ان يحتفل الزنوج بذكرى اصطيادهم وترحيلهم واستعبادهم فى الولايات المتحدة الامريكية؟
أو الهنود الحمر بذكرى إبادة المستوطنين الاوروبيين البيض لهم ولقبائلهم ولحضارتهم؟
***
ان المشاركة تعكس خللا واضطرابًا فى البوصلة الوطنية. ولقد سبق ان حسمت القوى الوطنية موقفها من مثل هذه الاحتفالات والمناسبات التاريخية، حين رفضت وتصدت للاحتفالية التى نظمها فاروق حسنى وزير ثقافة مبارك بمرور مائتى عام على حملة نابليون بونابرت.
ورغم ذلك نأتى اليوم ونكررها مرة أخرى، انها بلد العجائب !
*****
كتب هذا المقال فى نوفمبر عام 2014

11 نوفمبر 2015

محمد رفعت الدومي يكتب: مطلوب خيّاطة

مدينتنا تواصل الهبوط إلي ما تحت القبو بخطوات عصبية، لم تدخل سردابًا مجهول المعالم أكثر مما هي الآن، حتي الإستعمار الصريح لم ينجح في استدراجها إلي هكذا حالة، شعور محموم بالذعر العميق وضياع الطريق يضرب قلوب المصريين جميعًا، كل الطرق ظلال دائرية لا تقود إلي غاية، قيثارة بليدة تعزف صوتاً واحدًا صنعت في خمسينيات القرن الماضي، ونعيق الغربان يتردد في كل مكان! 
ليس من مصري واحد في قرارة نفسه يريد المضي قدمًا نحو تجربة سياسية أخري يكون للجيش نبض فيها بعدما انحاز ضد الشعب من أجل أقلية لا يريدون أن يتقبّلوا إملاءات التطور وتحولات الحياة، ولا أن يخسروا ولو قطعة مما يظنونها كعكة مقدسة يتوارثونها بحكم الزي في سبيل انتشال الكثير من الوطن والسكان وأنفسهم من الفجوة المرعبة التي تتهيأ لابتلاع الجميع..
لقد اكتشف الناس بياض الحرية لبعض الوقت وضاقت صدورهم بكل من يعتبر الحوار هرطقة، والنظر إلي الأمور في ضوء مغاير تطاولاً، والمعارضة حكمًا إن لم يكن بالإعدام فلا أقل من السجن المؤبد، كأنما عقد هؤلاء العزم علي الزحف إلي الخلف ولو علي دماء المصريين جميعًا، وعلي ألا يتركوا ورائهم سوى الأطلال، تلك الاستهانة الباهظة بروح القانون وبكل معاني المواطنة صار السكوت عليها عبئاً يفوق طاقة المصريين! 
لكأن الرغبة في الاحتفاظ بامتيازاتهم إلي الأبد أعمت عقول هؤلاء عن إدراك أن الخطر هذه المرة أكبر من أي مجازفة (استراتيجية) من مجازفاتهم البائسة، ولربما أدركوا أن الوطن الذي كان علامة علي احترامهم صار علامة على ضرورة انسحابهم من كل ما يمت إلي السياسة من قريب أو من بعيد ولكنهم لا يعرفون متي ولا أين ولا كيف يتوقفون، أو ربما يجهزون الآن وجههم القادم في مؤامرة أخري حتمًا سوف يكون مصيرها أيضًا الفشل ما دام علي الجانب الآخر ثمة شباب لم يسأموا بعد من البحث عن وطن يحترم بديهيات الديمقراطية، تلك البديهيات التي بمقدورها وحدها أن تضبط إيقاع شهوة الأغبياء إلي السلطة حتي بعد انقضاء مدة الصلاحية وتبخر الأوهام، وأنا هنا أستعير أصابع الفيلسوفة الأمريكية روسية المولد "آين راند" حيث تقول: 
- شهوة السلطة هي أعشابٌ تنمو فقط في القطع الشاغرة من الأدمغة المهجورة!
من السئ ألا شئ يفصل بين الماضي والمستقبل في هذه المعركة الصفرية إلا بندقية صماء سوف لا تسمع بالتأكيد ماذا يريد القتيل أن يقول قبل أن يترك هذا العالم!
لم يعد يخفي علي أحد أن ثورة يناير كانت ثورة ناقصة، والثورة الناقصة هي هاوية مرشحة لابتلاع وطن بأكمله، هذا عرفٌ تاريخي أشبه بالدارج، وهذا ما حدث فعلاً، لقد وصلت مصر إلي آخر موطأ قدم من الحافة من جراء عدم اكتمال ملحمة يناير، كان السبب المفصلي في نقصها هو، لا عدم وجود قائد لها، بل لتورط بعض الذين لبسوا مسوح الثوار في الترويج لهذه الشائعة ليوم له ما بعده، كل ما صدر عن هؤلاء بعد ذلك أكد أنهم ضالعون في مخطط إحباط محاولة انتقال مصر إلي المستقبل دون خسائر!
إن مما هو في حكم المؤكد أن عددًا من الذين انحازوا إلي الميدان، بل من الذين ساهموا في استدراج المصريين إليه قبل الثورة بشهور طويلة، كان بمقدورهم نقل الحلم بالتغيير من مجازفة التحرير الأشبه بالحلم إلي حقائق السياسة وتحويل الحلم إلي واقع، وكان من بينهم من يعرف كيف يجعل كتلة الثوار لا تنهار قبل انهيار عالم "مبارك" الكريه من الأمام ومن الخلف ومن الجانب الآخر وتطويقه من الذين لم يعرفوا في عالمه شيئاً عن الحق في الدفاع عن النفس ولا العدالة، وقبل اكتمال الثأر المؤلم من ستين عامًا من الخوف والقهر والقتل المجاني والمهانة وسرقة الأحلام، غير أن الأرض تآكلت سريعًا من تحت أقدام هؤلاء بفعل فاعل، أو بفعل كثيرين علي وجه الدقة!
لم يستغل الميدان قوة اللحظة التي كانت تقتضي أن تكون النهاية أعلى سقفاً وأرحب مساحةً من ضيق خيار "مبارك" وخبثه مهما كانت الخسائر، ما كانت لتكون بأية حال "1" علي "1000" من الخسائر التي نجمت، وتنجم، وستنجم، عن ترك الميدان قبل الأوان، ربما لأن الفرحة الزائدة عن الحد هي البوابة الملكية للغفران، ولقد بلغت فرحة المصريين عند تنحي "مبارك" حدًا كانوا مستعدين عنده لغفران خطايا الإنسانية كلها، لكن الخسة كاسمها، ذلك أن نظام "مبارك" عندما تأكد من انكسار قوة اللحظة راح يبجث للجميع عن جدران تفصلهم، وواصل العمل علي ارتفاعها وتكثيفها حتي حجبت الجميع عن الجميع، وصار كل شركاء شتاء يناير بحميميته وترقبه وأحلامه البيضاء جزرًا منعزلة انهارت بينها كل الجسور سريعًا، سريعًا جدًا!
وتظل الثورة الفرنسية مرجعًا رئيسيًا لكل الثورات، وقصة مدينتين A Tale of Two Cities"" هي الرواية التاريخية الثانية للكاتب العظيم "تشارلز ديكنز"، والمدينتان هما "باريس" و "لندن" في مدة زمنية واحدة، لقد كتب هذه الرواية عام "1859" ليؤرخ لأجواء الثورة الفرنسية وملامحها والأسباب الحاثة علي اندلاعها وذلك الانتقام المسرف الذى مارسه الثوار علي النبلاء والإقطاعيين دون أن يقيموا لأدنى معايير العدالة وزناً، ولقد استلهم "ديكنز" الرواية من كتاب "الثورة الفرنسية" للكاتب الإسكتلندي "توماس كارليل"، وتعد هذه الرواية مصدرًا جذريًا لكتابة التاريخ أدبًا، كما صارت مع بيع "200" مليون نسخة منها أعلي كتاب أصلي مكتوب بالإنجليزية تمت طباعته!
من السهل أن يكتشف كل من يقرأ "قصة مدينتين" أن الحالة التي تصنعها الأنظمة القمعية متشابهة في كل مكان، عندما كان "الباستيل" رمزًا للمخاوف والمعلم الأشهر دلالة علي "فرنسا" المظلمة، كما كان الفقر مرضًا فرنسيًا بلغ من الضراوة حدًا دفع "ديكنز" إلي أن يرسم في روايته بالكلمات لوحة لبرميل مملوء بالنبيذ الأحمر قد انكسر في أحد شوارع حي "سانت أنطوان"، فترك كل الناس أعمالهم وهرولوا إلى مكان البرميل يحاولون شرب قطرات النبيذ قبل أن تبتلعها الأرض، بل نزع بعضهم ثيابه وأخذ يغمسها في النبيذ المسكوب ثم يعصرها في فمه!
وكما نحن الآن في نظر سادتنا المزمنين، كان الفرنسيون في نظر الإقطاعيين أرقامًا، لقد ضغط "ديكنز" علي هذا المعني بقوة أكثر من مرة: 
المرة الأولي عندما يدهس الماركيز "سان إيفرموند" ابن الفلاح الفقير "جاسبارد" بعربته، ثم يلقي إليه في استعلاء عملة نقدية كتعويض عن خسارة ابنه! 
والمرة الثانية، عندما يتمكن "مستر لوري" من الوصول إلي صديقه القديم الدكتور "مانيت" فيجده مستغرقاً حتي جذور أعصابه في صناعة حذاء حريمي حتي أنه لم يلحظ أحدًا ممن دخلوا إليه، ويتقدم صديقه العجوز نحوه ويسأله بصوت هادىء إن كان يتذكره فلا يرد، ويسأله مرة أخري: ما اسمك؟ 
فيجيب بصوت منهك:
- اسمي مائة وخمسة البرج الشمالي! 
كان يشير بهذه الكلمات إلى رقم زنزانته في سجن الباستيل! 
ليس هذا أسوأ ما في الأمر، إنما الأسوأ أن الدكتور "مانيت" صار يؤمن أن السجان فقط هو من له الحق في استئناف الوجود والتواصل مع المستقبل، لذلك، عندما تقترب منه ابنته "لوسي" في تأثر بالغ وتضع يدها فوق ذراعه، يلتفت إليها ويسألها: 
- هل أنتِ ابنة سجاني في الباستيل؟
غير أن أبرز المشاهد التي لابد أن تتمسك بها الذاكرة فى "قصة مدينتين" هو مشهد "مدام ديفارج"، تلك المرأة التي التهم أعماقها الحقد على عائلة "دارني" الأرستقراطية بسبب ما فعلته بعائلتها في الماضي، لقد كانت الوحيدة الناجية من تلك العائلة التي حطمها "آل ايفرموند"، امرأة عابسة وفقيرة تحتل ندوب قلبها كل المسافة بين عقلها وتصرفاتها، شفتاها علي الدوام مزمومتان فى صرامة، ولقد رسم "ديكنز" هذا المشهد لها بحرفية عالية: 
"مدام ديفارج" تجلس في الحانة على مقعد بجوار زوجها "مسيو ديفارج" منهمكة في شغل الإبرة، كانت تنسج أسماء جديدة لمن حكم عليهم العوامُ بقطع الرأس بمقصلة الجلوتين، تتوقف أحياناً لتقوم بإملاء زوجها بعض الأسماء التي نسجتها بالإبرة في وقت سابق، وكلما نسيت اسمًا استعانت بصديقاتها المتواجدات معها بالحانة لتذكيرها، كان المخمورون يطلقون صرخاتٍ أشبه بعواء الذئاب استحساناً لإضافة كل اسم جديد، هذه الأصوات الممتلئة بنشوة الشراب الردئ كانت هي النغمات الأولي لعواء الحشود المتعطشة للثأر الذى اتصل فى "ساحة الشعب" حيث نصبت المقصلة الرئيسية! 
فما أحوجنا الآن إلي "خياطة" تنسج الكراهية، حتي لا ننسي، لقد ساهمت المغفرة وتجاوز الماضي في خرق ثورة يناير بقدر يصعب إنكاره، حتي أن بعض إعلاميي "مبارك" وبعض رجال دينه وبعض مثقفي نظامه وبعض معارضي نظامه من فوق السطح والمولودين من رحم مخابراتي خالص من تحت السطح، بعدما كانوا يحرضون علانية علي حرق الثوار أحياء لم يجدوا غضاضة في أن يحصوا أنفسهم فيما بعد من بين ثوار التحرير، بل لم يمنع الخجل بعضهم أن يدعي مساهمته في صناعة الثورة، وتقبَّل المصريون هذه الأكاذيب عن طيب خاطر، علي الرغم من أن كل مصري كان لديه القدرة على مشاهدة مساحة الضوء التي كان يشغلها هؤلاء أو تشغلها أقلام هؤلاء أو أصواتهم، وتلك النفايات التي كانوا يبصقونها في عقول البسطاء بهدف تعطيلها وحراسة بطالتها، سوف يُدرك ببساطة الماء أن هؤلاء لعبوا دورًا جسيمًا في تقويض الحلم وتعطيل التغيير وتخصيب الأحقاد وإقناع البسطاء بأن حظيرة "عبد الناصر" هي الخيار الوطني الذي يجب الإخلاص له، تمامًا كما استداروا إلي حقيقتهم، عندما شعروا بزوال الخطر وثبَّتهم العسكر، واستأنفوا العمل علي إقناعهم في عهد "د.مرسي" بأنها الخيار الوطني الذي يجب استرداده، والآن أيضًا، وبانفعالات مسرفة!
لا شك أن الأنظمة القمعية لايمكن أن تقوم بذاتها، لأنها أنظمة هشة بطبيعتها، لا يحميها من الانهيار إلا الخداع المتواصل وبعض السفلة الذين لا ضمير لهم من الموهوبين في فنون التضليل وفنون اختطاف البسطاء بعيدًا عن بشاعة الواقع، لذلك، إذا زار مصر، في أي وقت، يومٌ كيوم "فبراير" 2011 الشهير يجب أن تتسع دائرة العقاب لتشمل كل من ساهم في استعادة الشر وتجميل القتلة، من أجل المستقبل فقط، أعرف أن أوطان هؤلاء هي حقائب السفر، كما أعرف أنهم سوف يتوغلون في مساحات الفرار عند أول إحساس بالخطر، لكن لليهود تجربة جديرة بالاستنساخ في هذا السياق، لقد نجح الموساد الاسرائيلي في ملاحقة واغتيال معظم الذين تورطوا في الهولوكوست ثم تمكنوا بعد سقوط "ألمانيا" من الفرار إلي "أمريكا الجنوبية" ومخابئ أخري، هذه هي العدالة، إلا من رجع قبل انتهاء صلاحية الرجوع وجفاف مواسم الغفران!

09 نوفمبر 2015

نجاد البرعي يكتب: الأمن وليس الخوف

رساله تسلمتها. استاذ فى احدى الكليات المرموقة. يقف بسيارته فى احد المراكز التجارية .سيدة تعود بسيارتها إلى الخلف مسرعة، كادت تصدمه، نبهها؛ تشاجرت معه. اخذت رقم سيارته، اجرت اتصالا هاتفيا سريعا، نظرت اليه وعائلته وقالت ابلغت عنكم «شكلكم إخوان»!!. يقول الرجل «حاولت ان اعتذر لها خشية ان اجد نفسى أو احد ابنائى فى المعتقل أو السجن أو خشية المذلة والمهانة فى احد اقسام الشرطة». ترك الرجل رقم هاتفه اتصلت به؛ تركت له رقم هاتفى وانا اعرف انه لو حدث له ما يخشاه فلن يستطيع احد ان يساعده. بعدها بيوم واحد اتصلت بى احدى السيدات قالت «ان اخاها أحمد محمود عبداللطيف والذى يعمل اماما وخطيبا بوزارة الأوقاف تم اختطافه اثناء سيره بمنطقة البحوث فى ١٦ اكتوبر الماضى ».
علموا بعد وساطات متعددة انه محتجز بشكل غير رسمى فى لاظوغلى. الشاب الذى يبلغ من العمر ٣٢ سنة كفيف. ارسل اهله برقيات إلى النائب العام ووزير الداخلية دون رد. قالت «انا مستعدة ادفع أى اتعاب حضرتك عايزها، انت محام معروف واكيد تعرف تتصرف». قلت لها «لا تخافى سيحتجزونه مدة ثم يرسلونه مع بعض الاتهامات إلى النيابة والتى ستبقيه رهن الحبس الاحتياطى إلى امد غير معلوم، وعندها يمكن لك ان تزوريه فى السجن.. وفرى عليك مالك «!!. بعد يوم واحد اصدرت وزارة الداخلية بيانا قالت فيه انه «بناء على تحريات الأمن الوطنى تم القبض على خلية إخوانية تقوم بسد مصارف الأمطار فى الإسكندرية لإحداث حالة من السخط الجماهيرى ضد النظام القائم». تم القبض على مواطنين بتلك التهم مضافا اليها قليل من التوابل حول استهداف ضباط الشرطة والجيش!!. فى الوقت الذى كان فيه «الأمن الوطنى» مشغول بمعرفة من سد مصارف الأمطار فى الاسكندرية ليغرقها، كانت دول اجنبية ترسل خبراءها للتحقق من توافر «الأمن» فى المطارات المصرية.
عدم قيام «الأمن الوطنى» بواجبه بمهنية ونزاهة سيؤدى إلى مزيد من العمليات الارهابية. استغراقه فى محاولات خلق «مناخ من الخوف» داخل المجتمع للحفاظ على «استقرار الدولة» لن يؤدى الا إلى توترات عنيفة وخطيرة تتجاوز بكثير ما حدث فى يناير. الذين اكتشفوا ان هناك خلية إخوانية تسد مصارف الامطار فى الاسكندرية عجزوا عن حل لغز «اغتيال النائب العام» فى وسط القاهرة. دولة الخوف لن تحارب الارهاب، ولكنها تساعد على ان يتفهم البعض مبرراته بل ويساعده. الوقت قد حان للقيام بمهمة إصلاحية واسعة داخل جهاز «الامن الوطنى»، خلال العام الماضى بدا للكثيرين ان «القانون فى اجازة» وهو امر لا يصب فى صالح الدولة واستقرارها بالقطع. تُقام الدول على الامن وليس الخوف، الخائفون لا تقوى ايديهم المرتعشة على البناء.

وائل قنديل يكتب : جمهورية "ما يصحش كده"

كانوا يصرخون "تحيا مصر"، كلما وجدوا أنفسهم بصدد استحقاق لازم، أو سؤال موضوعي، يرددونها ثلاثاً، بشكل هيستيري، قافزين في أحراش الوطنية الفاسدة، للاختباء، والابتزاز، ومواصلة الاستثمار في الأوهام والاتجار في الأكاذيب. الآن، لم تعد "تحيا مصر" تسد رمق الجائعين للأجوبة، ولا تقي من انهمار سيول الأسئلة، بعد أكثر من عامين، تمتع فيها نظام عبد الفتاح السيسي بوضعية طفل العالم المدلل، والمريض الأولى بالرعاية، من أولئك الباحثين عن جنرال يمارس الاستبداد والقمع بيد، وبالأخرى ينفذ ما يأمره به الرعاة، على النحو الذي يحقق مصالحهم، وفي العادة، تكون هذه على حساب المبادئ والقيم المحترمة. وفي الداخل، يتمتع بمكانة الصنم المقدس، التميمة، أو "المبروك" في تراث الخرافة الشعبية، الذي لا يجيد الكلام، ولا الفعل، ولا التفكير، لكنه مثل "الخرزة الزرقاء"، يكفي وجودها على باب الدار لجلب الرزق، كما يعتقد ضحايا الدجل والشعوذة. قبل عام تقريباً، وتحت عنوان "الزعيم السيسي في الحضانة" كتبت الآتي: يسلك عديد من النظم السياسية العربية والدولية مع عبد الفتاح السيسي، باعتباره الزعيم الذي ولد مبتسراً. وبالتالي، لا مناص من وضعه في "حضانة"، أملا في اكتماله وامتلاكه القدرة على الحركة والقابلية للنمو. وبعد أكثر من 18 شهراً مضت على "زرع" هذه الزعامة الاصطناعية في مصر، يكتشف الرعاة والداعمون أن كل ما فعلوه لم يحقق المطلوب، فقد ضخت هذه النظم الكثير، لتوفير البيئة الملائمة لإنجاح عملية إنضاج الزعامة المبتسرة في حضانةٍ، لم يبخل عليها أحد بالمال والسلاح وأطقم الحراسة". وأتبعت "والمدهش أن زعيم الجماعة الانقلابية يسلك، هو الآخر، وفقا لسيكولوجية المبتسرين، إذ يكاد يكون مستقراً في يقينه أنه طفل العالم المستحق للرعاية الشاملة، كونه يردد ما يملى عليه من "كتاب الأناشيد" الخاصة بالحرب على الإرهاب. ومن ثم يريد إسقاط مديونيات، إسكات منابر إعلامية، إبعاد معارضيه وتشريدهم في كل واد، ابتزاز معونات ومساعدات، وكأنها حق أصيل، إلى آخر معطيات هذه الحالة التي لا تجدها إلا في مجموعات التسول بعاهات مصطنعة". كان ذلك في ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي. والآن، بعد مرور سنة أخرى، يكتشف الجميع أن الطفل المدلل، خارجياً، والصنم المقدس، داخلياً، لا يملك مقومات البقاء، بعد أن استنفد عدد المرات المسموح بها بالرسوب، وأهدر كل فرص النجاح، فالداخل يغرق في مياه الأمطار، وعواصف الدولار، ويتخبط في عراء اقتصادي موحش، انخفض فيه الاحتياطي النقدي إلى ما تحت الصفر، والخارج يحترق بفعل فشله الأمني والاستخباراتي، ليصل الأمر إلى حدود اختراق الإرهاب للمطارات والمنافذ وتفجير الطائرات، في سيناء التي كان البند الوحيد، في سيرته الذاتية، المقدمة للحصول على وظيفة "حارس منخفض السعر لمشروع الحرب على الإرهاب". اكتشف الجميع هزاله، وأيقنوا أن استمراره خطر داهم، إذ يقود الطائرة بعقلية سائق الجرافة، أو المدرعة، أو ينطلق بدراجة نارية داخل محل للخزف والزجاج، لا تزيد مساحته عن عشرة أمتار مربعة. وحين اكتشف العالم أن الصمت والتغطية على هذا الهراء سيجلب كوارث، تكلموا وفعلوا ما يرونه في صالحهم، فسارعت لندن بسحب السائحين البريطانيين على وجه السرعة، وتبعتها موسكو، وعواصم أخرى قررت تعليق رحلاتها إلى المطارات المصرية التي تستأسد سلطاتها على امرأةٍ، مثل ياسمين النرش، أو تلميذ أو كاتب أو ناشط تمنعه من السفر، لكنها شديدة النعومة مع احتمالات الإرهاب والخطر. هنا، لم يخرج رد فعل النظام عن ترديد أناشيد الوطنية المختلة، وإطلاق ميكروفونات العبط تتحدث عن المؤامرة الكونية، على الجنرال الذي يرعب الأميركان، ودخلت روسيا إلى قائمة الأعداء المتآمرين، على الرغم من أن الأصوات نفسها كانت، قبل وقت قليل، تكاد تسجد للجاكيت ذي النجمة الحمراء، هدية بوتين الكبير إلى "بوتين الصغير"، كما حاول إعلام السيسي أن يختلق سمات وملامح وخصائص وجذور مشتركة لجنرالهم مع قيصر روسيا الجديد. تمتد حالة الهذيان القومي، لتجعل إعلام السيسي يتحدث عن نجاح "الزيارة التاريخية لبريطانيا"، ثم بعد دقائق يُتهم الإنجليز بالتآمر ودعم الإرهاب، تماما كما أنزلوا بوتين من مرتبة الراعي الصالح والداعم الأكبر إلى الضعيف الخاضع للظروف، المتآمر. ولا تتوقف الهلوسة على إعلاميين خلت أدمغتهم إلا من قاموس للبذاءة والإسفاف، لتشمل الرجل الأول في الدبلوماسية، فيستنكر سامح شكري وزير الخارجية موقف الدول الأوروبية المحذر من خطورة أوضاع الطيران في مصر، ويطالبها بأن تكون قمعية ومعتمة مثل سلطته، فلا تعلن ما لديها من معلومات وبيانات، عبر وسائل الإعلام، وتعطيها لمصر. منطق ساذج لا يختلف عن منطق "ما يصحش كده" الذي يشهره رئيسه في وجه كل منتقد أو معترض، أو حتى ناصح. إنه نظام يهرب من فشله وبلادته في مواجهة الأمطار بإلقاء التهمة على "الإخوان" بسد البلاعات، ويبتز الذين أصابهم الهم والغم على وصوله بمصر إلى مصاف الدول الأكثر فشلا، باتهامهم بالشماتة، وتنتفي فيه الفوارق بين "البيان الرسمي" و"الجنون الرسمي"، ويردد، طوال الوقت، أن كل سكان الكرة الأرضية يتآمرون عليه. ويواصل دغدغة عواطف المخدوعين فيه بعبارات "مصر لن تركع"، تلك التي اخترعتها فايزة أبو النجا، وزيرة مبارك سابقا، وصانعة فكر السيسي وخطابه، بشأن علاقته بالعالم، حالياً. ومع نظام بهذه المواصفات البائسة، يصبح الصمت على الإهانة الدولية التي يعرّض لها مصر نوعاً من الخيانة، فارحمونا من "أستاذيتكم الفارغة"، وحديثكم التافه عن الشماتة والتشفي

بلال فضل يكتب: النسخة الإجرامية من حب الوطن


كم كارثةً يحتاج مؤيدو الحكم العسكري، لإدراك أن موديل الوطنية الهستيرية الزاعقة، الذي أدمنوا استخدامه، يهدد بتدمير مصر، بأسرع وأقسى مما يحلم به أي خائن أو متآمر؟
لا يبدو أن كارثة قنبلة الطائرة الروسية ستوقظ مؤيدي عبد الفتاح السيسي من غيبوبتهم الاختيارية، ولا أظن أن كارثة أخرى ستفعل، فحين تلغي عقلك، وتسلم قرارك لقاتل، سيصبح مصيرك مرتبطاً بمصير القاتل، ومرهوناً بقدرته على ممارسة مزيد من القتل، من أجل حماية نفسه ومصالحه، وحين لا يكون ذلك القاتل مرتبطاً بشخص، بل مرتبطاً بمجموعة مؤسسات أصبحت تمارس القتل وتحميه، من أجل الدفاع عن مصالحها، تكون المسألة أعقد من رحيل شخص أو بقائه، ويكون على من بقي محتفظاً بعقله وضميره أن يتصرّف بحذر شديد، لتقليل حجم الخسائر، ومحاولة التفكير في بدائل للخروج بمصر من ثنائية "العسكرجية والإسلامجية"، لكي لا يظل فيلم (ما بعد يوليو 52) الدامي والماسخ يُعاد إلى الأبد، من دون أن يتغير في تفاصيله شيء، سوى عدد الضحايا ووطأة الألم.
خلال الأيام الماضية، شهدنا محاولات "سيساوية" ضارية لإنكار وجود قنبلة في الطيارة الروسية المنكوبة. والآن، نشهد محاولات أشد ضراوة للتملص من مسؤولية وصول القنبلة إلى متن الطائرة، بتقديم إجابات مضللة على سؤال "كيف زُرعت القنبلة"؟ ليتم عزل كارثة القنبلة عن المناخ السياسي والأمني والإعلامي الذي ساهم في وقوعها، فينجو المتسببون في الكارثة برؤوسهم ومصالحهم، وتشهد البلاد حالة مؤقتة من التشديد الأمني، تعود بعدها إلى حالة الرخاوة والبلادة المعتادة التي تنتج كارثة جديدة.
حجم المصيبة كبير هذه المرّة، ويمس ملايين العاملين في قطاع السياحة، كان الله في عونهم على مواجهة الأيام الصعبة المقبلة. ومع ذلك، لا يبدو أن هناك رغبة في تغيير طريقة التعامل الرسمي والشعبي مع الكارثة على المستويات كافة، فكما لم نعدم من يحاولون استثمار المصيبة للتغطية على فشل السيسي المنقطع النظير، وتصوير ما جرى ضريبة لمحاولته إنقاذ العالم من خطر "الإخوان"، لم نعدم من يحاولون استثمار المصيبة من أجل وهم استعادة شرعية محمد مرسي، كأن مصر لم تكن وطناً منكوبا في عهد مرسي، وكأن أنصاره لم يكونوا، عقب كل كارثة، يرددون المبررات نفسها التي يرددها الآن أنصار السيسي، ويتشدّقون بالحديث نفسه عن المؤامرات الكونية ضد الدين والوطن والأيدي المتوضئة.
أخطر ما في الكوارث المدوية، أنها تنتج حالة من الهستيريا، تخيف الراغبين في طرح الأسئلة الحقيقية، وتمنع تسمية الأشياء بمسمياتها، ولعل هذا ما جعل كثيرين ممن يفترض أنهم أصحاب عقول وألباب، يندفعون في الأيام الماضية، إلى إعتماد سيناريوهات المؤامرة الدولية في تفسير ما حدث من تطورات متلاحقة، وفي مقدمتها سيناريو أن هناك "لعبة أمم" تجري بين أميركا وبريطانيا من ناحية وروسيا من ناحية أخرى، وأن قضية الطائرة ليست سوى تصفية حسابات بين الأطراف المتصارعة في سورية، وحين أصدر فلاديمير بوتين فجأة قراره تعليق الرحلات الجوية الروسية إلى مصر، لم يسكت مروجو سيناريو المؤامرة خجلاً أو أسفاً، بل اعتمد كثيرون منهم منطق "ما فيش صاحب بيتصاحب"، للتأكيد على أن روسيا انضمت إلى المؤامرة، من دون أن يقدموا أسباباً محددة لذلك، ولو حتى القول، مثلاً، إن الجنرال عبد الفتاح رجل مؤمن، والمؤمن "متصاب بطبعه".
المؤسف أنه كان لدى بعض مروجي سيناريو المؤامرة الدولية، طوال الفترة الماضية، انتقادات حقيقية لأداء السيسي وانتهاكات نظامه، لكن "موديل الوطنية الستيناتي" الذي ما زال الأكثر تداولاً في مصر يرى أنه حين تقع كارثة قومية، فمن الأفضل أن يصطف الجميع خلف صانع الكارثة، لمنحه فرصة أخرى، حتى وإن كانت كل المؤشرات تفيد بأن إمكاناته الضئيلة لا تعد إلا بكارثة جديدة، وحتى لو تأكد أن المشكلة ليست في شخصه، أو أسماء معاونيه، بل في منهج التفكير الذي يقود به البلاد، ما يجعل السماح له بالبقاء على قيد القيادة، مشاركة له في صنع جريمة كاملة جديدة.
لي أصدقاء يعملون في الإعلام يمتلكون تجارب شخصية مع كوارث الأمن والإدارة في المطارات المصرية، حيث يسود شعار "بفلوسك وبمالك هتنول اللي في بالك"، تماماً كما يسود في كل مكان آخر في مصر. ومع ذلك، دفعتهم حالة الهستيريا الوطنية، ليتحولوا إلى أسود ضارية على مواقع التواصل الاجتماعي، تنهش كل من يسخر من سيناريوهات المؤامرة، وتخوّن من يطالب بمحاسبة الذين أشاعوا في مصر مناخاً من الفساد وانعدام الكفاءة وقتل روح الانتماء، يتغذّى عليه الإرهاب، ويتعملق في ظله. والمؤسف أن بعض هؤلاء سبق أن أقاموا في دول أجنبية تحترم مواطنيها، ويعرفون جيداً أن حكومات تلك الدول يمكن أن تقلب الدنيا رأسا على عقب، لحماية مواطنيها، ليس فقط حباً فيهم، بل للإفلات من مسؤولية التقصير في حمايتهم. ومع ذلك، استسهل هؤلاء ترويج سيناريوهات التآمر الدولي الهادف لإسقاط مصر، من دون أن يقدموا تفسيراً للتناقض الذي يجعل دولا تتآمر على مصر، ومع ذلك ترسل لها آلاف السياح لكي ينفقوا فيها ملايين الدولارات، فضلاً عن تقديم تفسير لاستمرار هذه الدول في منح مصر مزيداً من المساعدات والمنح والدعم السياسي اللازم لإبقاء السيسي على قيد الحكم.
الأخطر أن نظرية المؤامرة في مصر لم تعد اختيارا، بل صارت ملاذاً أخيراً للتماسك من أجل البقاء. ببساطة، لا أحد يحب أن يواجه حقيقة أنه بذل كل هذا التأييد والتفويض والتطبيل، من أجل شخص محدود القدرات، لا يمتلك أي مشروع أو خطة إنقاذ للوطن، وكل ما في الأمر أن الظروف أتاحت له تحقيق حلم النط على الكرسي، فنطّ على الكرسي. لكن، بعيداً عن شخص القائد المقلب، دعنا نقول إنه لا أحد يستطيع أن يعيش مرتاح البال تحت سقف دولة، يعرف أنها ليست حقاً دولة. لذلك، سيكون الأفضل له كمواطن أن يتخيّل أنها دولة قوية ومرغوبة، وأن قوى الشر تتآمر عليها، طمعا فيها وخوفا منها، فذلك الخيال أكثر راحة من التعايش مع حقيقة أنك محكوم بدولة شائخة "مخوّخة"، استطاعت قتل آلاف الناس، وحبس أضعافهم، لكنها فشلت في تأمين مطار. وبالطبع، تتعقد المأساة، حين يتعلق الأمر بمواطن منكوب، ينتظر من هذه الدولة المفترضة أن تعوّضه عن خسائره التي حدثت بسبب تقصيرها في أداء واجبها، فعندها يكون التوحش في تبني سيناريو المؤامرة بمثابة إعلان نيات حسنة من المواطن، وعربون تأييد لقائدها. وهنا، لن يكون مطلوباً من المواطن أن يرقص أمام لجنة انتخابية، أو يبتكر أسلوباً جديداً في النفاق والتطبيل، بل عليه فقط أن يتحول إلى جندي مجند مرابط في موقعه، للبطش بكل من يرفض شماعات المؤامرة، ويطالب بضرورة التغيير، لعل الدولة تلتفت إلى معاناته، وتساعده على الخروج من مآسيه. 
هناك من يعتقد أن كوارث من هذا النوع الخطير ستجبر السيسي على إصلاح نفسه ونظامه، فيفتح، مثلاً، المجال العام الذي أغلقه بالضبة والمفتاح، أو يدعو إلى مصالحة وطنية غير دعائية، أو يقوم بتنحية صناع الهستيريا الإعلامية الذين اعتمد عليهم في تقوية نظامه، وهي أحلام، مع تقديري لطالبيها، تنسى أن هذا كان ممكناً، قبل أن تتلطخ يدا السيسي بالدماء، لأنه أصبح بمجرد ذلك جزءاً من المشكلة، تماماً كما أصبح مرسي جزءاً من المشكلة بعد ما جرى في الاتحادية وما تلاها. وعلى الرغم من أن جرائم مرسي لا يمكن لمنصف مقارنتها أبداً بجرائم السيسي، إلا أن ما لا يرغب كثيرون من أنصار مرسي والسيسي فهمه هو أن المسألة أصبحت تتجاوز شخصي الاثنين، إلى عقم فكرة الحكم العسكري، واستحالة فكرة حكم الشعارات الدينية، وهو ما يجعل مشكلات مصر المعقدة تحتاج إلى أفق مختلف وخيال جديد، لكن ذلك لن يتم إلا بعد محاسبة الذين تورطوا في سفك الدماء، والبدء في إنصاف المظلومين، وليس فقط إيقاف مظالمهم، فبذلك وحده يمكن أن تسير مصر في طريق العدالة والمصالحة، الذي لن يكون بدوره طريقاً سهلاً، لأنه يحتاج، أولاً، أن نقر بأهمية البحث عن الحقيقة، وهو أمر يصعب حدوثه، في ظل سيادة النسخة الإجرامية من حب الوطن التي لا ترضى من الأصوات إلا بصوت الهستيريا.
طيب، إلى أين يصل بنا حاصل ضرب توحش النظام بتوحش مؤيديه؟ لا أحد يعلم. لكن، ربما كان في وسع كل منا، أن ينأى بنفسه عن المشاركة في صنع مزيد من التوحش، وأن يتوقف عن تكرار أخطاء الماضي، ولو بحسن نية، وأن يبدأ الراغبون في تحقيق مطالب ثورة يناير، ببلورة مشروع سياسي ثوري يرفض ظلم أنصار "الإخوان" وقمعهم، لكنه يرفض مناصرة مشروعهم المغلق والمفلس ودعمه، ويرفض الحكم العسكري، لكنه يرفض أيضاً التورط في صراع أهوج مع الجيش، سيطيل أمد الحكم العسكري أكثر. وحين يأتي صناع التوحش وهواته، في كل الجبهات، بآخر ما عندهم، سينفتح مجال ما لصوت العقل، ربما يكون لهذا المشروع، على اختلاف تياراته ومكوناته الفكرية والسياسية، فرصة حقيقية لإنقاذ مصر، وتحويلها إلى وطن صالح للحياة الكريمة، يمكن أن يختلف فيه الناس بقوة. لكن، بعد أن يتفقوا على قيم مشتركة، أهمها ألا يشرعنوا قتل وقمع بعضهم البعض.
ولعله، على الرغم من كل شيء، لم يفت الأوان للاستعانة بدعاء الأجداد: يا خفيّ الألطاف.. نجّنا مما نخاف.