بقلم : أحمد بن راشد بن سعيّد
طائرات مصرية تقصف «أهدافاً» في مدينة درنة الليبية يتحصن فيها «إرهابيو» داعش. عنوان يتصدر صحيفة أو قناة إخبارية. قد تجد عنواناً مختلفاً للحدث نفسه: «طائرات السيسي تعتدي على مدينة درنة الليبية فتقتل عدداً من الأطفال». هذا هو ما يُعرف في التناول الإخباري بالتأطير (framing)، وهو عملية بلاغية يستطيع من خلالها المحرر أن يولّد روايات مختلفة عن حدث واحد، اعتماداً على «الرؤية الكونية» التي ينظر منها إلى الحدث. اللغة منظمة إرهابية كما يقول محررا كتاب «اللغة الرديف»، جون كولنز وروس غلوفر، والسياسة، في جوهرها، لعبة كلمات، والحملات العسكرية تبررها الدعاية قبل خوضها من خلال شيطنة العدو ونزع الأنسنة عنه، ثم تدافع عن «أخلاقيتها» و «نجاعتها» أثناء خوضها عبر مزاعم النيل من العدو وإضعاف قدراته، فضلاً عن مزاعم أخرى كتجنيب المدنيين آلة القتل أو «تخفيضها إلى أدنى حد ممكن»، وبعد أن تضع الحرب أوزارها تستمر الدعاية مرددة أن الحملة حققت أهدافها بأقل قدر من الخسائر.
الدعاية تجعل الأطفال الذين قتلتهم طائرات الجيش المصري في درنة مجرد «أهداف»، وهو التعبير الشائع الذي ساقته منظمات إخبارية كبيرة كوكالة الأنباء الفرنسية والأسيوشيتد برس ورويترز. مصطلح»أهداف» (targets)، وشريكه «مواقع» (positions) ينزع الإنسانية عن الضحية، ويحولها إلى حجر شطرنج بعيداً عن مشاهد الدم والأشلاء. إنه بديل سهل ومريح ينأى به القادة العسكريون عن العنف المحض، أو يحاولون من خلاله صرف الأبصار عنه. هؤلاء القادة يشاهدون ساحة المعركة عن بعد، ويحلو لهم أن يسمّوها: «مسرح عمليات»، ولذا ليس بمستغرب أن يجنحوا إلى التجريد (abstraction) في خطاب الحرب لاسيما إذا كان القصف الجوي هو وسيلة الهجوم. مصطلح «الأهداف» يساعد كلاً من المتحدث والجمهور على رؤية الحرب بصورة تجريدية تختزل الإنسان في مواقع جغرافية أو مجرد أرقام.
تخفي كلمة «أهداف» وراءها تفاصيل مروّعة لا يُراد لها أن تظهر. ويجري عادة التفريق بين «الأهداف» العسكرية و «الأهداف» المدنية، ما يوفر الغطاء لجرائم واسعة النطاق ضد عسكريين وكأن دماءهم حلال، وكأنهم ليسوا بشراً. ثم إن القول بأن تدمير «الأهداف» العسكرية لا يؤذي المدنيين ليس سوى أسطورة، إذ يلقى، في كثير من الأحيان، غير مقاتلين حتفهم في حالات قصف مقاتلين. وحتى «الأهداف» المدنية قد تصبح بفعل الدعاية «عسكرية» ومن ثم «أهدافاً مشروعة» (legitimate targets). في الحروب الأميركية والصهيونية، تصبح المستشفيات والمدارس والمساجد ومحطات التلفزيون والماء والكهرباء، كلها أو بعضها، «أهدافاً»، والحجج مألوفة: استخدام العدو لها، أو التترس فيها، أو الاستعانة بها، أو إطلاق النار منها، ولا يعدم المعتدي ذريعة لضرب تلك «الأهداف» لاسيما أن سياق ما يُسمى»العمليات» العسكرية يستهجن الاستقصاء، ويخوّن المساءلة، ويضغط بقوة في اتجاه الصمت بحجة «الأمن القومي»، و «دعم أولادنا في الجبهة»، وبهذا، تتوارى كل الشكوك والاعتراضات حتى تضع الحرب أوزارها؛ حينئذ فقط يمكن فتح «تحقيق» أو «مجلس استماع» قد يلقي اللوم على مسؤول هنا أو هناك، الأمر الذي يوحي بديموقراطية المحارب، ويساعد على «لملمة» أخطائه-وهو أسلوب دعائي يُعرف بـ «السيطرة على الضرر» (damage control).
يشير فيلِب نيسر، أحد المشاركين في كتاب «اللغة الرديف» (Collateral Language) إلى أن « الأهداف» العسكرية في الحروب قد تكون جسوراً، أو خطوط غاز، أو محطات معالجة ماء، وغيرها مما يعتمد عليه المدنيون في ضروراتهم الحياتية، مضيفاً أن الولايات المتحدة دمّرت في حرب الخليج عام 1990 الكثير من البنية التحتية العراقية «بطرائق أسهمت في الدفع بآلاف المدنيين إلى الفقر واليأس والمرض والموت». ويلفت نيسر الانتباه إلى أن قتل المدنيين «يصبح أكثر يسراً من خلال التحدث عن الحاجة إلى تفادي قتلهم»، إذ يؤكد القاصفون مراراً حرصهم على أرواح المدنيين، ما يجعل استمرار المعركة أكثر قبولاً، وإذا قاموا بقتل مدنيين، سارعوا إلى وصف ذلك بأنه «خطأ» واضعين القتل في خانة «الاستثناء»، وهو ما يوحي للرأي العام أنهم لا يتعمدون قصف المدنيين فحسب، بل إنهم أيضاً «متفوقون أخلاقياً» على العدو.
تعمل التجريدات على إخفاء الحقائق وتهميش قضايا «الحياة» و «الموت». بعد عدوان طائرات مصرية على ليبيا، لم تكتف بعض الوسائط السائدة بالتبرير، بل رقصت ابتهاجاً. جريدة «الشرق الأوسط» اختارت كعادتها تأطيراً منبتّ الصلة بالمهنية: «مصر توجه ضربة القصاص، وتبدأ حرباً مفتوحة على الإرهاب خارج حدودها. سلاح الجو ينفذ عمليات مركزة ضد معاقل داعش في ليبيا». عنوان مفخخ لو اقتربت منه لتطايرت الشظايا: ضربة، قصاص، حرب على الإرهاب، عمليات، داعش، معاقل (قريبة من «أهداف» و «مواقع»). موقع العربية نت نشر ما يلي: «الجيش المصري يقصف مواقع داعش في ليبيا. 8 غارات استهدفت مراكز تدريب ومخازن أسلحة وذخائر تابعة للتنظيم الإرهابي». طبعاً، لا مجال هنا للحديث عن قيم الأخبار كالتوازن والصدقية والدقة والنأي عن «التلوين». موقع الجزيرة نت اختار تأطيراً مختلفاً: «عشرات القتلى والجرحى بغارات مصرية على درنة الليبية»؛ مصحوباً بصورة أطفال لقوا حتفهم بسبب العدوان، وهو ما تجاهلته وسائط سائدة ومعلّقون ومغردون، بل وياللهول، أنكروا حدوثه متهمين قناة الجزيرة وناشطين ليبيين بتلفيقه.
التناول الإخباري لقصف ليبيا يتجاهل السياق الذي حدث فيه القصف وكان من أبرز دوافعه، وهو سلسلة التسريبات الفضائحية التي كشفت جشع الطغمة العسكرية في مصر، واحتقارها دول الخليج وشعوبه. التناول أيضاً يشير إلى تبسيط أسطوري فج: ثنائية الخير والشر. السيسي بطل في حرب مقدسة، وداعش المتوحش الذي يجز رقاب المسيحيين يمثّل معسكر الشر. لا مفر إذن من الحرب؛ لا مفر من الدم، لا حل سوى القتل، والمزيد من القتل. لا حديث عن أفق سياسي، ولا عن مطالبة بتسليم الجناة، ولا ضغوط دبلوماسية، ولا لجوء إلى تحكيم عربي. أعلن الحرب أيها البطل، أعلن الحرب على..........املأ الفراغ بما تشاء، فلن نسألك على ما قلت برهانا، كلما قتلت أكثر، ارتفع رصيدك أكثر، يا رسول العناية الإلهية، قاتل من أجل سلام العرب والعالم، «أعد بناء الدولة الليبية»، كما زعق عبد الحليم قنديل في قناة سكاي نيوز عربية. في غضون ذلك، تهيج الورقيات والفضائيات المهيمنة، وتجلجل أبواق «البطل»: اضرب، اضرب، وتصبح الدعوات إلى «عقلنة» الخطابات والاستجابات ضرباً من «الإرهاب» نفسه.
*العرب القطرية