فى عام 2011، لم يكن أحدا يتخيل، ان عمر الربيع العربى سيكون بالغ القصر هكذا، وانه سينتهى بعد اقل من 4 سنوات. رغم انه قام فى مواجهة أوضاع بائسة وعميقة وقديمة ومزمنة من الاستبداد والاستعباد دامت لعشرات السنين .
ولم يتوقع احد ان الحشد والتعبئة الأمريكية الغربية لمكافحة ما يسمى بالإرهاب العربى والاسلامى، ستنجح فى أن تتصدر المشهد، طاردة لبرامج ومشاريع وأحلام وغايات واهتمامات وأضواء ومعارك الربيع العربى الى ذيل الأجندات العربية والإقليمية.
وكأن الأمريكان وحلفائهم من الأنظمة العربية، قد قرروا وأعلنوا أن الربيع العربى قد انتهى، وأنه لم يكن سوى إرهابا يهدد إمبراطوريتهم ومصالحهم وتحالفاتهم وكراسيهم.
لقد ادعوا جميعا فى البداية، ولا يزالوا، انهم يباركون الربيع العربى، ولكنهم لم يكفوا لحظة واحدة عن العمل على وأد الثورات العربية أو احتوائها أو إفسادها.
صحيح ان روح الثورة العربية لا تزال حية. ولا يزال الثوار صامدون لم يستسلموا، ولا يزالوا يقاومون عودة الأنظمة القديمة وانقضاض الثورات المضادة، ويحاولون الدفاع عما تبقى من مكتسبات الثورة وعن أهدافها وشعاراتها وقواها وشبابها وأرواح شهدائها وضحاياها من المعتقلين. ولكن لا يمكن إنكار ان الشعار الاستراتيجى الرسمى الذى يتصدر المشهد الحالى فى المنطقة العربية، تحول 180 درجة ليصبح "مكافحة الارهاب."
لقد تراجعت شعارات وأهداف العيش والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، لصالح أهداف ومهمات ما يسمى بمواجهة الفوضى والتطرف والإرهاب وإعادة هيبة الدولة .
مع التلميح او التصريح ان الثورات والحريات كانت كارثة كبرى، نشرت الفوضى وعصفت بعديد من الدول العربية وكادت ان تعصف بدول اخرى، وانها كانت البوابة التى تسرب منها العصابات الاجرامية الارهابية، كما يدعون.
ولكن الملمح الأهم والأخطر هو ان كل هذا التغير الدراماتيكي تم بمبادرة ورعاية وإدارة أمريكية أوروبية اسرائيلية، على عكس ما تدعى بياناتهم وتصريحاتهم الرسمية.
لقد تصور كثيرون ان العالم العربى قد تغير تغيرا جذريا والى الأبد، وانه يستحيل ان يعود مرة أخرى الى الوراء. ويستحيل بعد كل هذه الحريات التى انتزعتها الشعوب بدمائها وذاقت حلاوتها، ان تسمح بالعودة الى عصور الخوف والحكم بالحديد والنار مرة اخرى.
والذى كان يشارك او كان يشاهد الجماهير العربية بكل أجيالها وتنوعاتها وتياراتها تحتشد فى تجمعات مليونية فى الميادين لتسقط رؤساء الدول، وتعين الوزارات والوزراء وتبارك او تلعن قوى وأحزاب وشخصيات وأفكار وبرامج وقوانين وقرارات، لم يخطر له ببال ان كل هذا كان مؤقتا وانه سيسرق وينتزع منها انتزاعا بعد شهور او سنوات قليلة.
وان تتحول البوصلة والغايات والأهداف من مواجهة الاستبداد والمستبدين، والتبعية والتابعين، والاستغلال والمستغلين، الى مواجهة الارهاب والإرهابيين وثيقى الصلة بكل الدول الاستعمارية وكل الانظمة العربية الاستبدادية وأجهزتها العميقة.
***
· فى أجواء الربيع العربى كان الهدف هو تحقيق الاستقلال الوطنى، وتصحيح موازين القوى الاقليمية، وقلب الخرائط الطبقية والسياسية؛ خرائط توزيع الثروة والسلطة. وفرض العدالة القانونية والاجتماعية والسياسية.
· أما فى ظل مكافحة الإرهاب، فان الهدف هو تعديل خرائط المنطقة وفقا للمصالح الأمريكية الاسرائيلية الاوروبية، مع الدعم والحفاظ على استقرار وهيبة الأنظمة والطبقات التابعة الحليفة المستبدة.
· لقد أرعب الربيع العربى، اسرائيل التى أعلنت اكثر من مرة انها اعتادت التعامل مع القصور العربية، وليس مع الشعوب العربية التى تكرهها وتعاديها، والتى تحولت الى رقم صعب فى صنع القرار العربى.
· ولكن فى ظل مكافحة الإرهاب أصبح السلام مع إسرائيل فى وجدان المصريين ـ على حد قول السيسى ـ وتنامى التنسيق الامنى المصرى الاسرائيلى دفاعا عن أمنهما ومصالحهما المشتركة.
· فى ذروة الربيع العربى وشهوره الاولى حاصر الشباب الثائر سفارة اسرائيل وأغلقوا مقرها لأول مرة منذ 30 عاما، اعتراضا على قتلها للجنود المصريين فى سيناء. ونجحوا فى إرغام إسرائيل على تقليص وتقييد اعتداءاتها على غزة التى توقفت بعد أيام قليلة تحت ضغط الغضب الشعبى، سواء فى ابريل 2011 ، أو فى نوفمبر 2012،.
· اما فى عصر مكافحة الإرهاب فقامت إسرائيل بأكبر عدوان لها على الفلسطينيين استمر 51 يوما، وأوقعت اكبر عدد من الشهداء؛ ما يزيد عن 2000 شهيدا فى ثانى اكبر عدد من الضحايا بعد مذبحة صابرا وشاتيلا، واكبر حتى من عدوان الرصاص المصبوب 2008 أيام مبارك الذى سقط فيه 1500 شهيد، ولم يستمر سوى 22 يوما.
· فى ظل الربيع العربى فتحت المعابر بيننا وبين فلسطين وتبادلنا الوفود والزيارات، ونجح الآلاف من الشباب المصرى فى زيارة فلسطين لاول مرة فى حياته، التى لم يكن يراها الا فى الخرائط والشاشات.
· اما فى عصر مكافحة الإرهاب فدمرت الأنفاق التى لم يهدمها مبارك! مع إغلاق المعبر، وأزيلت مدينة رفح المصرية من الوجود، لإنشاء المنطقة العازلة بين مصر وفلسطين التى طالما طلبتها اسرائيل ورفضتها مصر حتى فى عصر مبارك.
· فى أيام الربيع العربى، أرغمت الجماهير الثائرة، الدولة على تقديم مبارك ورجاله الى المحاكمة. أما فى عصر مكافحة الإرهاب، فتم تبرئة مبارك ورجاله، وتم تجريم شباب الثورة ورجالها من كافة التيارات.
· فى ذروة الربيع العربى، فى أيامه الاولى وقبل أن نستدرج الى كمين الانقسام، كنا جميعا جبهة واحدة متماسكة لا فرق بين مسلم ومسيحى او بين قومى واسلامى واشتراكى وليبرالى الا بالثورة.
· وفى عهد مكافحة الإرهاب، وفى مراحله التحضيرية، ضرب الاستقطاب والانقسام والاجتثاث والتخوين والتكفير والتفويض بالقتل صفوفنا، تحت إدارة ورعاية أجهزة الدولة العميقة، فى توظيف خبيث لأخطائنا وخطايانا.
· فى عصر الربيع العربى أُفرغت السجون والمعتقلات، وكانت الدنيا تنقلب على السلطات لو تم اعتقال شخصا واحدا. أما فى عصر مكافحة الإرهاب فتم الزج بالآلاف من السياسيين فى السجون بذرائع الارهاب والتظاهر.
· فى عصر الربيع العربى كان قتل او قنص او تعذيب اى مواطن يكفى لكى تقوم الدنيا ولا تقعد. أما فى عصر مكافحة الارهاب، فقتل المئات والآلاف بدم بارد، بلا اى تعقيب او تعليق، بل بالمباركة والتفويض.
· فى أيام الربيع فتح الإعلام منابره للجميع، من كافة التيارات والاتجاهات ومناقشة كل القضايا، بدون خطوط حمراء. اما فى عصر المكافحة فأغُلق الإعلام على الجميع الا رجال الدولة ونخبتها وانتهازييها.
· فى عصر الربيع العربى، ثار الناس ضد اقتصاد مبارك وصندوق النقد الدولى والخصخصة، وطالبوا بالعدالة الاجتماعية والانحياز الى الفقراء وزيادة الدعم. أما فى عصر مكافحة الارهاب فتم إلغاء الدعم على الوقود والطاقة لأول مرة، وهوجمت المطالب الاجتماعية للفقراء، وحصنت الدولة صفقاتها وعادت الخصخصة، وعاد رجال أعمال مبارك.
· فى عصر الربيع العربى ثار الناس حين هددت أمريكا بقطع المعونة الامريكية بعد حادث المعهد الجمهورى عام 2011. ولكن فى عصر مكافحة الإرهاب عدنا نستجدى الأمريكان فى المعونة والاباتشى ونقدم لها التسهيلات والتشهيلات فى قناة السويس، والتحقنا بحملتها الاستعمارية الثالثة ضد العراق وسوريا.
· فى عصر الربيع تصدر الشباب والثوار، المشهد السياسى والاعلامى، ولكن فى عصر الإرهاب عادت الوجوه القديمة والكريهة الى الصورة واختفى الثوار تماما.
· فى أيام الربيع كنا نختلف ونتصارع بحدة، ولكننا نعود بعدها الى بيوتنا سالمين. اما اليوم فالاختلاف ممنوع والمختلفون إرهابيون وخونة ومطاردون ومعزولون.
· فى الربيع أطلق حق تأسيس الأحزاب وإصدار الصحف وتأسيس الفضائيات، أما اليوم ففرض الحظر على الجميع.
· فى عصر الربيع ساد الأمل والتفاؤل وزاد الوعى السياسى والمشاركة الشعبية، أما فى عصر المكافحة فضرب الخوف والإحباط و اليأس غالبية المصريين.
· فى الربيع كنا نجتمع ونتواصل ونتظاهر ونتحاور ونصيب ونخطئ ونتعلم ونصحح ونصول ونجول فى حرية تامة. ولكن فى شتاء الإرهاب تم فرض حظر تجول دائم على المعارضين، ومنعوا التواصل والاجتماع والتظاهر وجرموه وحبسوا المتظاهرين.
· فى الربيع كان الدنيا تموج بالحوارات والمبادرات والمناقشات واللجان والاجتماعات والمؤتمرات والأحزاب والائتلافات وبالبرامج والاجتهادات والاتفاقات والاختلافات وتعدد الرؤى والآراء أما فى ظل المكافحة فلم يعد هناك سوى رأى واحد فقط، وبالأمر.
· فى الربيع العربى ارتكبنا أخطاء وخطايا كثيرة، ولكننا كنا قادرين على تصحيحها وتجاوزها. اما فى زمن المكافحة، فليس مسموحا لنا بالخطأ، لأنه ليس مسموحا لنا أصلا بالمشاركة.
· فى زمن الربيع، قمنا بإحياء الذكرى الاولى والثانية للثورة فى احتفالات مليونية مهيبة. أما فى عصر مكافحة الإرهاب، فحظروا الاحتفال وقتلوا أو اعتقلوا المحتفلين.
· فى الربيع لم يكن لنا كبير سوى الحلم والمشروع، كنا جميعا سواسية. أما اليوم فعاد شيخ القبيلة الزعيم الأوحد الملهم.
· فى زمن الربيع كانت الصدارة للكلمة والفكرة والرؤية والبرنامج والمشروع والشعار والراية والمطلب. أما الآن فلقد تصدرت لغة الرصاص والدبابات والجيوش والبوارج والاباتشى والطائرات بدون طيار.
· فى الربيع لم يكن هناك إرهاب سوى فى سيناء بسبب تجريدها من السلاح بأوامر اسرائيل وكامب ديفيد. أما اليوم فالإرهاب فى كل مكان، وكأنه من صناعة وإنتاج زمن مكافحة الارهاب.
· كان ربيعنا صعبا ومتعثرا ولكنه كان واعدا ومبشرا لو أتيحت له الفرصة، بينما يحاولون اليوم أن يعيدونا مرة أخرى الى زمن مبارك مع تعديل طفيف فى بعض الرتوش .
***
ولذلك ولكل ما سبق، ورغم هذه الصورة المظلمة، فإننا على يقين ان الثورة لم تمت ولا يمكن أن تموت، وان الذين شاركوا فى صناعة الربيع أو عاشوا أيامه ومعاركه وانتصاراته، وذاقوا مكتسباته وحرياته، يستحيل ان يتخلوا عن حلمهم ومشروعهم الثورى.
*****