«إبعد عن الشر وغني له».. كان هذا هو شعار فضائية «فرانس 24» في ليلة الدعوة إلى مظاهرات «الشباب المسلم»، التي دعت إليها «الجبهة السلفية»، واستدعت الدعوة النفير العام لسلطة الانقلاب، وجاءت صور الجنود ومركبات الجيش وهي في حالة استعداد، توحي بأن
مصرعلى أعتاب معركة حربية فاصلة في تاريخ المنطقة!
الإنقلابيون بدوا في حالة فزع، فقد خبروا الإخوان، أصحاب شعار: «سلميتنا أقوى من الرصاص» وسبروا أغوارهم، لكن بدت الدعوة لمظاهرات 28 نوفمبر/تشرين الثاني، من فصيل آخر، وإن تمسك بالسلمية، إلا أنه ليس له حق السمع والطاعة على كل من يخرجون تلبية لندائه، والذين لن يشغلهم كثيراً ما يشغل الإخوان، من صورة يريدون لها أن تظل ماثلة في وجدان الفرنجة وهي صورة المسلم المسالم والمعتدل، ومع ذلك فقد دفعوا فاتورة العنف دون أن يمارسوه وتقرير لجنة «تحري الأكاذيب»، التي شكلتها سلطة الانقلاب، وتلته قبل ثلاثة أيام أكد أن مظاهرات «رابعة» كانت مسلحة، وأن الشرطة الوديعة لم تستخدم العنف إلا كرد فعل، بعد أن وقع أول قتيل في صفوفها. ولا نعرف كيف استطاعت اللجنة الموقرة أن تحدد أن أول قتيل كان في صفوف الشرطة؟!
«فرانس 24» تقدم برنامجاً من استوديوهاتها في
القاهرةاسمه «هوا مصر»، ولا نعرف ما إذا كان «هوا مصر» من «هواء» نسبة للمناخ، أم من «الهوى هاويا» للعندليب عبد الحليم حافظ؟!
لكن بينما نشرات الأخبار تشير إلى حالة التأهب لقوات الانقلاب لملاقاة العدو المتظاهر، كان «هوا مصر» يناقش موضوعاً أخراً، على نحو ذكرني بحالة الكاتب (الراحل) أحمد بهاء الدين، الذي كان رغم قيمته ليس من طباعه الصدام مع السلطة، وعندما تتخذ قراراً يؤلب عليها المعارضة كان العمود اليومي لبهاء الدين في «الأهرام» عن قضايا هامشية، مثل النظافة في شوارع القاهرة!
أما أنيس منصور، فقد كان عموده في «الأهرام» محلقاً فوق السحاب، فلم ينزل للأرض لينشغل بما يشغل سكان الكرة الأرضية، مما يشير إلى تعاليه باعتباره فيلسوف عصره وزمانه، عما يحدث على الكوكب الذي يعيش عليه البشر!
نقل لي الكاتب الراحل «محمد إسماعيل علي» أنه سأل مدير مكتب أنيس منصور عن السر وراء ذلك؟ فقال له لأن «الأستاذ» يكتب زاويته لشهر كامل في يوم واحد ويسلمها للمسؤول عن النشر، وعندما يأتي للكتابة عن الأحداث، تكون قد صارت «خبراً بايتاً».
هذا يوم الموتى؛ (الراحل) أحمد بهاء الدين، و(الراحل) محمد إسماعيل علي، و(الراحل) أنيس منصور، و(الراحل) عبد الفتاح السيسي، و(الراحلة) «فرانس 24».
بلد الجن والملائكة
■ لقد كان برنامج «هوا مصر» في ليلة احتشد فيه الانقلاب وإعلامه ودعا للنفير العام؛ فهي الحرب إذن، يناقش مشروع قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين. ومصر ليست خبراً مهماً على الفضائية المذكورة، التي يبدو أنها خرجت بالعربية، لهتم بالمستعمرات القديمة لبلد الجن والملائكة، في
المغرب العربي.
هذا الوصف لباريس «بلد الجن والملائكة»، أطلقه عميد الأدب العربي (الراحل أيضاً) طه حسين، والذي جاء في سياق مصر المتصالحة مع المحتل القديم، وباعتبار أنه لن يعرف قيمة
فرنسا إلا من وقع في قبضة المحتل الانكليزي.
وهناك عبارة تطلق في هذا السياق لا أعرف من أنتجها، نصها أن نابليون جاء بالمدفع والمطبعة، فخرج المدفع وبقيت المطبعة. وهي مثلها مثل العبارة التي اشتهر بها (الراحل) البابا شنودة «إن مصر ليست وطناً نعيش فيه، ولكنها وطناً يعيش فينا»، ومؤخراً أضحكنا (الراحل) إبراهيم محلب رئيس حكومة الانقلاب الذي يعطيني أحساسا أن علاقته بالقراءة والكتابة انقطعت منذ قراءته لقصة «عقلة الإصبع» في المرحلة الابتدائية. (الراحل) محلب أرجع العبارة للبابا شنودة في معرض تقربه لأتباعه وتلاها بشكل خاطئ بالقول: «وكما قال البابا شنودة إن مصر ليست وطناً نعيش فيه.. ولكنها وطناً نعيش فيه».. مع أن صاحب العبارة هو الزعيم القبطي (الراحل) مكرم عبيد، والذي اشتهر بخطابه البليغ والرنان، وكان وهو المسيحي يحفظ القرآن الكريم. ولو عاش عبيد حتى يستمع لركاكة خطاب السيسي، لانتحر، وصار في عداد الراحلين أيضاً. الوجدان الشعبي في مصر، لا يحفظ للاحتلال الفرنسي سوى أنه دخل بخيله الجامع الأزهر، وباعتبار أن هذا يمثل كبيرة لا تغتفر، ولم نكن نظن أنه ستتم استباحة المساجد في عهدي مبارك والسيسي، على النحو الذي تفوقا فيه على قوات (الراحل) نابليون بونابرت!
قبل أيام وفي ظل الاحتشاد الإعلامي ضد دعوة «الشباب المسلم» للتظاهر، ظهر إمام مسجد وقد حولته الثورة، إلى مذيع، وهو يطلب من الأزهر، في برنامجه التلفزيوني، فتوى بإباحة دهس قوات الجيش والشرطة للمصحف الشريف، بعد أن أعلن أصحاب الدعوة أنهم يحملون المصاحف تعبيرا عن هوية مصر في هذه المظاهرات!
على «الجزيرة» استمعت لأحد الأشخاص ممن ينتمون للجهة الداعية لهذه المظاهرات، وهو يبرر لرفع المصاحف، بأنه «جاء رداً على من يقولون عنا أننا سنحمل السلاح»!. لكن إعلام الثورة المضادة استغل الأمر في وصف من دعوا لرفع المصاحف بأنهم الخوارج، كما لو كان السيسي والذين معه هم «علي وصحبه»!.
خطيب الثورة
■ منهم لله الإخوان، ومنه لله الشيخ صفوت حجازي، فهم وهو من دفعوا هذا الإمام لأن يتخطى رقاب الثوار في «ثورة يناير»، وقد قدموه لمن لا يعرفونه بأنه خطيب الثورة، والفتى لا ينفي علاقاته الأمنية، ومن المعروف أن جهاز أمن الدولة هو من كان صاحب الأمر والنهي في وزارة الأوقاف في عهد مبارك. والمسجد الذي عين عليه صاحبنا وهو «عمر مكرم» هو المسجد الرسمي للسلطة!
أخطاء الإخوان في هذه الجانب كثيرة، فقد تعاملوا مع جابر نصار، رئيس جامعة القاهرة حالياً على أنه أحد الثوار، وهو من كان عضواً في لجنة السياسات لصاحبها جمال مبارك، وتم اختياره عضواً في الجمعية التأسيسية لإعداد الدستور في عهد الحكم الإخواني، وحرم من عضويتها الفقيه الدستوري
إبراهيم درويش وهو من جهر بمعارضته لنظام مبارك في عهده، ولأن الرجل يحب الفخر فقد كان إبعاده سبباً في أن ينتقد الدستور، بالحق وبالباطل، انتقاماً لنفسه، وقد استغله إعلام الثورة المضادة في القدح في الدستور وفي الحكم المنتخب والتحريض عليه!
بعد أن كان اختيار جابر نصار بمثابة غسيل لسمعته السياسية، استقال من الجمعية التأسيسية والتحق بجبهة الإنقاذ، ليعلن الحرب على الحكم المنتخب!
وفي واقعة لا أتذكر تفاصيلها وصف الرئيس محمد مرسي من يناصب حكمه العداء بأنهم من الفلول، فكتبت مقالاً حمل عنوان: «الفلول في بيتك يا سيادة الرئيس»، وكان قد جامل الكنيسة بتعيين مني مكرم عبيد في مجلس الشورى، حتى تصل رسالة للبابا أنه لا شيء تغير، لا سيما وأنه وكنيسته كانوا جزءاً من حسابات الثورة المضادة في أيام «ثورة يناير». فات مرسي أن المخلوع كان يجامل البطريرك بمقابل، في حين أن مرسي جامله مجاناً، بل و»حاسب على المشاريب» من خلال نقد معارض له مثلي لهذه الاختيارات!
الأحوال الشخصية الموحد
■ بمناسبة هذه الاختيارات، فقد كان اثنان من اختيار الدكتور محمد مرسي في برنامج «هوا مصر»، في ليلة الهروب الكبير لـ «فرانس 24»، وهما ممدوح رمزي، المحامي، والذي تم تعيينه في مجلس الشورى، وزميلنا الصحافي سامح محروس، وهو ثاني اثنين من المسيحيين تم تعيينهما في المجلس الأعلى للصحافة!
كانت هذه المرة الأولى التي أشاهد فيها الزميل «محروس»، وأذكر أن اختياره وزميله في الأعلى للصحافة أثار في حينه دهشة زملاء، لا سيما وأن هناك صحافيين من المسيحيين لهم حضور في المشهد النقابي والعام وفي الثورة، وكانوا الأولى بالتعيين والمجاملة ما دام الحكم الجديد يعتمد نظام المحاصصة الطائفية. فقيل حسماً للجدل أن الكنيسة هي صاحبة قرار الاختيار. بعد ذلك احتشدت الكنيسة ضد حكم محمد مرسي، ودفعت رجالها للاحتشاد في حصار الاتحادية الأول وحرضت أتباعها على النزول ضده في 30 يونيو/حزيران.. «أحسن»!.
«فرانس 24» في ليلة هروبها، وهي تناقش مشروع قانون الأحوال الشخصية الموحد للمسيحيين، كان ضيفها الثالث هو الكاتب كمال زاخر، الذي قدمته بممثل التيار العلماني القبطي. والثلاثة ينتمون لكنيسة واحدة، وخلاف الكنائس الثلاث على موجبات الطلاق، هو السبب في عدم صدور القانون إلى الآن، وحضور الكنيستين الكاثوليكية والإنجيلية، بالتالي واجب عند المناقشة.
المشاركون في برنامج «فرانس 24» أكدوا بأن السياسة كانت وراء تأجيل صدور القانون منذ عهد السادات، في إشارة إلى الانفراجة السياسية الآن، وهذا غير صحيح. وقد لخص لي البابا شنودة وأنا أحاوره الأزمة في أن الكنيسة الإنجيلية ترى أن هناك ست أو ثمانية أسباب موجبات للطلاق، في حين أن الأرثوذكسية ترى أن الطلاق لعلة واحدة وهي الزنا، في حين أن الكنيسة الكاثوليكية لا ترى الطلاق ولا لعلة الزنا!
لا اقلل من قيمة هذه القضية، التي تشغل بال الآلاف ممن طلقوا بأحكام قضائية ورفضت الكنيسة السماح لهم بالزواج، لكن هذه ليلة الحشود.
من قبل سألت زائراً لباريس عن الجن والملائكة فقال غادرت الملائكة وبقي الجن. والآن بدا لي أن الجن والملائكة غادرا بعد أن حلت محلهما «فرانس 24»، التي تمارس الحياد السلبي في الشأن المصري!
صحافي من مصر