ابتداء من الساعة الرابعة من مساء الأربعاء 14/8 ولمدة شهر كامل لرئيس الجمهورية أن يكلف أيّ شخص في بر مصر بتأدية أيّ عمل يخطر على باله، من عجين الفلاحة وحتى إلقاء نفسه في النيل، مرورا بتطليق زوجته والمشي على يديه في الشارع،
وهذا كلام لا هزل فيه، ولكنه نص قانون الطوارئ الذي لم أضف إليه حرفا، وكل ما فعلته أنّني قمت بتنزيل النص على الواقع،
(لعلم الأجيال التي لا تعرف عجين الفلاحة أذكر بأنّه أحد التمارين الشهيرة التي تتدرب عليها القرود لتسلية المشاهدين)،وإذا لم تصدّق ما قلت فإليك نص المادة الثالثة من قانون الطوارئ الذي سيحكمنا طوال الشهر المقبل:لرئيس الجمهورية متى أعلنت الطوارئ أن يتخذ بأمر كتابي أو شفوي (تصوَّر!) التدابير الآتية:أولا: وضع قيود على حرية الأشخاص في الاجتماع والانتقال والإقامة والمرور في أماكن أو أوقات معينة،والقبض على المشتبه بهم أو الخطرين على الأمن والنظام العام واعتقالهم،والترخيص في تفتيش الأشخاص والأماكن دون التقيد بأحكام قانون الإجراءات الجنائية.
وكذلك، خذ بالك، تكليف أيّ شخص بتأدية أيّ عمل من الأعمال!
وهذا النص العجيب الذي يعطي رئيس الجمهورية الحق في أن يأمر، ليس فقط كتابة وإنّما أيضا شفاهة، أيّ شخص من التسعين مليون مصري بأن يؤدي أيّ عمل يخطر له على بال.
وفي هذه الحالة فإنّ «عجين الفلاحة» يعدّ أمرا واردا، بل وهيّنا للغاية.
ولعلم جنابك أيضا فإنّ المادة الثالثة من القانون سيئ الذكر يعطي الرئيس الحق أيضا في أن يأمر كتابة أو شفاهة بمراقبة الرسائل أيّاً كان نوعها،ومراقبة الصحف النشرات والمطبوعات والمحررات والرسوم!
وجميع وسائل التعبير والدعاية والإعلان قبل نشرها، وضبطها ومصادرتها وإغلاق أماكن طباعتها،
كما أنّ له الحق في الاستيلاء على أيّ منقول أو عقار والأمر بفرض الحراسة على الشركات والمؤسسات،وله أيضا أن يأمر بإخلاء بعض المناطق أو عزلها وتنظيم وسائل النقل وحصر المواصلات وتحديدها بين المناطق المختلفة.
من ناحية أخرى تقضي المادة الرابعة من القانون بتولّي قوات الأمن أو القوات المسلحة تنفيذ الأوامر الصادرة من رئيس الجمهورية أو من يقوم مقامه،وإذا تولّت القوات المسلحة هذا التنفيذ يكون لضباطها ولضباط الصف ابتداء من الرتبة التي يعيّنها وزير الحربية سلفه تنظيم المحاضر للمخالفات التي تقع لتلك الأوامر.
بقية مواد القانون (عددها الإجمالي 20 مادة) تتحدث عن محاكم أمن الدولة الاستثنائية التي سيحال إليها المخالفون لأوامر رئيس الجمهورية وحقّه في وقف المحاكمات أو إلغاء الأحكام أو التصديق عليها،إذ طالما أنّ له الحق في أن يطلب من أيّ مواطن أن يقوم بأيّ عمل يخطر له على باله، فله الحق أيضا في أن يتصرّف في مصير المواطن بالصورة التي تعن له، فيحبسه أو يطلقه أو يضعه تحت المراقبة أو يقرر نفيه أو إعدامه!
المهتمون بالأمر يعرفون أنّ قانون الطوارئ صدر بعد الحرب العالمية الأولى باسم قانون الأحكام العرفية،وأنّ سلطة الاحتلال البريطاني حرصت على إصداره قبل إقرار دستور 1923،وكان المراد منه تقنين إمكانية تكبيل المجتمع وإطلاق يد السلطة والأمن في مقدراته في المواقف التي تخشى السلطة من تداعياتها، بما يهدد نفوذها.
وقد تم تعديل القانون في عام 1958 أثناء المرحلة الناصرية وأصبح يحمل اسم قانون الطوارئ الذي سبقت الإشارة إلى مضمونه.
ومنذ ذلك الحين تخضع مصر لحالة الطوارئ، باستثناء فترات معدودة، الأمر الذي يعني أنّها تعيش في ظل الطوارئ منذ ربع قرن تقريبا.
يهدئ البعض المخاوف من تطبيق الطوارئ بدعوى أنّ أغلب بلاد الدنيا لديها قوانين من ذلك القبيل، وهذا صحيح لكنه حق أريد به باطل،بمعنى أنّ الأمر يختلف من بلد إلى آخر، من حيث جديّة الظروف التي تستدعي إعلان الطوارئ،لأن بعض الدول تفتعل الأزمات أو تخوف منها لتطبيقها،كما أنّ هناك اختلافا أيضا حول قوة مؤسسات المجتمع من عدمها،لأن وجود المؤسسات القوية كفيل بالحيلولة دون تغوُّل السلطات وطغيانها تذرعا بالطوارئ.
ثم إنّ مضمون القانون يختلف من بلد إلى آخر، حيث لا أعرف مثلا أنّ بلدا محترما سمح فيه قانون الطوارئ لرئيس الدولة أن يأمر شفاهة أيّ شخص بأن يقوم بأيّ عمل وإلاّ تعرَّض لعقوبة السجن.
إنّ قضية الحريات العامة تظلّ الضحية الأولى لتطبيق الطوارئ، وهو ما نلمسه في مصر منذ وقع انقلاب الثالث من يوليو.
وإذا كانت أصداء الخوف ومقدمات مصادرة الرأي الآخر قد حدثت منذ وقعت الواقعة، فلم يكن مستغربا أن يتضاعف ذلك الخوف بعد الإعلان الرسمي عن تطبيق قانون الطوارئ، حيث صار الشعار المرفوع ضمنا هو من اعترض صودر وانطرد.
وهو ما لم يخطر على بال الذين قاموا بثورة 25 يناير، التي يطاح بأهدافها الآن تحت أعيننا،
ادعوا لنا