من يتابع أداء التليفزيون المصري الحكومي، خاصة منذ 30 يونيو وحتى اللحظة، يدرك لماذا الإصرار على بقاء وزارة الإعلام في الحكومات المتتابعة، ولماذا المحافظة على هذه الترسانة الإعلامية الضخمة التي تضم عشرات القنوات والإذاعات والصحف، فضلا عن الصلة الوثيقة مع ملاك الصحف والقنوات الخاصة، بحكم تزواج رأس المال والسلطة منذ وقت بعيد.
فهي، بلا شك، ‘كنز استراتيجي’ لأية سلطة تنحو نحو الديكتاتورية، والجميع، الحكومي والخاص، يقع تحت نطاق السيطرة، وينطق بلسان السلطة الحاكمة، ويعمل على تنفيذ أجندتها، ويلعب، إن جاز التعبير، دور ‘كلب الحراسة’ الذي ينبح في وجه المعارضين، أو بالأحرى يبعدهم عن المشهد، أو يشوههم، وكذلك حماية صاحبه الذي هو النظام.
وكثرة أعداد المحطات تعكس، للأسف، زيادة عددية، وليس تنوعا، وتعبيرا عن مصالح أطراف متباينة، ورؤى مختلفة، بموضوعية ونزاهة وحرية، ويصل الأمر في أوقات تصاعد صراع السلطة مع احدى القوى المناوئة لها، كالإخوان مثلا، مثلما جرى مؤخرا، أن يتم دمج كل ‘قنوات ماسبيرو’ التي تزيد عن العشر وضمها لقناة اخبارية واحدة أو لقناتين، حتى يتم توحيد الخطاب، وتكون الرسائل واحدة بذات المضامين وبمصادر من داخل النظام أو قريبة من السلطة تتكرر بوتيرة منتظمة، على نحو يخرج هذه القنوات من نطاق ‘الإعلام’ وتدفق حر للمعلومات وتنوع في الأراء إلى ‘الدعاية’ التي تروج لأفكار وتوجهات السلطة الحاكمة، وتسعى للحشد والتعبئة.
فضلا عن تنشيط دور’الرقيب’، وتدخلات مباشرة للشؤون المعنوية للجيش في الرسائل التي يتم بثها، كما لو كنا في زمن الحرب، وتحت الاحكام العرفية، وإن كان هذا التوجه سبق إعلان حالة الطوارئ.
ومن يدقق في مضامين الرسائل يكتشف أنها أخذت ثلاث مراحل، وفي مجملها تلعب على الأوتار العاطفية ومشاعر الخوف والقلق واستثارة غريزة الانتقام والكراهية.
ففي المرحلة الأولى كان التركيز على الخطر الجسيم الذي تقع فيه مصر لو استمر حكم الإخوان، وأن الجيش هو المنقذ الوحيد ودونه الضياع والدماء، وما تبع ذلك من إذاعة مكثفة لأغاني حماسية قديمة وحديثة تم تغيير خلفيتها لتضم مشاهد جديدة يظهر فيها قائد الجيش، وبث وتكرر إذاعة خطب الجنرال السيسي.
أما المرحلة الثانية، فتكثيف حملات التشويه الممنهج للإخوان، وتكنيك الدعاية السوداء الذي يمزج بعض الحقائق بالأكاذيب والمبالغات.
وبعد الحديث عن المصالحة واستيعاب الإخوان، خاصة الشباب منهم في في العملية السياسية من جديد، بإعتبارهم فصيلا سياسيا لا يمكن إقصاؤه، بات الخطاب عنيفا، ونقلهم من خانة المعارضين السياسيين إلى خانة الخونة والإرهابيين، مع رفع شعار مثبت على كل القنوات ‘مصر تحارب الإرهاب’، وسط تكرار إذاعة لقطات فيديو، على مدار اليوم، لعمليات عنف وتحريض لقيادات الإخوان وأنصارهم، أو لقطات لقتلى من جانب الشرطة أو الجيش، ومشاهد الجنازات المؤثرة، والإشارة المستمرة للمؤامرة الخارجية، وأنه بينما الإخوان فرطوا في المصالح الوطنية، فإن السلطة الجديدة تقود مصر نحو معركة الاستقلال الوطني.
أما المرحلة الثالثة، فحافظت على مرتكزات المرحلة الثانية، وأضافت عليها التركيز على محاولة تثبيت أركان السلطة الجديدة وإبراز انجازاتها، وأنها تسير على قدم وساق نحو تحقيق ‘خارطة الطريق للمستقبل’ واقرار الأمن والنظام ووضع دستور جديد، وتحسين الاداء الاقتصادي، وأنها مدعومة من الاشقاء العرب، خاصة الدول الخليجية، عبر سلسلة كبيرة من المؤتمرات الصحفية لكبار المسئوليين.
لكن الأخطر في هذه المرحلة، كان الهجوم الممنهج والمكثف على انتفاضة يناير 2011، في عديد من البرامج واللقاءات التلفزيونية، ومحاولة الربط بين الإخوان وبينها، وأنها كانت مؤامرة خارجية لهدم الجيش والشرطة وإسقاط نظام كان وطنيا، من أجل مشروع التفتيت والتقسيم.
وهنا يمكن تلمس النزعة الانتقامية من هذا الحدث الكبير، ومحاولة تصفيته نهائيا، لأن القائمين على الأمر الآن، ينتمون إلى نظام مبارك، ويتصورون أن 30 يونيو هي الثورة الحقيقية التي اطاحت بمن هددوا مصالحهم وابعدوهم عن صدارة المشهد، وأن الفرصة باتت سانحة لعودة الدولة القديمة ذات الوجه البوليسي، وذات العصا الغليظة، معتقدين أن ‘فزاعة الإخوان’ واحتياج غالبية المصريين للأمن والاستقرار، وجعل الأولوية له عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، سيمكنهم من العودة المظفرة، وأن لا صوت يعلو الآن على صوت الأمن.
والمشكلة أنهم يتبعون تكنيكات قديمة في الدعاية مثل ‘حقنة تحت الجلد’ التي قد يكون لها تأثير سريع على الجمهور، خاصة قليل التعليم والثقافة، لكن أثرها لا يدوم طويلا، وحين تتكشف الحقائق، أو يتوقف البعض أوالكثيرون، للتدقيق في الرسائل التي يتلقها، وما بها من مبالغات وأكاذيب واحتقار لذكائه، وتلاعب بسيكلوجية الجمهور، وبمخاوفه المشروعة، ستأتي بأثر عكسي.
وبالمناسبة، الإخوان، حين كانوا في السلطة اتبعوا نفس المدرسة الدعائية، وقاموا بتلك الجرائم، من تضليل وحملات تشويه للخصوم، ومحاولة السيطرة على الجماهير وتوجيهها لما يخدم مصالح الجماعة فقط.
وهنا يجب التوقف بعض الشئ، والتأكيد على أنه إذا كان لا يمكن بأي حال من الأحوال، التعاطف مع الإخوان، أو النظر إليهم كضحايا سلطة قمعية ‘انقلابية’ كما يحلو لهم وصفها، لأنهم جزء أصيل من هذه الكارثة التي حلت بمصر، بتقاعسهم عن انجاز التغيير الديمقراطي إبان وجودهم في الحكم، وتفضيل العمل ببنية الفساد والإستبداد والتبعية، إلا أنه من غير المقبول أخلاقيا السماح بترويج أكاذيب والعبث بوعي الجماهير وتزييف الحقائق، والوقائع التي لم يمض عليها أكثر من عامين ونصف العام.
وجعل العقلية الأمنية الفاشلة هي من تدير عقولنا أو تتلاعب بها، استغلالا لقناعة لديهم أننا شعوب جاهلة مغيبة فاقدة للذاكرة، أو ذاكرتها ضعيفة، وأن مشاعر الكراهية تجاه الإخوان حاليا تكفي لاقناع الجماهير بأن هؤلاء هم وحدهم الذين أجرموا في حق هذا الشعب والوطن، وأن بمنطق رجال المباحث يمكن إلصاق كل التهم التي تتطال رجال مبارك، خاصة اثناء انتفاضة يناير وما بعدها، للإخوان، بحثا عن جاني بديل، لإغلاق هذا الملف المفتوح، ولتبرئة ساحة الديكتاتور العجوز ورجاله، وتمهيد عودتهم القوية والمسيطرة على الحياة السياسية من جديد، بثوب البراءة والنزاهة والشرف والوطنية.
والمؤسف أن يشارك في هذه الحملة المسعورة الممنهجة للنيل من انتفاضة يناير، إعلاميون وأكاديميون، وسياسيون ومندوبون صحفيون في وزارة الدفاع، إلى جانب جنرالات متقاعدين ورجال أمن سابقين، في وسائل الإعلام المختلفة، وفي الندوات وحتي في قاعات المحاكم وعلى مواقع التواصل الاجتماعي.
ومن المؤسف أكثر أن يقوم بهذا أساتذة متخصصون في الإعلام، ومنهم أستاذة لا تترك فرصة في برامج تلفزيون إلا، وتكرر الخطاب المتهافت المغرض أن ما حدث في يناير 2011 مؤامرة من الإخوان والأمريكان لهدم الشرطة والجيش وتخريب مصر، وفي الوقت نفسه تدافع عن جنرالات مبارك بقوة، ولم تتوقف لحظة لتسأل نفسها هي ومن على شاكلتها، إن كانت حقا مؤامرة فلماذا أدعى رجال مبارك في المؤسسة العسكرية أنهم يقومون على حمايتها وتنفيذ مطالبها.. هل هم، إذاً، شركاء في المؤامرة؟!، ولماذا اتفق الإخوان وجنرالات مبارك برعاية الأمريكان لاحتواء الغضب الشعبي وإحباط طموحات المصريين؟، وهم أيضا من أوصلوا الإخوان للسلطة، ومن ضمن شروط الصفقة الشهيرة التي لم تعد سرا، الإبقاء على ‘تركة السادات- مبارك’، وخروج الديكتاتور العجوز، ورجاله بشكل آمن بعد محاكمة مسرحية تمتص غضب الشعب المكلوم، مع عدم استرداد الأموال المنهوبة كنوع من التعويض لعصابة مبارك عن الخروج من السلطة، ثم خروج آمن للجنرالات، حال وصول الإخوان للحكم، وهو ما حدث بالفعل، رغم عشرات الجرائم الدموية التي وقعت.
صحيح أن 25 يناير لا يمكن الآن وصفها بمصطلح الثورة، بإعتبارها لم تحقق أهدافها، لكن هذا يضعها في خانة الانتفاضة أو مشروع ثورة لم تكتمل أو ثورة مجهضة أو تم افشالها، لكنها بالطبع ليست مؤامرة، ولم يقم بها الإخوان، وأنما قاموا مثل بقية القوى السياسية المنظمة بالدخول على خطها ومحاولة توجيهها، وكذلك الأمريكان وجنرالات مبارك، وبعد أيام من تصاعد الغضب الشعبي واتساع نطاق الاحتجاجات، الأمر الذي بات يهدد بالخروج عن السيطرة وتهديد شبكة المصالح الراسخة في مصر.
وفكرة الربط بين انتفاضة يناير والإخوان والمؤامرة محاولة حقيرة من ابناء مبارك الذين كانوا ابناء طنطاوي وعمر سليمان ثم شفيق وحاليا السيسي، وذلك لتشويه هذا الحدث وتحريفه تاريخيا، لجهة اظهار مبارك بانه كان وطنيا مخلصا، وكان لديه استعداد لترك السلطة بعد ستة اشهر، والحفاظ على مصر من الضياع والخراب، لكن لم يعط الفرصة. وأي أحد عاش في مصر خلال حقبة مبارك، يدرك انه كان ديكتاتورا فاسدا ومفسدا وكاذبا، ولا احد يطيقه من ابناء الشعب، الذي ادرك كل واحد منهم انه صاحب مأساته الشخصية، ولا يمكن أن نتغافل عن جرائمه هو ورجاله على كافة المستويات، خلال حقبة الثلاثيين عاما من الحكم، خاصة اهدار كرامة الوطن والمواطن وخدمة المشروع الصهيو-أمريكي على حساب المصالح الوطنية المصرية والعربية، والتسبب في افقار هذا الشعب واصابته بالامراض الخبيثة والوصول لحافة اليأس وفقدان الأمل في المستقبل، وتفضيل كثير من الشباب الموت غرقا عن البقاء في جحيم الوطن، فضلا عن الانتهاكات الممنهجة لحقوق الانسان، خاصة من جانب الأجهزة الأمنية.
و القول بغير ذلك مجرد دعاية رخيصة وتلاعب بالحقائق وانكار للواقع المرير، وتبرير ساذج لا ينفي ان مبارك ورجاله لا يستحقون اقل من الاعدام ، ووضعهم في سلة مهملات التاريخ، ونفس الشئ ينطبق على من جاءوا بعده، وساروا على نفس النهج.
و إن كان الإخوان قد ارتكبوا جرائم تصل إلى درجة الخطايا، لكن ما فعلوه لا يبرر ما فعله الديكتاتور العجوز، ولا يجب ان تنسينا ما اقترفته يداه، فأبدا لم يكن مظلوما أو وطنيا، وأن كل الشر فقط في الإخوان، فالاثنان وجهان لعملة واحدة عملت على تجريف وعي هذا الشعب وثرواته وأهدرت حقوقه وحرياته، وعملت لصالح امريكا وضمان أمن الصهاينة. وهذه الحقائق لا يمكن ان نقبل بتزييفها أو تحريفها مهما كان.
*كاتب صحفي مصري
المصدر:جريدة "القدس العربي" اللندنية