بعد تفجير البرجين التوأمين في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، طالب عدد من الفنانين التشكيليين ومن بينهم ريناتا ستي وفريدير شنوك، بتغطية كافة مباني نيويورك التي شيدها الغرباء بستائر سوداء، وإعادة تمثال الحرية إلى فرنسا.
فأي حرية تلك التي تجر وراءها ذيولا من الخراب، وتحصد أرواح الشباب حصدا كأنهم عناقيد عنب في كرمة يابسة؟ وأي رخاء ذلك الذي تعدنا به الأصابع الممتدة بالمولوتوف والمعونات المشروطة بالذل؟ وأي رجال نحن حين نستبدل أمننا بنصب تذكارية لشهداء لا يعرفون فيم قتلوا ومن نكل بهم؟
كلما نظرت إلى المشهد العبثي الذي تعيشه مصر هذه الأيام، تذكرت صرخة القذافي المدوية عند باب العزيزية وهو يلوح بيده قابضا على خيط من سراب: "ثورة .. ثورة!" هي الثورة إذن أيها الباحثون عن خيوط السراب في فدادين المدن المؤجرة. هي الثورة ضد الشوارع وخطوط المترو وعابري السبيل ومعاشات الأرامل وبيوت الصفيح. بارك الرب ثورتكم ضد التاريخ وضد الوعي وضد الجغرافيا وضد البقاء ولو على كومة من حطب. لوحوا أيها الثوار جدا بسيوفكم المسننة في وجه مستقبل أبنائنا، وعودوا إلى دياركم الخراب وأنتم ترددون أناشيد الحرية رافعين أصابع النصر.
كنا نرفع ذات أمس أيادينا المتوضئة بالدعاء، ونمدها بزجاجات المياه الباردة لنطفئ ظمأ اليأس في قلوب رفاقنا، وكنا نشكل سلاسل بشرية لصناعة الحلم - يرفع القبطي حجرا، فيتناوله المسلم من يده ليبنيا كعبة صغيرة تؤوي عظامهما اليابسة وهما يرددان "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم." واليوم تُرفع الأصابع نفسها بزجاجات المولوتوف لتلقي بها على المارة بغض النظر عن انتماءاتهم، لأننا صرنا نعبد عجل الحرية المصنوع من خبال، ونبيع جلود إخواننا بأكياس الذهب العابرة للقارات ونحن ننادي كاذبين: "ثورة .. ثورة!"
إنها ثورة باب العزيزية أيها المحاربون الأشاوس، ثورة ضد شعب لم يمتلك يوما من أمسه إلا الدَّيْن ولا يمتلك من يومه إلا القلق. ثورتكم اليوم أيها المغرورون بفضائياتكم تجاوزت سقف طيبتنا وشهامتنا ومحبتنا لتراب وطن نطمع أن يجد فيها أبناؤنا ذات يوم خيمة تحمي كرامتهم في زمن العري القادم.
بعد عامين من الحمل الكاذب، يخرج علينا الوطن فارغا من الأمل ومن الحنطة والزيت والدفء. بعد عامين من الصراع الدامي على كومة من حطب، لا يزال إخوة كرامازوف في الحكم والمعارضة يستعرضون خيباتهم أمام كاميرات الفضيحة ليظهروا للعالم سوءاتنا كلها دون ذرة من حياء. بعد عامين من الفشل الزؤام، يخرج المصريون حيرى لا يدرون إلى أي ميدان تحملهم أقدامهم المتعبة بعد أن أوقعهم حظهم العاثر بين قوسي خديعة ذات اليمين وذات الشمال.
بعد عامين من الهتاف والأمل، يخرج المصريون إلى شوارعهم خائفين يتخافتون بينهم، يحمل الواحد منهم كسرة أمل يابسة وكيسا من قلق. يخرج المصري اليوم إلى شوارع الثورة بائسا لا ليحتفل بسقوط ديكتاتور، ولا ليرقص في زفة تنصيب آخر، بعد أن تحول إلى ضيف غير مرغوب فيه من حكومة لا تستطيع تحمل أعبائه، ومن معارضة لا تستطيع تحمل تبعاتها.
ليت صانعي الثورة القادمين على ظهور أحلامنا العاجزة يحملون كاميراتهم ويرحلوا. ليتهم يحملون تماثيل الحرية التي نصبوها فوق كمائن الشتات فوق مدرعاتهم المرشوق في مؤخراتها بيارقنا العربية الخادعة ويعودوا بها إلى حاضنتهم البريطانية، فلقد ارتوينا ثورة وشبعنا حرية.
أديب مصري مقيم بالإمارات
Shaer129@me.com
فأي حرية تلك التي تجر وراءها ذيولا من الخراب، وتحصد أرواح الشباب حصدا كأنهم عناقيد عنب في كرمة يابسة؟ وأي رخاء ذلك الذي تعدنا به الأصابع الممتدة بالمولوتوف والمعونات المشروطة بالذل؟ وأي رجال نحن حين نستبدل أمننا بنصب تذكارية لشهداء لا يعرفون فيم قتلوا ومن نكل بهم؟
كلما نظرت إلى المشهد العبثي الذي تعيشه مصر هذه الأيام، تذكرت صرخة القذافي المدوية عند باب العزيزية وهو يلوح بيده قابضا على خيط من سراب: "ثورة .. ثورة!" هي الثورة إذن أيها الباحثون عن خيوط السراب في فدادين المدن المؤجرة. هي الثورة ضد الشوارع وخطوط المترو وعابري السبيل ومعاشات الأرامل وبيوت الصفيح. بارك الرب ثورتكم ضد التاريخ وضد الوعي وضد الجغرافيا وضد البقاء ولو على كومة من حطب. لوحوا أيها الثوار جدا بسيوفكم المسننة في وجه مستقبل أبنائنا، وعودوا إلى دياركم الخراب وأنتم ترددون أناشيد الحرية رافعين أصابع النصر.
كنا نرفع ذات أمس أيادينا المتوضئة بالدعاء، ونمدها بزجاجات المياه الباردة لنطفئ ظمأ اليأس في قلوب رفاقنا، وكنا نشكل سلاسل بشرية لصناعة الحلم - يرفع القبطي حجرا، فيتناوله المسلم من يده ليبنيا كعبة صغيرة تؤوي عظامهما اليابسة وهما يرددان "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم." واليوم تُرفع الأصابع نفسها بزجاجات المولوتوف لتلقي بها على المارة بغض النظر عن انتماءاتهم، لأننا صرنا نعبد عجل الحرية المصنوع من خبال، ونبيع جلود إخواننا بأكياس الذهب العابرة للقارات ونحن ننادي كاذبين: "ثورة .. ثورة!"
إنها ثورة باب العزيزية أيها المحاربون الأشاوس، ثورة ضد شعب لم يمتلك يوما من أمسه إلا الدَّيْن ولا يمتلك من يومه إلا القلق. ثورتكم اليوم أيها المغرورون بفضائياتكم تجاوزت سقف طيبتنا وشهامتنا ومحبتنا لتراب وطن نطمع أن يجد فيها أبناؤنا ذات يوم خيمة تحمي كرامتهم في زمن العري القادم.
بعد عامين من الحمل الكاذب، يخرج علينا الوطن فارغا من الأمل ومن الحنطة والزيت والدفء. بعد عامين من الصراع الدامي على كومة من حطب، لا يزال إخوة كرامازوف في الحكم والمعارضة يستعرضون خيباتهم أمام كاميرات الفضيحة ليظهروا للعالم سوءاتنا كلها دون ذرة من حياء. بعد عامين من الفشل الزؤام، يخرج المصريون حيرى لا يدرون إلى أي ميدان تحملهم أقدامهم المتعبة بعد أن أوقعهم حظهم العاثر بين قوسي خديعة ذات اليمين وذات الشمال.
بعد عامين من الهتاف والأمل، يخرج المصريون إلى شوارعهم خائفين يتخافتون بينهم، يحمل الواحد منهم كسرة أمل يابسة وكيسا من قلق. يخرج المصري اليوم إلى شوارع الثورة بائسا لا ليحتفل بسقوط ديكتاتور، ولا ليرقص في زفة تنصيب آخر، بعد أن تحول إلى ضيف غير مرغوب فيه من حكومة لا تستطيع تحمل أعبائه، ومن معارضة لا تستطيع تحمل تبعاتها.
ليت صانعي الثورة القادمين على ظهور أحلامنا العاجزة يحملون كاميراتهم ويرحلوا. ليتهم يحملون تماثيل الحرية التي نصبوها فوق كمائن الشتات فوق مدرعاتهم المرشوق في مؤخراتها بيارقنا العربية الخادعة ويعودوا بها إلى حاضنتهم البريطانية، فلقد ارتوينا ثورة وشبعنا حرية.
أديب مصري مقيم بالإمارات
Shaer129@me.com