للمرة الأولى يسألني عن سوريا بهدوء:-
عادل هل سمعت الأخبار ظهر اليوم؟
-لا ما الحديد.
- هرب رئيس الوزراء السوري إلى الأردن ومنها إلى قطر؟
- قلت: كيف أعصابك؟
-قال: لا هذه المرة لم أعد أكترث، هذه دولة قوية.
كان هذا الصديق العروبي إلى درجة أشعر باعتدال عروبتي أمامه،كان كلما حصل حادث في سوريا يتصل غاضباً قلقاً شاتما مزمجراً...الخ.
هذه المرة ضحكت، وأقول للإخوة في سوريا لماذا؟
لأن الفلسطينيين بمقدار ما اعتادوا سقوط الشهيدات الشهداء، اعتادوا انكشاف وليس فرار العملاء. فنحن في بطن العدو، ولدينا عملاء علنيين وبمختلف الأحجام والتصاميم، عملاء نصف كُم، وكم طويل، عملاء أكاديميا وعملاء سياسة وعملاء اقتصاد...الخ. ليس إذن هذا درساً جديداً نتعلمه من سوريا، بل نعلِّمها. ونعلمها أنه كلما انكشف عميلاً تعافينا. ولولا هذه العقيدة لكنا لا نُرى اليوم.
قبل أكثر من عام، كتبت في كنعان الإلكترونية عن مخاطر شريحة النومنكلاتورا في السلطة هناك، البعض يسميها المافيا، وأكدت أن القيادة السورية في صراع مع بعض أحشائها وفي صراع مع أعدائها العلنيين. وهذا جعل الأمر اشد واقسى وأطول.
ليس هذا المقال لتقريع الهارب، ولا أعتقد أنه يستحق اهتماماً، ولكن ما أود قوله، بأن هناك مخروقين/ات في هذا الوطن يجري تنويمهم في خلايا لعقود. فلو لم يكن الرجل هكذا، لاستقال مثلا، وانضم إلى المصطفين على قارعة الانتظار يفركون ايديهم استعجالاً لانتهاء المعركة كي يصطفوا إلى جانب المنتصر. انتهازية لا شك، رغم الحديث عن قامات كبيرة بينهم، فالقامة الحقيقية ليست انتظارية لكنها على الأقل ليست خائنة. وكان بوسعه الاعتكاف في بيته، وهذا الموقف السلبي/الإيجابي سلبي وطنياً وإيجابي للكرامة الشخصية.
هل وصل تنظيف أروقة البيت إلى الرجل فتعجل الهروب؟ هل قارب الانكشاف؟ هل رفعت دول الريع النفطي سعر شراء الرجال والنساء؟ أم هذه جميعاً؟
من الاعتصار إلى الطحال
لا يعنيني إن كان هذا الرجل مخروقاً منذ يفاعة عمره، أم اخترق خلال الأزمة، لأن الأهم هو ما هو وضعه الآن؟
إن كان مخترق منذ القدم، فما يتم الآن واعتقادي أنه في تل أبيب بين الأيادي الجميلة للمخابرات الصهيونية والأمريكية متلهفين لمراجعة المعلومات والتقارير التي سربها واستكمال الثغرات فيها. وإن كان حديث نعمة (أي مخترق حديثا) فسيكون مجرى التحقيق مختلفاً. بمعنى أن كبار المحققين سوف يدخلون عليه دون تحية. طبعاً سوف ينهض هو فوراً بملامح ذليلة متوقعاً أن يصافحوه. يجلسون ولا يقولوا له اجلس، يهتز قليلاً، يتمايل ثم يجلس بالتقسيط متوقعاً أن يقول له أحدهم: من قال لك أجلس! لكنهم يتركونه في الجلوس التدريجي.
ويبدأ السؤال، خائن لبلدك، وأمثالك كثيرين، والآن أجب سريعاً فلدينا مشاغلنا في وضع القيادة السورية، من الذي يدير الأمن ويخطط للجيش، ولماذا يقف النظام قوياً؟ ومن الذين سيلحقوا بك، من الذين تحت الضوء من المكشوفين؟ ...الخ. هل تأكدت من الحوالة التي وضعتها والسعودية وقطر في حسابك؟ طبعا وصلت لا شك، لأننا لسنا مثلكم ايها العرب . نحن ندفع للعملاء، طالما هدفهم المال. لا نعتقد أنك غبياً إلى حد الاعتقاد بأن السعودية وقطر تدفعان دون أوامرنا.
يتركونه ليأتوا بعد ذلك بأعضاء مخابرات من مراتب اقل ومن متدربين، يتناوشونه كصغار النمور على جثة جاموس يئن أو "ينع" وصغار النمور تقتتل بين اللعب والجد. ثم يرمون إليه بدزينة دفاتر ويقولون له: خذ، اكتب كل ما تعرف. ويتركونه ويمضون.
سوف يكتب إلى أن تتهالك ذراعية الزراعيتين، وماذا عساه فاعل غير هذا.
بعدها يُنقل إلى قطر ، طحال الوطن العربي. هناك يلتقي الصف الثاني من مخابرات الثورة المضادة، مخابرات العربان والخلايجة، ومثقفي الموساد على رأسهم عزمي بشارة وغليون والقرضاوي ومحمد جعفر وجلبير اشقر وسلسلة تتسابق على اقتناص معلومة بقيت في حنايا جسمه المترهل ليركضوا بها إلى سادتهم: وجدنا هذه فيه، فنحن نرطن بالعربية أفضل منكم.
وقت قصير، ويُلقى بالرجل في طحال الوطن العربي، ربما لأنه لا ينفع في أمر، فخبرته في الزراعة لا تنفع في بلد حرمها الله من الماء والخضراء والوجه الحسن.
دعني عزيزي القارىء أزعم أنني قدمت تفسيراً لهذا الهارب. ولكنني لم أجد تفسيراً لهروب خالد مشعل. فالسيد مشعل لم يقل للسوريين بوضوح بأنه ذاهب إلى غير رجعة. وهو ذهاب يعني ذهابه من موقع المقاومة. فهل سيقاوم من الأردن أو من قطر أو من السعودية؟ أتمنى ذلك؟
او كان السوريون قد ضغطوا على مشعل ليشجب الثورة المضادة لقال ذلك بوضوح! ولو طلبوا منه تأييد القيادة السورية لقال ايضاً.
لو هرب من الشام قيادي يساري أو قومي لقلنا: خاف الرجل فهو من الذين لا شك لديهم بأن الغرب صادق ومنتصر ابداً ولذا سيكون من ضحايا الثورة المضادة بعد سقوط الدولة السورية. لكن هذا السيناريو لا يخيف مشعل بل سوف يُعلي من شأنه. ففي ظل النظام الحالي هو معززا مكرما وله بلاط ملوك، كما قال لي صديق حظي بالغداء عنده ذات وقت. طبعاً فقراء غزة في العراء! وإذا ما انهارت الدولة السورية لصالح الثورة المضادة فبلاط مشعل سوف يصبح بلاطات. أليس من قيادات الدين السياسي؟ فلماذا هرب إذن؟ هذا السؤال ليس موجها إليه، بل إلى جماعته من كبارهم إلى صغارهم؟ سؤال كالكثير من الأسئلة التي يطرحها الشارع الفلسطيني، وسيطرحها كل يوم!