صورٌ ومشاهد إسرائيليةٌ بعد انتهاء العدوان على غزة - بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

(1)

سمعة الكيان وصورته تتردى وحاضنته الدولية تتشظى

يحاول العدو الإسرائيلي استعادة الصورة التي اغتر بها وتغطرس في اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى، عندما تداعى قادة وزعماء دول العالم، وفي مقدمتهم الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، ورئيس الحكومة البريطانية والرئيس الفرنسي، وعشرات المسؤولين والرؤساء، الذين هبوا للتضامن معه، وغطوا حربه على قطاع غزة، وأيدوا رئيس حكومته بنيامين نتنياهو، ودعموا حربه المفتوحة المسعورة، وزودوه بكل ما يحتاج إليه من عتادٍ وسلاحٍ وصواريخ وذخائر، وأيدوه في المحافل الدولية، ودافعوا عنه من أعلى المنابر السياسية والإعلامية، واستخدموا لصالحه حق النقض "الفيتو" في

مجلس الأمن الدولي مراتٍ عديدة، وأيدوا استمرار الحرب ومواصلة القتال حتى تحقيق الأهداف الإسرائيلية التي تبنوها.

لكن صورة التضامن الدولي قد تبددت، وحجم التأييد الشعبي للكيان قد تشتت، وذريعة المشروعية الدولية قد سقطت، ودعوى المظلومية قد انهارت، ولم تعد دولة تؤيده وتسانده، وتقف إلى جانبه وتساعده، بل باتت تشعر بالخزي من دعمه، والعار من الدفاع عنه، وتنأى بنفسها عن سياسته، وتعلن البراءة من جرائمه، وانفضت من حوله رسمياً الدول والحكومات، وتخلت عنه وابتعدت، واستنكرت حربه ودعت إلى وقف عدوانه، وانتقدت سياسته وسعت إلى عزله دولياً، وهو مشهدٌ دوليٌ لم يشهد الكيان مثله منذ أن تأسس، ولم يكن يتوقع أن يأتي يومٌ يكون فيه منبوذاً سياسياً ومكروهاً شعبياً.

لكن الجانب الأسوأ الذي يعاني منه الكيان الصهيوني اليوم، وإن انتهت الحرب وتوقف القتال، وفرضت خطة ترامب للسلام عليه بالقوة، هو الانفضاض الشعبي العالمي، وتراجع التأييد له في صفوف الأجيال الشابة الأمريكية والأوروبية، إذ تشير استطلاعات للرأي أن أكثر من 56% ممن هم دون ألـــ 45 سنة في الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا باتوا ينتقدون السياسة الإسرائيلية ويتظاهرون ضدها، ويؤيدون القضية الفلسطينية ويقفون إلى جانب غزة وأهلها، ولا يترددون في الهتاف لفلسطين ورفع أعلامها، والدعوة لحريتها واستقلالها.

ولعل فوز الشاب المسلم اليساري زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك هو الإشارة الأوضح لمدى التراجع الشعبي الأمريكي في تأييده التاريخي للكيان الصهيوني، خاصةً في هذه المدينة الأمريكية الأولى، عاصمة الاقتصاد، ومدينة كبار رجال الأعمال المؤيدين للكيان، والمدينة التي تضم أكبر تجمع يهودي في العالم بعد فلسطين المحتلة، التي انتخبت بأصواتٍ يهودية أيضاً شاباً مسلماً يعارض سياسة رئيس بلاده دونالد ترامب، ولا يخفي تضامنه مع الفلسطينيين وتنديده بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، بل وإعلانه الصريح خلال حملته الانتخابية عن عزمه في حال فوزه بمنصب عمدة نيويورك، اعتقال رئيس حكومة الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو في حال دخوله نيويورك.

لا يبدو أن الأوضاع ستعود كما كانت ذهبية وردية حالمة مع الكيان الصهيوني، فالزمن "الجميل" الذي تمتع به لسنواتٍ منذ تأسيسه قد وَلَّى ولا أظنه سيعود كما كان، وهذا ما يدركه الإسرائيليون أنفسهم، الذين باتوا يتوارون عن الأنظار، ويبتعدون عن الأضواء، ويخفون هويتهم ولا يظهرون جنسيتهم، ويمتنعون عن الحديث أمام العامة باللغة العبرية، وهم الذين كانوا يفاخرون بجنسيتهم، ويتعالون بديانتهم، ويتمايزون بساميتهم، ويفرضون على دول العالم "أتاواتٍ" تكفيراً عن دورهم في "الهولوكوست"، ويجبرونهم على تلاوة أسفار التوبة والندامة، ويحملون الأجيال القادمة أثماناً هم براء منها وفي غنى عنها.

أمام هذه الحقيقة الدامغة، التي تثبتها الوقائع، وتظهرها الأحداث التي باتت تتكرر في مختلف المناسبات، كالملاعب الرياضية التي يطرد منها الرياضيون الإسرائيليون، ويسقط على الأرض علم كيانهم، ويستبدل بالعلم الفلسطيني الذي أصبح يرفرف في سماء الملاعب الدولية، وكذلك الحال في المحافل العلمية والثقافية والفنية، حيث يطرد الإسرائيلي منها ويحرم من المشاركة، فضلاً عن الملاحقات الجنائية الدولية لعددٍ كبيرٍ من جنود جيش كيانهم وضباطه، الذين باتوا يخشون السفر، ويعودون إلى الكيان تهريباً بأسماء وهمية وجنسياتٍ أجنبية، والموانئ الدولية والأرصفة البحرية التي يمنع عمالها السفن الإسرائيلية من الرسو فيها، أو تقديم الخدمات لها.

إزاء هذه المستجدات والوقائع عمدت حكومة العدو عبر وزارة الخارجية وغيرها، إلى التعاقد مع كبرى الشركات الدولية المعنية بالترويج وإعادة رسم الصورة، وخلق محتوى إيجابي جديد، وشركات التواصل الاجتماعي مثل التوك توك والفيسبوك وتويتر (X) وتليجرام وإنستاجرام ويوتيوب وغيرها، لبث صور جديدة عن الكيان الصهيوني، تظهر مظلوميته، وتشرع عدوانه، وتبرز ما تعرض له مستوطنوه، وتعيد نشر صور السابع من أكتوبر2023، وتسلط الضوء على ما قامت به كتائب عز الدين القسام، وقوى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، لخلق رأي عامٍ جديد يؤيد سياستهم ويتفهم ما قام به جيشهم، ويدين الفلسطينيين وينتقد ما قامت به مقاومتهم، وتصف احتجاز جنودهم بالرهائن، وأنه عمل غير إنساني وشنيع، إلا أنها ورغم ملايين الدولارات التي تدفعها، وكبار العقول الذين توظفهم، ومتانة التحالف الذي تبنيه، باتت ضعيفة وتهزم أمام السردية الفلسطينية التي أضحت أقوى من سرديتهم، وأصدق منها وتفضحها.

 (2), 

الإسرائيليون يسخرون من نتنياهو وذوو الأسرى يتوعدونه

يظن نتنياهو أنه نجح في خداع مستوطنيه، وأن حججه قد انطلت عليهم وأسكتتهم، وأنهم رضوا عنه وقد أرضاهم، وأنهم سكتوا عنه وقد أعاد إليهم أبناءهم، وأنه استطاع بخطاباته المتكررة وإطلالاته الإعلامية المقصودة أن يقنعهم أنه من حرر الأسرى واستعادهم، وأنه من أجبر حركة حماس وقوى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة على التخلي عنهم وتسليمهم، وأنه بذلك يكون قد حقق أحد أهم شروط حربه على غزة، واستعاد الأسرى جميعاً كما وعد وتعهد، وأنه لولا الضغط العسكري ومواصلة الحرب، وعدم الإنصات للضغوط الدولية والاحتجاجات الشعبية والاستجابة لها، لما كانت حماس لتقبل بتسليم الأسرى وإعادة رفاة الجنود القتلى، والالتزام بالمهلة الزمنية المحددة لهم ضمن المرحلة الأولى من خطة السلام.

المستوطنون الإسرائيليون يعلمون أن رئيس حكومة كيانهم يعلم نفسه أنه كاذب، وهم يعلمون أنه كاذبٌ ومستمرٌ في كذبه، وهو ليس غبياً ليظن أنه حقق هدف الحرب بالضغط العسكري، ولعله أكثر من يعلم أنه فشل في تحقيق أيٍ من أهدافه التي أعلن عنها وتشدق بها، إذ أظهرت الوقائع أن عدداً من رفاة جنوده كانت تحت أقدام جنود جيشه وهم لا يعلمون، وأن بعض الأسرى كانوا قريباً منهم، وفي أنفاقٍ دخلوها، ومناطق احتلوها، ورغم ذلك لم يكتشفوا أمرهم، ولم يتبادر إلى أذهانهم أن أحدهم لو نظر إلى قدميه لرآهم، ولكن الله عز وجل أعمى بصيرته وبصيرتهم، وأضلهم وأضل أعمالهم، وأخزاهم وكشف عورتهم وأظهر سوءتهم، وبين عجزهم وضعف حيلتهم، وأحرجهم أمام شعبهم وعائلات الأسرى.

أضحى نتنياهو الكذاب الأشر، المحتال المكار، الغارق في أوحاله والضائع في مهامه، المتهم بالفساد والملاحق بالمحاكمة، والعاجز عن تحقيق النصر واستعادة القوة والهيبة، مثار سخرية الإعلام الإسرائيلي وتهكم الإعلاميين، ومحل استهزاء المستوطنين ومادة نكاتهم المستفزة وتعليقاتهم اللاذعة، وقد تجرأوا عليه وتجاوزوا حصانته، ولم تمنعهم مكانته أو تخيفهم سلطته، فكانوا لا يترددون في انتقاده وتوجيه اللوم له، وتحميله المسؤولية واتهامه بالتقصير، ولا يخفون استخفافهم به وسخريتهم منه، وهو يحاول إقناعهم بحركة جسده قبل لسانه، أنه البطل المحرر والقائد الصادق، وذهب بعض الإعلاميين والمستوطنين إلى تصويره كفأرٍ وقع في مصيدة، يتخبط يميناً ويساراً ويحاول الخروج منها بلا جدوى، والمتابع لوسائل التواصل الاجتماعي الإسرائيلية يجد العجب فيها، مما يغيض نتنياهو وفريقه، إذ أن أغلبها مشاركات تهكمية لاذعة.

يعرف المستوطنون الإسرائيليون جميعاً، والحكومة والجيش والإعلام الإسرائيلي، والولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤهم في العالم، أن نتنياهو لم يستعد بالقوة العسكرية ومن الميدان في قطاع غزة سوى ستة جنودٍ، وقد استطاع تحريرهم بعد أن دك جيشه المناطق التي كانوا فيها بآلاف الأطنان من المتفجرات، ودمر مبانيها وقتل المئات من سكانها، وأجبرهم على النزوح منها والرحيل عنها، ورغم ذلك فإن من استعادهم كانوا آحاداً، ومن قتلهم كانوا عشراتٍ، وأن من عاد منهم خلال السنتين قد عاد بالمفاوضات وبجهود الوسطاء، الذين استطاعوا بالسياسة والصفقات، مبادلة الأسرى الإسرائيليين بأسرى فلسطينيين ووقف الحرب لأيام معدودات، ولولا الوسطاء والجهود الكبيرة التي بذلوها ما عاد منهم أحد.

وقد كان للصفقة الأخيرة التي أبرمها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ضمن خطة السلام التي اقترحها بين العدو الإسرائيلي والفلسطينيين، الدور الأكبر في فضح نتنياهو وإظهار عجزه وبؤسه، إذ يعود للرئيس الأمريكي وحده الفضل في استعادة الأسرى الإسرائيليين وتحريرهم، واستعادة رفاة الجنود ودفنهم، وهو الذي سمع صرخات ذويهم، وأصغى إلى دعواتهم له بالتدخل، وأرسل مندوبه ستيف ويتكوف للقائهم أكثر من مرة، وسمع منهم أنهم لا يأملون في نتنياهو ولا يصدقونه، ولا يعولون على جهوده ولا يؤمنون بوعوده، بل إنهم يحملونه المسؤولية الأولى عن مقتل أبنائهم وتعذر الإفراج عن الأحياء منهم.

لا يكتف المسؤولون الإسرائيليون، السياسيون والعسكريون والأمنيون والإعلاميون وغيرهم، سواء ممن هم في المعارضة السياسية، أو من المتقاعدين الأمنيين والعسكريين، باتهام الحكومة بالعجز والتقصير، وأنها لم تبذل جهداً في استعادة الأسرى الذين عادوا رغماً عنها، بل إنهم يحملونها المسؤولية الكاملة عن مقتل عشرات الأسرى الإسرائيليين، وأن الجيش كان يتعمد قصف المناطق التي كانوا يحتجزون فيها، ولا يمتنع عن مهاجمة أماكن وأهداف كان من الممكن أن يكون الأسرى فيها، وذهب بعضهم إلى اتهام نتنياهو بسعيه لقتلهم والتخلص منهم، ليفلت من المحاسبة، وليطلق يد جيشه وطائراته في الغارات والقصف والتدمير، ولمواصلة الحرب بلا حدود ولا غايات، وبلا أهداف أو نهايات.

يعرف الإسرائيليون وقد استعادوا أسراهم من غزة أحياءً وأمواتاً أنه ليس لنتنياهو فضل فيها سوى أنه كان سبباً في تأخير عودتهم، وأنه يتحمل وحده وحكومته مسؤولية مقتل بعضهم، وهو ما كان يتمنى للمفاوضات أن تنجح وللجهود الدولية أن تستمر، ولخطة ترامب أن تمضي، بل لو ترك الخيار له فإنه كان سيعطلها وسيفشلها ككل مرةٍ سبقت.

وهو الآن بات يعلم أن وقت الحساب قد اقترب، وأن ساعة المساءلة قد أزفت، وأن صناديق الانتخابات ستحاسب، وأصوات مستوطنيه لن تصب في صالحه، وأن أي انتخاباتٍ برلمانية قادمة، مبكرة أو في وقتها، فإنها لن تفضي إلى عودته، ولن تكون نتائجها لصالحه، وهي إن لم تخرجه فإنها ستضعفه، وستقصي أغلب حلفائه، وستعاقب كل شركائه، ولن يعود لأغلبهم مكانٌ تحت قبة الكنيست الإسرائيلية.

 (3), 
استحقاقات ما بعد انتهاء الحرب ترعب الإسرائيليين وتقلق حلفاءهم

ما إن تم التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، وبداية مسار إنهاء الحرب الإسرائيلية الغاشمة عليها، وإن كان رئيس حكومة الاحتلال يحاول التلفت منها والانقلاب عليها وعدم الالتزام بها، إلا أن أغلب المؤشرات تؤكد إصرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والمجتمع الدولي على إنهائها، وإكراه نتنياهو على القبول بها وعدم تهديدها، حتى أدرك الإسرائيليون، مسؤولين ومستوطنين، سياسيين وعسكريين، أمنيين وإعلاميين، أن مرحلة الحرب قد انتهت، وأن يد نتنياهو في قطاع غزة قد كفت، وأنه لن يستطيع أن يواصل حربه ولا أن يبرر عدوانه، وأنه سيكون مضطراً للالتزام بخطة ترامب للسلام، وإن كان يعمل على تغييرها لصالح كيانه، والمماطلة في تنفيذ بعض بنودها لتجييرها لصالحه، وتأخيرها قدر المستطاع للسماح ببعض التغييرات التي قد تخدمه.

يدرك الإسرائيليون أن اليوم التالي المتعلق بهم قد بدأ، وأن تداعياته قد استحقت، وأنه بات عليهم لزاماً أن يواجهوا نتاج ما اقترفت أيديهم وما ارتكبوا من جرائم ومجازر على مدى سنتين وأكثر في قطاع غزة، الذي خاضوا ضده حرباً وحشيةً لا تمت للإنسانية بصلةٍ، شوهت صورة كيانهم الكاذبة لدى دول العالم كله، وأظهرت حقيقته العنصرية، وصورته العدوانية الوحشية، وأخرجته من دائرة الحضارة والمدنية والديمقراطية التي يدعي انتسابه إليها وتميزه بها، وأحرجت حلفاءه في أوروبا وغيرها، وأضرت بمصالح الولايات المتحدة الأمريكية التي تدعمه وتؤيده وتسانده وتساعده، وتقف معه وتؤازره، إلا أن استمرار الحرب على غزة هددت مصالحها وجعلت منها صورة مشابهة للكيان ومتساوقة معه، تتحمل كامل المسؤولية عنه وعن تصرفاته، وتشاركه في حربه وعدوانه.

اليوم أصبح الإسرائيليون، حكومةً ومستوطنين، في مواجهة دول العالم القريبة والبعيدة، الصديقة والحليفة، العربية والإسلامية، والغربية واللاتينية، فعلاقاتها مع أغلب هذه الدول قد تغيرت وتأثرت، ولم تعد كما كانت قبل الحرب، فبعضها ينتقدها علناً ومن أعلى المنابر السياسية والدولية، وبعضها قطع علاقاته الدبلوماسية والاقتصادية وغيرها معها، وطالب بمقاطعتها وعدم مشاركتها أو إشراكها في مختلف الفعاليات الدولية، وبعضها يطالب بملاحقة مسؤوليها ومحاسبة قادتها، واعتقال جنودها وضباطها الذين ثبت تورطهم في الحرب، وارتكابهم جرائم وفظائع بحق الفلسطينيين في قطاع غزة.

بات على الإسرائيليين اليوم التفكير جيداً قبل التخطيط لرحلاتهم، ودراسة خياراتهم للسفر بعنايةٍ وحذرٍ، والمطارات التي تحظ فيها طائراتهم، بل والأجواء التي تعبر فيها، فالأمر لم يعد سهلاً كما كان، وصورتهم التي خدعوا العالم بها سنين طويلة قد انكشفت، حتى أنهم باتوا يخفون هوياتهم، ولا يظهرون جنسيتهم الإسرائيلية، ويتمسكون بجنسياتهم الأخرى، حتى أنهم في المطارات وفي رحلاتهم على متن الطائرات، وفي الأسواق والأماكن السياحية وغيرها، باتوا لا يتحدثون اللغة العبرية فيما بينهم، وأخذوا يتخلصون من إشاراتهم وعلاماتهم التي تميزهم، فلا قلنسوة يعتمرونها، ولا سوالف يطيلونها، ولا "نجمة داوود" يعلقونها، ولا شيء يدل عليهم يبرزونه علناً أمام الآخرين، وقد باتوا على يقينٍ بأن كل العيون ترقبهم، وكل النفوس تكرههم، وكل القلوب حاقدة عليهم

كما أصبح من العسير عليهم أن يبددوا التأييد العالمي للقضية الفلسطينية، والتضامن الدولي والشعبي مع الشعب الفلسطيني، الذي بات الانحياز إليه كرامة وإنسانية ونبل وشرف، وغير ذلك خسة ونذالة واختلال معايير وقلة أدب، ولعل المظاهرات الشعبية التي ملأت شوارع عواصم القرار الدولية، فضلاً عن عواصم دول العالم كلها، التي كان العلم الفلسطيني فيها يرفع، وفي سمائها يرفرف، والكوفية الفلسطينية تزين الجباه والأكتاف، ويعتمرها العرب وغيرهم، والمتضامنون الجانب واليهود المعارضون، بينما العلم الإسرائيلي يمزق ويحرق ويداس بالأقدام، ودمى رئيس حكومة العدو ووزير حربه ورئيس أركان جيشه تشوه وتلطخ وتعلق على أحبال المشانق وتُجرَّس

وأصبح من الصعب عليهم أن يكذبوا السردية الفلسطينية التي باتت على كل لسان، ويؤمن بها كل إنسانٍ حرٍ وشريفٍ، وأصبح إطارها يتسع ومفرداتها تسود، وروايتها تصدق، بينما تراجعت رواية العدو وانكفأت، ولم يعد يصدقها أحد أو يؤمن بها، بل لا يجرؤ أحدٌ غير المتشدقين باسم الكيان والمتحالفين معه على سردها، وإعادة طرحها على مسامع العالم، الذي بات ينكرها ويستنكرها، ويرفضها وينفر منها، ولعل هذا آخر ما كان يتوقعه الإسرائيليون، أن يصبحوا هم المنبوذين في العالم، والمكروهين بين الأمم، وغير المرحب بهم في البلاد، بينما تفتح الدنيا كلها للفلسطينيين أبوابها، وتقدمهم على غيرهم وتصدقهم، وتدعو لنصرتهم ومساعدتهم، بل لإنصافهم وإكرامهم، وتمكينهم وإعادة حقوقهم.

لن يقف الأمر عند هذا الحد أبداً، ولن تقتصر تداعيات الحرب على غزة على الجانب الإسرائيلي على ما ذكرت، بل سيصحو المستوطنون الإسرائيليون حتماً على واقعٍ جديدٍ مختلف، وسيجدون أن السد قد نقب، وأن الجدار قد سقط، وأن كوةً من نور قد فتحت على الفلسطينيين، وأن لهباً من نارٍ قد اندلع في وجه الإسرائيليين، فالغد أبداً لن يكون كما اليوم، وهو بالتأكيد ليس كما كان بالأمس، ولن يكون بإذن الله إلا لصالحنا نحن ومعنا ضدهم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون.


(4)
الإسرائيليون يزرعون الحقد وينشرون الكره ويحصدون الثأر

يعلم الإسرائيليون جيداً هول ما صنعوا، ويدركون تماماً فداحة ما ارتكبوا، ويعرفون أن الجرائم التي اقترفوها أكبر من أن تنسى وأعمق من أن تدمل، وهي لفظاعتها أكثر فحشاً وأشد وحشية وقبحاً من أن تغفر، فالتاريخ لم يشهد مثلها دمويةً، ولم تعرف حروبه أمداً طويلاً ضروساً مثلها، وهي لكثرتها واتساع نطاقها وشمولها أوضح من أن تنكر نتائجها أو تخفى معالمها، فقد شهدها العالم كله الذي صمت عليها، وتابعها وشجع عليها، وشارك فيها وساهم، ودعم الكيان المجرم بالمزيد من الأسلحة لاستمرارها، وهي لذلك لن تشطب من صفحات التاريخ مهما تقادمت، ولن يتجاوزها الفلسطينيون أو يغضوا الطرف عنها مهما تتابعت الأجيال وتوالى الأولاد والأحفاد.

الإسرائيليون يعرفون ذلك جيداً ويتحسبون منه، ويخشون تداعياته وتبعاته، ويخافون من أيام الحساب العصيبة القادمة، ويدركون أنها ستأتي مهما تأخر الزمن، وستكون قاسيةً عسيرةً ولن يحميهم منها أحدٌ، ويدركون أن بقاء الحال على حاله هو من المحال، فلا كيانهم سيبقى قوياً إلى الأبد، ولا حكوماتهم المتطرفة ستقوى على حمايتهم والدفاع عنهم، ولا الولايات المتحدة ستبقى قوية موحدة وقادرة ومهيمنة، فسيأتي زمان فيه تنهار أو تضعف، وتتعدد الأقطاب وتتنافر، وتتصارع وتنافس، وتفقد الولايات المتحدة الأمريكية ثقلها في المنطقة، وتأثيرها على حكوماتها وسياساتها، كما لن يبقى العالم مخصياً ضعيفاً عاجزاً يتفرج ولا يملك القدرة على الضغط والتأثير، أو التغيير والتبديل.

والأهم من هذا كله، والأكثر واقعية والأقرب أملاً، وهي ليست طوباوية أو أحلام وردية أو خيالٌ جامح، أن الأمة العربية والإسلامية، لن تبقى ضعيفةً إلى الأبد، ولن تبقى مستخذيةً مدى الحياة، ولن يستمر هوانها، ولن يطول ذلها، ولن يبقى حكامها عبيداً يطيعون، وقطيعاً يساقون، وأدواتٍ يستخدمون، وعصا بها يهشون ويلوحون، ويضربون ويبطشون، ويرهبون بها شعوب بلادهم ويقمعونهم، ويمنعونهم من الثورة على الظلم ورفض الذل والتطلع نحو الحرية والمستقبل، والعزة والكرامة والاستقلال الناجز، والحرية الذاتية في تقرير المصير، ورسم السياسات، واتخاذ المواقف، والتعبير عن الأماني والرغبات.

يدرك الإسرائيليون ومعهم دول العالم قاطبةً أن سبات الأمة العربية والإسلامية لن يطول، وأن نومها لن يكون أبدياً، وضعفها لن يبقى سرمدياً، بل سيأتي اليوم الذي فيه ينهضون من كبوتهم، واليوم الذي فيه من نومهم يهبون ومن سباتهم يبعثون، والتاريخ على أحوالهم شاهد وعلى صروفهم حاضر، فما استكانوا يوماً على ظلمٍ، ولا رضوا بذلٍ، ولا خنعوا لمستعمرٍ ولا ضعفوا أمام متجبرٍ، ولا قبلوا بالتسليم والتنازل عن حقوقهم لعدوٍ غازٍ، مهما بلغت قوته، وسادت سلطته، وطغا جبروته واستبد حكمه، وشعوب هذه الأمة ولادة، وعلى ظلامها ثائرة، وما من حاكمٍ استبد بهم إلا اندثر، ولا سلطانٍ حاول إذلالهم إلا سقط، إلى أن يأتي من بينهم قائدٌ يمضي بهم نحو نصر حطين وعين جالوت جديد، وفتحٍ للقدس وتطهيرٍ لفلسطين.

يعرف الإسرائيليون أن هذا اليوم إن أتى، عليهم أو على أجيالهم التالية، وهو لا محالة آتٍ بإذن الله، فهذه سنة الحياة وسيرة الشعوب وحياة الدول ومصارع الملوك ونهايات الممالك، فإن الفلسطينيين ومعهم العرب والمسلمين لن ينسوا جراحاتهم، ولن يطووا الصفحة على معاناتهم، ولن يغفروا أو يسامحوا، ولن يصفحوا ويعفوا، بل سيفتحون كل الدفاتر القديمة، وسيستعيدون كل المذابح التي تعرضوا لها، والمظالم التي عانوا منها، وسيحاسبون ظلامهم ومن اعتدى عليهم وارتكب في حقهم الجرائم والمذابح، وستكون أيديهم خشنة وأقدامهم ثقيلة، فلا عاش من سامح وغفر وفرط في دماء الأهل والشعب، وغض الطرف خلقاً وأدباً، وشهامةً ونبلاً، فهذه الشيم لن يكون لها مكان، ولن يكون لأصحابها وجود، وإلا تكررت المذابح وعادت بعد حينٍ المجازر، وعاد العدو بعد استعادة القوة وبناء الذات إلى العدوان من جديد، والاستعلاء مرةً أخرى، والقتل والإبادة، والبطش والقمع والإساءة.

حتى لا تبقى هذه مجرد أحلام وأماني، ورغبات ودعوات، ونركن إليها ونطمئن أنها ستأتي دون جهودٍ تبذل، وبلا خطط ومشاريع تعد وتدرس، وبلا عملٍ وإعدادٍ وتجهيزٍ متواصلٍ، وحتى يخشى العدو منها ويخاف، ويتحسب منها ويستعد لها، ويدرك أنها قادمة حتماً وواقعة لا ريب، فإنه ينبغي علينا العمل لهذا اليوم، والسعي الجاد لهذا الهدف، وإعداد الجيل المناسب للنصر، وتهيئة البيئات التي تستحق الفوز، وعليها تنعقد الآمال وتتحقق الأحلام، والتضحية في سبيل هذا الهدف النبيل الذي سيذكره التاريخ وستخلده الأيام، فليس أعظم يوماً من يومٍ نسترد فيه كرامتنا، ونستعيد فيه أرضنا، وندحر عدونا، ونثأر منه لشهدائنا، وننتقم منه لسوء ما جنته يداه، ويدفع وأجياله ضريبة جرائمه، تشرداً وتيهاً، وتشرذماً وضياعاً، جزاءً نكالاً عدلاً وإنصافاً.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق