لم أكن في يوم من الأيام من المعجبين بالأستاذ هيكل، منذ بدأت طالبة صحافة أتمرن في دار أخبار اليوم نوفمبر 1955 وأنا في الثامنة عشرة من عمري. كان "علي ومصطفى أمين"، رحمهما الله رحمة واسعة، صاحبي الدار ورئيسي تحرير الجريدة اليومية "الاخبار" والأسبوعية "أخبار اليوم"، وكان نجم الدار الاول هو الاستاذ محمد حسنين هيكل مؤلف كتاب "إيران فوق بركان"، الكتاب الثالث من سلسلة "كتاب اليوم" الصادر مايو 1951.
كان على ومصطفى أمين في طريقهما إلى بلوغ الثانية والأربعين، وكان هو قد احتفل ببلوغه الثانية والثلاثين ويرأس تحرير مجلة "آخر ساعة"، يحتل غرفة مصطفى أمين السابقة في الدور الأول من بناية أخبار اليوم 6 شارع الصحافة، قبل أن ينتقل التوأمان إلى الطابق الأخير، الذي يطل على عشوائيات عشش الترجمان.
على الرغم من حكاية "الطابق الأخير" وأناقته وغرفة سكرتاريته التي تضم أكثر من ثلاثة، منهم الكاتبة نعم الباز، إلا أننا لم نشعر أبدا برهبة "الرئاسة" وخوف "التسلط" من المالكين للمال وسياسة التحرير.
كانت الصحافة لا تزال بطقسها "الكاجوال"؛ الصغير لا ينحني للكبير والكبير لا يبطش بالصغير، ولمن يحاول، هناك صعود مباشر لصاحبي الدار والشكوى لهما من طغيان من يريد أن يتجبر ويقل ذوقه، فيتم فورا جبر الخاطر للصغير وإعادة الكبير إلى مساره السوي. كانت كل الأبواب مفتوحة، وكانت مهمة السكرتارية فقط هي تنسيق الدخول والانصراف للزائرين كافة.
في ظل هذا الطقس الحر الكريم، الذي تربينا عليه مهنيا في دار أخبار اليوم على يد الأستاذين علي ومصطفى أمين، وتربى عليه من قبلنا الأستاذ هيكل، وتمتع به تمتعا كاملا أتاح له البروز والتألق والانتشار، كان هيكل في "آخر ساعة" يؤلف مدرسته المضادة لمنهج الأخوين الديموقراطي: الباب المغلق، الدائرة المغلقة من مجموعة الصحافيين المخصوصة، العازلة، بين هيكل وبقية "شعب" أخبار اليوم! وكنت أشعر، وأنا في تلك السن الصغيرة، أنني لست بحاجة أبدا إلى الاقتراب منه، لا أحادثه ولا أحييه ولا أبادره بابتسامة من تبحث عنده عن فرصة تعلّم مهنية. يهمسون: صديق عبد الناصر فأتعجب: لماذا لاتجعله هذه الصداقة أكثر اقترابا من الناس وأكثر تراحما مع زملائه؟
لم يلبث الأمر حتى أخذه عبد الناصر ليكون رئيسا لتحرير "الأهرام"، وصاحبها من دون حق امتلاك "شرعي"، وأصبح واضحا التوحد بين عبد الناصر \"السلطة"، وبين هيكل المعبر عن مصالح السلطة والشارح لأهدافها وقراراتها والمبتكر لمصطلحاتها. أعطاه عبد الناصر مبنى "الأهرام" الجديد، الهائل في مواجهة مبنى "أخبار اليوم" الذي تضاءل أمامه يوما بعد يوم، وانكمشت معه مدرسة صحافة "الأبواب المفتوحة"، لتنتفش مدرسة الاحساس المتضخم بالأهمية. وجثم هيكل بأهرامه ومنهجه الإستبدادي على صدر الصحافة المصرية وصحافييها. وأصبح رواد المقاهي من الشعراء والأدباء المهمشين الساخرين يتهكمون ويطلقون عليه "باستيل" الصحافة، إشارة الى سجن الباستيل الفرنسي الشهير الذي كان سقوطه أشهر انتصارات الثورة الفرنسية. اقتنى هيكل كبار الكتاب المصريين، يتباهى بهم في حضرة عبد الناصر لتنحني، مع رؤوسهم، هامات انجازاتهم السابقة قبل أن يسلسلهم باستيل هيكل ويجعلهم يسقطون في أعين أترابهم، ومن كانوا يوما من المقدرين لقدرهم.
في يوم من الأيام، 1968 أو 1969، كنت مع أصدقاء في مقهى الشاي بالهيلتون ومعنا الأديب الدكتور يوسف ادريس والكاتب لطفي الخولي وزوجته ليليان أرقش، وإذا بي أرى يوسف إدريس يكاد يبكي وهو يشكو للطفي الخولي، أن سكرتيرة هيكل (نوال المحلاوي) تعامله بفظاظة و تمنعه من مقابلته. غلى الدم في عروقي، وكنت ساعتها من أشد المقدّرين لفن يوسف إدريس وأراه قوميتي الأدبية، فانبريت أعبر بغضب شديد عن رأيي بأن ظفر أدب يوسف إدريس برقبة كل ما يكتبه هيكل، وأن الواجب أن يطرق هيكل باب يوسف إدريس طالبا التشرف بمقابلته وليس العكس. لم يسعد يوسف إدريس بطول لساني، ارتبك وخاف، تصوّروا؟، وقبل أن ينطق لطفي الخولي بكلمة كان هو المعتذر له عن تطاولي!.
هكذا أفسد هيكل من جرى تسميتهم "النخب" و"رموز" مصر، مستفيداً من اقترابه من عبد الناصر، ولو كان حضرته حقا مفكرا وهاديا وعارفا "اللحظات الفارقة" لما أضاع على عبد الناصر، وعلى مصر من ورائه، اللحظات الذهبية، والفرص الباهرة، التي أتاحتها المرحلة من 1952 حتى 1970، والتي كانت قادرة على تحقيق المعجزات لمصر والوطن العربي والشرق الاوسط، و... فلسطيييييين!
لقد توفرت لعبد الناصر عناصر نجاح وانتصار، لم تتوفر لغيره:
1ـ الاجماع العربي،
2ـ محبة الشعب له حتى درجة البلاهة، التي مازال الكثير غارقا فيها،
3ـ الانصياع لقراراته وأوامره بيقين أنه ثقة و يعني ما يقول،
4ـ مناخ التأييد العالمي لحقوق التحرر ونهضة الشعوب ضد القوى الاحتلالية الامبريالية... الخ،
ومع ذلك فإن عبد الناصر ضل وأضل، يوافقه ويدعمه الاستاذ محمد حسنين هيكل بالتبريرات والتعميات والتجهيلات، و مواصلة سفسطته بأنه الحكيم الذي ينفع عباد الله!.
لو أن حضرته حقا كان "الحكيم"، لفعل ما فعل بيدبا مع الملك الجبار دبشليم، ولقال لعبد الناصر مثلما قال بيدبا لدبشليم:"... أقمت فيما خُوّلت من المُلك وورثت من الأموال والجنود، فلم تقم في ذلك بحق ما يجب عليك، بل طغيت وبغيت وعتوت وعلوت على الرعية، وأسأت السيرة، وعظمت منك البلية، وكان الأولى بك أن.... تحسن النظر برعيتك، وتسن لهم سنن الخير الذي يبقى بعدك ذكره... فإن الجاهل المغتر من استعمل في أموره البطر والأمنية، والحازم اللبيب من ساس الملك بالمداراة والرفق"!.
لكن محمد حسنين هيكل لم يقم بواجبه وغرّته الأماني فلم يدرك، أنه مفلس ولا يملك ذرة مصداقية تخوّله لحق التّوعية أوالإدلاء بأي شهادة، ناهيك عن الإطلالة من طاقة عنوانها:"النُصح للبلاد والعباد"!"
انتهى المقال
*كاتبة وأديبة مصرية

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق