صورٌ ومشاهد من غزة بعد إعلان انتهاء العدوان - د. مصطفى يوسف اللداوي

(1)

مؤسسة غزة الإنسانية, قصة الموت وحكاية الذل


سأروي باختصارٍ وبساطةٍ سهلةٍ، في حلقاتٍ متسلسلةٍ قصيرة، أحرص فيها على بعض التفاصيل الدقيقة، والشواهد والاعترافات، والملاحظات والانتقادات، وبطريقة قانونية وحقوقية، وتأصيلية ومنهجية، قصة الموت التي حملتها مؤسسة غزة الإنسانية، وحكاية القتل اليومي الذي تنفذه ضد جياع قطاع غزة وفقرائها، وضد عامة سكانها وجميع أهلها، وكأن القتل الذي تمارسه بانتظامٍ برنامجٌ يومي تلتزم به وتحرص عليه، التزامها بعدد أكياس الطحين التي توزعها، وكأنها المهمة الحقيقية التي أنشأت من أجلها، وهناك من يحاسبها كل يومٍ على عملها وحصيلة القتلى وعدد الجرحى والمصابين.
فما من يومٍ يمر على عمل هذه المؤسسة التي تشبه الثكنة العسكرية، المدججة بكل أنواع السلاح، والمزودة بكل وسائل الحماية والدفاع، والمحاطة بعدة أسوارٍ من الأسلاك الشائكة، والمرسومة مسالكها بدقةٍ عاليةٍ، وكأنها أقفاص منظمة، ومعابر محددة المسارات ومحكومة الخطوات، إلا ويسقط على مسافةٍ بعيدةٍ منها وقريبة برصاص الجنود والقناصة، وأحياناً بقذائف الدبابات وصواريخ الطائرات، عددٌ غير قليلٍ من الفلسطينيين، جلهم من الصبية واليافعين، من طالبي المساعدات، إلى جانب عددٍ آخر من الرجال والشيوخ والنساء، عدا عن مئات الجرحى والمصابين، الذين يتعرضون لإطلاق نارٍ مباشرٍ من جنود العدو الإسرائيلي، ومن حراس المؤسسة المكلفين بالقنص والقتل، وتوصف حالة أغلب المصابين بأنها حرجة جداً، وأنها أدت إلى بتر أطراف بعضهم، وجعلت العديد منهم أصحاب عاهاتٍ دائمةٍ.
فما هي قصة هذه المؤسسة المسماة "إنسانية" التي هي أبعد ما تكون عن الإنسانية، ولا تتصف بها ولا تنتمي إليها، ولا تقوم بأي أعمالٍ إنسانية ولا تؤدي خدماتٍ خيرية، وإن وزعت بعض الدقيق والقليل من الغذاء، فهي لا تقوم بما تقوم به من الجانب الإنساني، بقدر ما تنفذ برامج أمنية وخطط سياسية لصالح استراتيجية الاحتلال الذي يخطط لها ويأمرها، ويرسم لها ويشرف معه على تنفيذها.
كيف تأسست هذه المؤسسة ومتى، وأين نطاق عملها، ومن الذي ترأسها وأشرف على إدارة أعمالها، ومن هي الجهات التي تشرف عليها وتمولها، وتلك التي تشغلها وتنفذ برامجها، وما هو موقف الأمم المتحدة والهيئات والمؤسسات الأممية الإنسانية منها، وهل تعترف بها وتشرع عملها، وتوافق على ممارساتها وتدعو لتسهيل عملها وتمويل برامجها.
أم أنها ضدها وتعارضها، وتخالف مشروعها، وتتهم إدارتها، وتدعو إلى تفكيكها واعتماد غيرها، وترى أنها لا تراعي العدالة والمساواة، ولا تتوخى النزاهة والإنصاف، ولا تتبنى المعايير الإنسانية ولا تحافظ على كرامة الفلسطينيين، وتصر على أنها صادرت حقوق المؤسسات الإنسانية والخيرية والغوثية الأخرى، المشهود لها بالخبرة والتجربة، والنزاهة والمصداقية، والتي سبق لها العمل في هذا المجال، وسجلت نجاحاتٍ لافتة، واسترعت انتباه المواطنين الفلسطينيين، وحظيت على رضاهم، واستحقت منهم الشكر والتقدير، ومن قبل الثقة والطمأنينة والأمان.
سأحاول تباعاً الدخول إلى دهاليز هذه المؤسسة المظلمة، وسبر أغوارها المبهمة، والتعرف على أسرارها، وإظهار حقيقتها والكشف عن نواياها، وإبراز هويتها وتحديد ماهيتها، إنسانية أم أمنية، خدماتية أم عملياتية، وسأترك للقارئ الكريم الحكم عليها، وأصحاب الرأي والخبرة، وصناع القرار والمؤثرين في الشأن العام، بيان موقفهم منها، وفقاً لمعطياتٍ حقيقية وبياناتٍ دقيقة، وشهاداتٍ رسمية، وصور ووثائق قطعية، يصب نفيها أو التشكيك فيها.

(2)
انتشارٌ أمني وضبطٌ ميداني

ما إن دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، وتوقفت الطائرات الإسرائيلية عن شن الغارات وقصف المدنيين الفلسطينيين، وانسحبت قوات جيش الاحتلال إلى ما بعد الخط الأصفر المتفق عليه بموجب خطة ترامب، وكفت عن الدبابات ولو نسبياً عن إطلاق قذائفها، حتى انتشرت في شوارع قطاع غزة ضمن المناطق المحددة، التي تشكل أقل بقليل من نصف مساحة قطاع غزة، أكثر من سبعة آلاف من عناصر حركة حماس، المكلفين بحفظ الأمن، وضبط الأوضاع، ومنع الاعتداءات، ومساعدة المواطنين الفلسطينيين في العودة إلى مناطقهم، وتسوية مشاكلهم، حيث كان من بين العناصر التي انتشرت، قواتٌ شرطية، وأخرى تابعة للبلديات والوزارات والدوائر الحكومية، وغيرها ممن قاموا على الفور بتسلم المهام الإدارية، وتسيير الحياة اليومية، للتيسير على المواطنين والتخفيف عنهم.
ظهر المكلفون بحفظ الأمن وضبط الأوضاع بزيهم الرسمي، وشاراتهم الدالة على وظائفهم والمميزة لمهامهم، وقد حرصوا على مظهرهم الخارجي وحركتهم الظاهرية، وانتشارهم المنسق، فبدا عليهم الترتيب والنظام، والتنسيق واتقان الأدوار، والحرص على القيام بالواجب، فالمهام الملقاة على عاتقهم وإن كانت ملحة وضرورية، إلا أنها كبيرة وخطيرة، في ظل قطاعٍ مدمرٍ مخربٍ لا شيء فيه بات صالحاً للعيش والحياة، وعشرات آلاف النازحين عن مناطقهم، والمحرومين من المأوى والسكن، وفي ظل عدوٍ خبيثٍ مكارٍ يتربص بهم، ويتمركز قريباً منهم، بدباته وآلياته، فضلاً عن مسيراته وطائراته، الأمر الذي يجعل المهمة صعبة وشاقة، وعسيرة وخطيرة.
كان لابد من التحرك السريع والفاعل، والانتشار المنضبط والواسع، في كل المناطق المتاحة من قطاع غزة، لمنع الفوضى وبسط النظام، ورفع المظالم ومنع التغول والاعتداء، فالحرب لها تداعيتها وتكشف عن بعض الظواهر والعوارض السلبية التي يجب التصدي لها وعلاجها، وقد سارعت أغلب الدوائر والمؤسسات المدنية والخدمية إلى التعميم على من بقي من العاملين فيها وسائر الموظفين للالتحاق بمراكزهم ومباشرة أعمالهم، لحاجة المواطنين الماسة إلى من يسوي أمورهم، ويذلل العقبات أمامهم، ويقدم الخدمات لهم، ويستجيب إلى بعض طلباتهم حسب القدرات والامكانيات، التي هي قليلة جداً بعد أن أعدمها الاحتلال، وجعلها نادرةً جداً بالحرمان والحصار وإغلاق المعابر ومنع دخولها إلى القطاع، مهما كانت حاجة السكان لها.
ربما تفاجأ الكثيرون مما رأوا وشاهدوا، ففرح بعضهم واستبشر، وأبدوا إعجابهم بهذا الشعب العظيم، الذي خرج من تحت الأنقاض يبحث عن الحياة، ويتطلع إلى المستقبل، ويرنو بعيونه إلى اليوم التالي بكل الأمل والثقة واليقين، وقد طوى الحزن، وعض على الجرح، وترحم على الشهداء، وتمنى الشفاء للجرحى والمصابين وانطلق يواصل الحياة، ويخوض صعابها، ويواجه تحدياتها، ويعد نفسه والعالم كله بالانتصار عليها، وإفشال كل من حاول وأدهم وقتل الحياة في نفوسهم، وحرمانهم من أرضهم ومستقبلهم في بلادهم.
وبعضهم صدم وأصابته الدهشة لما يرى، إذ كيف لهذا الشعب الذي ذاق المر على مدى عامين كاملين، لم تتوقف خلالهما طاحونة الحرب عن الدوران، وهي تفتك وتقتل، وتخرب وتدمر، وتشرد وتشتت، يفشل مشاريعهم، ويحبط خططهم، ويجبرهم على التخلي عن أحلامهم والإقلاع عن خيالاتهم، والاعتراف بإرادة هذا الشعب العظيم الذي لا يعرف الخضوع ولا اليأس أو الاستسلام.
كان الناس في قطاع غزة في حاجةٍ ماسةٍ إلى من يراقب الأسعار ويمنع الاحتكار والجشع والطمع، وينظم الأسواق وعمل البسطات، ويتابع الباعة وأصحاب المحال التجارية، ويفصل بين الناس في خلافاتهم، وكان المواطنون يشتكون من أعمال السرقة والنهب، والسطو على القوافل وسيارات المساعدات، وقد كان جيش الاحتلال يشجع هذه الظواهر ويرعى الكثير من هذه الحالات ويحرص عليها ويحمي أفرادها، لما لها من أثرٍ سيءٍ على المجتمع، ولما تحدثه من تصدع وخلافٍ، وقد كان يتعمد خلقها وتعميقها، مما استدعى محاربتها وملاحقة المتورطين فيها ومحاسبتهم ومعاقبتهم، وهو ما أرضى أغلب المواطنين وأشعرهم بالطمأنينة والأمان، إذ اكتووا من هذه العصابات وعانوا منها، وتعرضوا للنهب والسلب والقتل على أيديها.
لعل هذه الصور والمشاهد قد أسعدت الكثير من أبناء شعبنا الفلسطيني في الداخل والخارج، وأشعرتهم رغم هول ما أصابنا، وفداحة ما حل بنا، أننا شعبٌ يستحق الحياة، وأننا بخير ونستطيع مواصلة العيش واستمرار الحياة، والسير قدماً نحو المستقبل بكل عزيمةٍ واقتدار، وأملٍ ويقين، يسر الصديق والمحب والأخ والشقيق، ويغيظ العدو والكاره، والمتآمر والحاقد.

(3)

تأهيلُ الشوارع واستعادة الحياة

لم يضيِّع مواطنو قطاع غزة وقتهم، ولم يتأخَّروا ساعةً عن العودة إلى مناطقهم، وبعث الحياة في قطاعهم المدمَّر من جديد، فما إن دخل اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، وربما قبل ذلك بساعاتٍ، حتى تدافع عشرات آلاف المواطنين عبر شارع الرشيد الساحلي، للعودة إلى مدينة غزة ومناطق الشمال التي أجبِروا على النزوح منها، وتركوا بيوتهم فيها مكرهين بعد الحملة العسكرية الجديدة على مدينة غزة.
وتشير إحصاءاتٌ غير رسمية، أن أعداد العائدين إلى غزة والشمال تزيد عن نصف مليون فلسطيني، فضلاً عن مئات آلافٍ آخرين بقوا في مناطقهم ولم يخرجوا منها، وقد نجح العائدون في الوصول إلى مناطقهم، مشيًا على الأقدام، أو على العربات التي تجرُّها الحيوانات، ومن أسعفه الحظ وكان قادرا، فقد عاد بالسيارة إلى مدينة غزة وشمالها، وقد استغرقت عودتهم جميعا ساعاتٍ طويلة، بالنظر إلى المخاطر التي كانت تعترضهم، وتهديد جيش العدو باستهدافهم وإطلاق النار عليهم، وفعلا قام بقتل العشرات منهم خلال رحلة العودة.
لم ينتظر العائدون إلى بيوتهم ومناطقهم المساعدات الحكومية غير المتوفّرة، بالنظر إلى قلة الإمكانات نتيجة تدمير العدوّ لها، وكثرة المهام الموكلة بها، والتي تعجز عن القيام بها، ولا المساعدات الدولية الممنوعة بقرارٍ إسرائيلي وعجزٍ عربي ودولي، فبادروا بأنفسهم رغم الحزن الذي يكسو وجوههم، والألم الذي يدمي قلوبهم، والفقد الذي يكسر ظهورهم، إلى إزاحة الركام حول بيوتهم المدمَّرة، ونصب خيامٍ بسيطةٍ فوقها، لعلّها تسترهم عند نومهم، وتقيهم برد الشتاء القادم، وتحميهم من الأمطار المرتقبة، وتنقذهم من غول غلاء استئجار بضعة أمتارٍ من الأرض في مناطق النزوح لنصب خيامهم فيها.
تعاون الجميع في إعادة الحياة إلى البيوت المدمَّرة، وتسوية الشوارع المخرَّبة، وإزالة الركام من الطرق العامة، وتلك التي في الحواري والأحياء وبين البيوت والمنازل، لتيسير الوصول إلى مناطقهم، واشترك في تهيئة الأماكن وجمع ما بقي من حاجاتهم تحت الركام، الأطفالُ والنساء والشيوخ، إلى جانب الرجال والشبان، الذين تعهّدوا المهام الصعبة والأعباء الثقيلة، فكانوا كخلايا النحل يعملون بدأبٍ وأمل، فالعودة إلى الديار عزيزة، والسكن في البيوت كرامة، والجلوس على أطلال المنازل وبقايا الحواري والأحياء سعادة، ولعلّ الفرحة التي كست الوجوه، والدموع التي ملأت المآقي والعيون، كانت دليلا على الفرح والسعادة، رغم أن بعض سكان البيوت لن يعودوا إليها، وبعضهم ما زال مدفونا تحت ركامها.
تعالت أصواتُ بعض السكان، تحدُو الناس وتشجِّعهم، وترفع عقيرتها بالأناشيد والأهازيج، وتنادي عليهم وتتقدّمهم، وتحثُّهم على العمل لإعادة إعمار مناطقهم، وبثّ الحياة فيها رغم أنف عدوهم، الذي دمّرها وخرّبها وعاث فيها فسادا، إلا أن فرحة العودة إليها كانت أكبر، ولم يغب الأطفال عن المشهد، بل لعلهم كانوا أكثر الفرحين، وأشد المتحمِّسين، فتراهم يقفزون فوق الركام، ويعتلون ما بقي من الأسطح، ويحاولون التشبُّه بالكبار، والمساعدة في إزاحة الرُّكام، وغيرهم يحمل الماء إلى أهله والعاملين، ويحاول المساهمة وتقديم شيء، وكأنّ العمل في هذا المكان شرف، والمنافسة فيه رفعة.
لم ينس العائدون إلى مناطقهم إعمار مساجدهم، وتهيئة مكانٍ لأداء الصلاة فيه جماعةً، والعودة إلى صلاة الجمعة التي حُرموا منها طويلا، ومُنعوا من أدائها عامين كاملين إلا ما ندر وفي بعض المناطق فقط، ولعلّ الفلسطينيين يعلمون أن المساجد تكيد العدوَّ وتغيظه، ولهذا قصفها ودمَّرها، وأراد إزالتها وتعمَّد شطبها، فكانت همّ العائدين الأول ومهمّتهم المشتركة؛ فالمسجد هوية وعنوان، وهو رسالة ومنهج، وهو مدرسة وجامعة، ومنارة وهداية، ولعل سكان غزة يعيدون بناء كل المساجد التي دمرت وهدمت، ويستعيدون مسجدهم العُمري العريق والهاشمي العزيز، وأكبر مساجدهم وأشهرها.
لن يتوقف الفلسطينيون عن العمل، ولن يفقدوا الأمل، ولن يمنعهم أحدٌ من إعادة تجذرهم في أرضهم وبقائهم فيها، فهم لن يخرجوا منها، ولن يتخلوا عنها، ولن يسمحوا للعدو باقتلاعهم منها، وهي التي رووها بدمائهم، وفيها يسكن عشرات الآلاف من شهدائهم، وفيها ذكرياتهم وحصاد أعمارهم، لهذا فإنهم سيعيدون إعمارها، وسيستعيدون ألقها، وسيرسمون وحدهم غدها، وسيقرِّرون بأنفسهم مستقبلها، وسيعود قطاعهم أجمل مما كان، وسيندم عدوُّهم وسيموت من غيظه، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون.

(4)
إعدام الخونة وتصفية المتعاونين

ربما تأذى البعض من مشاهد الإعدامات التي تمت على الهواء مباشرةً في قطاع غزة، بعد أيامٍ قليلةٍ من تثبيت وقف إطلاق النار، ورأوا أن الصورة تضر بهم ولا تخدمهم، وتشوه قضيتهم وتألب المجتمع الدولي ضدهم، وتستفز العائلات وتشوه سمعتها وتسيء إليها، وأنها تستدعي صوراً مشوهة ومشاهد سيئة يكرهها العالم كله ويخشى العودة إليها، في إشارةٍ إلى الصورة النمطية لعمليات داعش والجماعات التكفيرية، وتمنوا لو أن هذه العمليات ما تمت في الشارع العام، وعلى ومرأى من العالم كله، حيث سجلتها وسائل الإعلام، وتناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي، وبدأ العدو وحلفاؤه، والمغرضون والحاقدون والكارهون، في استغلال ما حدث في تشويه صورة المقاومة الفلسطينية.
قد يكون البعض على حقٍ في موقفهم الناقد لعمليات الإعدام التي تمت في الشوارع العامة، ولعل رأيهم فيما حدث رشيدٌ ومقدر، وفيه من الحكمة والحرص ما يجعلنا نصغي إليهم ونحترمهم، ونقدر رأيهم ونستفيد من نصحهم، خاصةً أنهم ليسوا ضد قتل العملاء وتصفيتهم، ومعاقبة الخونة وإعدامهم، الذين أوغلوا كثيراً في دماء الشعب الفلسطيني، وخانوا أهلهم ووطنهم، وتعاونوا مع العدو الذي قتل شعبهم وأهلهم وجيرانهم، واتفقوا معه على تدمير قطاعهم، وتخريب وطنهم، وقبلوا أن يكونوا أداةً قذرةً في يده، يستخدمهم لتنفيذ أعمالٍ يندى لها جبين الشرفاء، ويشمئز منها العقلاء، ولا يقبل بها الوطنيون أياً كانت جنسيتهم أو دينهم، ويرفضها محبو أوطانهم أياً كانت هويتهم وقوميتهم.
ربما كان الأجدر بالمقاومة الفلسطينية أن تنفذ عمليات التصفية والإعدام ضد الخونة والعملاء بصمتٍ ودون صخبٍ، بعيداً عن الأضواء وبغير إعلانٍ وتصريحٍ، وإن كان هذا الشكل يفقدهم الرادع الزاجر الذي يتطلعون إليه ليكون درساً للآخرين يتعلمون منه، وعبرةً قاسيةً ينأون بها بأنفسهم عنها وعن السقوط في هذا المستنقع القذر الآسن، الذي سيودي حتماً بحياتهم مهما تأخر العقاب والجزاء، وسيورثهم ذلاً وهواناً وضعةً وصغاراً، وسيضع أهلهم وعائلاتهم، وعشيرتهم ومن انتمى إليهم في مواضع سيئة مهينة، ومحرجة مشينة، يصعب عليهم الخلاص منها أو العيش في ظلها.
لعل أصحاب هذا الرأي على حقٍ، فهم يحرصون على المقاومة ويخافون على قضيتهم، ويدافعون عن شعبهم ويصرون على عقاب من أساء إليهم، ويرون أن العدالة الثورية يجب أن تأخذ مجراها، وأن الأحكام العرفية والعسكرية في ظل الحرب والمعركة الجارية، يجب أن تنفذ في الساقطين والعملاء والمشبوهين، وليس هناك ثمة فسحة من الوقت لاعتقالهم والتحقيق معهم ومحاكمتهم، والمصادقة على الأحكام الصادرة بحقهم، فالعدو يحرص عليهم ويحميهم، ويحاول الدفاع عنهم ومنع سقوطهم في أيدي المقاومة، وقد استجاب لهم وقصف مناطق كثيرة لحمايتهم، وأبعد بقوة النار رجال المقاومة عنهم، وقتل العشرات منهم، لذا يكفي لقتلهم ثبوت انحيازهم للعدو، وقتالهم إلى جانبه، وإرشادهم له وتزويده بمعلوماتٍ أضرت بشعبهم والمقاومة.
أما العدو ومن معه، والإدارة الأمريكية ومن تحالف معها، والحاقدون والكارهون لشعبنا، والقاعدون والمناوئون لمقاومتنا، فلا رأي لهم ولا نصغي إليهم، ولا نعبأ بانتقادهم ولا نحترم وجهة نظرهم، فهم لا يخلصون لنا ولا يصدقون معنا، ونحن نشك في مواقفهم ولا نظن فيهم لعلمنا بهم وتجربتنا معهم إلا سوءً، فهم الذين يحبون أن تشيع الفاحشة بيننا، ويعملون على نشر الرذيلة في صفوفنا، من خلال زرع العملاء وبناء شبكات التجسس، وخلق مليشيات مأجورة وعصاباتٍ عملية، تمعن في قتل الشعب، وتثخن في دمائه.
أولئك يريدون أن يستبقوا العملاء لهم، يعملون معهم، وينوبون عنهم، ويتمون عملهم، وينفذون أوامرهم، ويكونون أداتهم القذرة في قطاعنا الحبيب، وعيونهم الوقحة في مراقبة شعبنا ومتابعة المقاومة والتجسس عليها، ولهذا فقد هالهم ما حدث لهم وأصابهم، وأزعجهم ما لحق بهم ونزل فيهم، لا حباً فيهم أو خوفاً عليهم، إذ لا قيمة لهم عنده، ولا يتمسك بهم إذا وقعت الواقعة، ولا يحرص عليهم إذا استلزم الأمر، بل لا يسمح لهم بتجاوز الحدود، وربما يطلق عليهم النار إذا رأى أن مهمتهم قد انتهت، وأن أدوارهم قد كشفت، وأصبح من المتعذر عليهم العمل بين الشعب وقريباً من المقاومة.
لا حزن على قتلهم، ولا ندم على تصفيتهم، ولا ينبغي السكوت عنهم أو الصبر عليهم، اللهم إلا من ثبتت توبته، وأثبت عملاً لا قولاً ندمه على جريمته، وكفر عنها بأفعالٍ تشهد له، وشهودٍ عدولٍ يشهدون له، وإلا فإنهم شرٌ مطلق وعدوٌ أخطر، وسرطانٌ خبيثٌ قذر، ينتشر ويتمدد، ينبغي استئصاله والخلاص منه، ولعل من سبقنا في ثوراته يؤكد صوابية قرار المقاومة، وحكمة رجالها، وعدالة أحكامها، وخطأ من رأف بهم وصبر عليهم، أو عفا عنهم وسامحهم.

(5)
 الجرحى جرحٌ عميقٌ وهَمٌ كبيرٌ

لا شيء ينزع فرحة الفلسطينيين العائدين إلى مناطقهم المدمرة، ويفسد عليهم أجواء السعادة والرضا بتوقف الحرب وانتهاء العدوان، رغم أنهم لم يجدوا بيوتهم، ولم يعرفوا مناطقهم، ولم يميزوا بين شوارعهم، إلا أنهم سعدوا بالعودة، وفرحوا بالجلوس فوق ركام بيوتهم وأطلال منازلهم، واعتبروا أنفسهم قد انتصروا على عدوهم الذي خطط لاقتلاعهم من أرضهم وطردهم منها، وقتل معالم الحياة فيها وأعدم سبل العيش لمن بقي فيها، ليجبرهم على الهجرة والخروج منها، إلا أنهم عادوا وفرحوا، ودخلوا مناطقهم وحمدوا الله عز وجل وسروا، وهيأوا فوق ركام بيوتهم أماكن تؤويهم، وجهزوا ما استطاعوا وبما توفر لديهم من أدوات بعض ما يحتاجون إليه.
ترحم الأهل العائدون إلى مناطقهم على شهدائهم ومن فقدوا في الحرب على مدى عامين، ودعوا الله عز وجل أن يتقبلهم شهداء عنده في عليين، في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدرٍ، وأن يجمعهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والشهداء الذين سبقوهم، وعددهم ربما سيتجاوز بعد تمام العد والإحصاء، واستخراج رفات المفقودين وحصر الغائبين، المائة ألف شهيدٍ، وإن كان التعداد الرسمي حتى الآن هو أقل من هذا العدد بقليل، لكن الحقيقة التي ستظهر بعد أيامٍ قليلةٍ، والأرقام التي سيتم الكشف عنها ستثبت أن هذا العدو قد أجرم كثيراً في حق الشعب الفلسطيني، وارتكب من الجرائم والموبقات ما لا يقوى ضميرٌ بشري سويٌ عاقل على احتماله.
لكن الجرح الذي لا يدمل، والحزن الذي لا ينتهي، والهم الكبير الذي يسكن النفوس ولا يفارقها، وينتزع الفرحة من القلوب ويكبتها، والقلق الذي لا يفارقهم، والخوف الشديد الذي يساورهم ويسيطر عليهم، إنما هو موضوع الجرحى والمصابين، وعددهم يفوق بكثير المائتي ألف جريحٍ، إلا أن المستعصية حالتهم، والبالغة جراحهم، والمتعذر في قطاع غزة علاجهم، والمطلوب خروجهم لتلقي العلاج في مستشفيات دول العالم، يكاد يفوق عددهم ألـــــ 25 ألف جريحٍ، إلا أن حالتهم وبسبب استمرار الحرب والحصار، ومنع إدخال الأدوية والأدوات والمستلزمات الطبية، تتفاقم سوءً يوماً بعد، وكثيرٌ منهم يستشهدون بعض طول معاناة، ويفارقون الحياة بعد صراعٍ من الألم والعجز، واستسلامٍ مفجعٍ أمام الحصار والحرمان.
لا شيء يقلق أهلنا في قطاع غزة اليوم مثل موضوع الجرحى والمصابين، فهو شغلهم الشاغل وهمهم الدائم، وهم قطاعٌ كبيرٌ من شعبنا ومن كل الفئات العمرية، ومن الجنسين، ومن المدنيين والعسكريين على السواء، فمنهم أطفال وشيوخ ونساء، وحالات الكثير منهم صعبة وقاسية، بل ومؤلمة ومحزنة، ممن فقدوا أطرافهم، وفقئت عيونهم، وتمزقت أحشاؤهم، أو كسرت ظهورهم وشلت أجسادهم فباتوا طريحي الفراش لا يتحركون، وعاجزين لا يستطيعون خدمة أنفسهم ولا يقدرون، في ظل انعدام فرص العلاج في مستشفيات القطاع المدمرة، وندرة الأدوية والعقاقير الطبية، وانقطاع الكهرباء واستمرار الغارات الحربية.
كما ستكشف الأيام القادمة عن أسماء كثيرة، وسيكون من بين الجرحى أعلامٌ كبيرةٌ، ورموز وقادة وشخصياتٌ نحبها كنا نظنهم في عداد الشهداء، وقد أعلن العدو قتلهم، ممن أصيبوا خلال العدوان وجرحوا، إلا أن معاناتهم كانت أكبر وألمهم كان أشد بسبب الإجراءات الأمنية التي اتخذت لملائمة ظروفهم، حيث نقلوا إلى بيوت غير آمنة، وتفتقر إلى كل وسائل الراحة، وتخلو من كل مستلزمات العلاج، أو أجبروا على البقاء في الأنفاق حيث الرعاية متعذرة والعلاج فيها شبه مستحيل، وحتى الآن لا تستطيع المقاومة إخراجهم من مكامنهم، أو الإعلان عم حالتهم، خشية استهداف العدو لهم وإعادة قصفهم ومحاولة قتلهم، إذ ما يزال يراقب ويتابع، ويرصد ويسجل، قبل أن يغير عليها ويصفها بأنها “صيد ثمين”.
ربما لا يستطيع أهل غزة وحدهم تجاوز هذه المحنة والانتصار على هذه الأزمة، فقدراتهم محدودة، وإمكانياتهم ضيقة، والعدو يتربص بهم ويغير عليهم، ولا يدع لهم فرصة للشفاء من جروحهم، ولهذا نرى خلف الفرحة حزناً، وفي العيون البراقة ألماً، وفي القلوب حسرةً ووجعاً، وهم وقد نسوا شهداءهم وتعالوا على أحزانهم، وعضوا بصبرٍ على جراحهم، لا يستطيعون الصبر طويلاً على معاناة الجرحى والمصابين، الذين يئن بعضهم ألماً ويشكو وجعاً، ولا يستطيع الاحتمال ضعفاً.
لهذا فإننا نهيب بكل الدول العربية والإسلامية، القريبة والبعيدة، الفقيرة والغنية، أن تفتح مستشفياتها، وأن تهيئ مراكزها الطبية لاستقبال بعض الجرحى والمصابين الذين يؤمل شفاؤهم، ويرجى علاجهم، وأن توفر لدعم اللازم والمال الضروري لاستكمال علاجهم، وتغطية تكاليف سفرهم وانتقالهم ومرافقيهم، فهذا لعمري عملٌ عظيمٌ وجهدٌ مبارك، ولا جزاء له ولا يكافئ فاعله إلا الله عز وجل، وبه نبرأ إليه عز وجل من تقصيرنا وعجزنا، ونستعيذ به سبحانه وتعالى من ضعفنا وخورنا، ويستدرك المتخاذلون بعض الدور الذي فاتهم، وينالون بعض الشرف الذي كان سيكون لهم لو أنهم سبقوا وما تأخروا، وأعطوا وما حبسوا، ودافعوا وما جبنوا، وأنفقوا وما منعوا.

«6»

خروقاتٌ إسرائيلية متعمدة وغاراتٌ عدوانيةٌ مقصودةٌ

وضعت الحرب في قطاع غزة أوزارها، وتوقف العدو الإسرائيلي مرغماً عن غاراته الجوية وقصفه المدفعي، اللهم إلا من خروقاتٍ يتعمدها، واعتداءاتٍ يقصدها، يبررها كذباً بالرد على المقاومة، بدعوى خرقها الاتفاق وعدم التزامها بالخطة، والتعامل الميداني الآلي مع التجاوزات الشعبية الفلسطينية، بحجة تجاوزهم للخط الأصفر المتفق عليه، بينما الحقيقة أنه يستهدف في كلِ مرةٍ “صيداً ثميناً”، ويقصف أهدافاً محددة جمع معلوماتٍ عنها، وعرف هويتها وحدد مكانها، فقرر استباقاً للزمن، وخوفاً من ضياع الفرصة وعدم تكرارها، قصفها وقتل الأشخاص المقصودين، رغم عدم وجود عمليات عسكرية تبرر خرقه.

كما يكذب العدو الإسرائيلي وقد خبرناه وعرفناه، تكذب الإدارة الأمريكية التي تدعي بأنه لا علم مسبق لها بالغارات الإسرائيلية، وتقول أنها تعارضها ولا توافق عليها، وترى أنها تهدد الاتفاق وتعرض “خطة ترامب” للخطر، وتدعو الحكومة الإسرائيلية للحفاظ على الهدوء، وعدم القيام بعملياتٍ تهدد استمرار وقف إطلاق النار، وتعرض خطة السلام لخطر الانهيار، إلا أن الحقيقة أنهما ينسقان معاً، ويتفقان على كل غارةٍ وعمليةٍ، فالولايات المتحدة الأمريكية التي تزود الكيان الصهيوني بكل أنواع السلاح، تعرف أين وكيف ومتى يستخدم سلاحها، وتعرف أثره وتدرس نتائجه، بما يؤكد علمها المسبق بالمخططات الإسرائيلية، ومباركتها لها، واستعدادها الدائم للدفاع عنها إن تطلب الأمر ذلك.

إزاء هذه الخروقات المتعمدة، وفي مواجهة أباطيل وأكاذيب هذا العدو الكاذب الخبيث المكار، ولتفويت الفرصة عليه وإحباط خططه وإفشال عملياته، وفضح سياسات الإدارة الأمريكية المنحازة والمتعددة المعايير، ينبغي على المقاومة الفلسطينية بكل فصائلها وكتائبها، ومجموعاتها وتشكيلاتها، أخذ كامل الحيطة والحذر قبيل وبعد دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، والالتزام التام بالضوابط الأمنية، وعدم التخلي عن الإجراءات المعتمدة في مثل هذه الظروف والأوضاع، ذلك أن العدو الإسرائيلي قد عودنا دائماً على تحديث بنك معلوماته خلال فترات وقف إطلاق النار، تمهيداً للغارة عليها وقصفها، ولعل تجاربنا السابقة معه خلال كل الحروب الكثيرة التي شنها ضدنا، تعلمنا أنه لا يغير عاداته، ولا يبدل سياساته، ويصر دوماً على انقلابه على الاتفاقيات، ونكثه للعهود، وعدم التزامه بالمواعيد.

لا ننكر شوق المقاومين إلى أهلهم، وحنينهم للاتصال بهم والحديث معهم، وسماع أصواتهم والاطمئنان عليهم، وأملهم في رؤيتهم والجلوس معهم، فقد مضى على أغلبهم الذين فاتتهم الشهادة، سنتان طويلتان قاسيتان مؤلمتان، لم يروا أهلهم، ولم يسمعوا أخبارهم، وهو الإحساس نفسه الموجود لدى أسرهم وعائلاتهم، وأطفالهم وأهل بيتهم، الذين يستغلون وقف إطلاق النار للسؤال عنهم والاطمئنان عليهم، وهو الأمر الذي من شأنه كشف أماكنهم، أو خروجهم من مكامنهم، وتحديد الدوائر الضيقة المحيطة بهم، مما يمكن العدو منهم، ويسهل وصوله إليهم.

لا ينبغي الاستخفاف والتهاون في اتباع الإجراءات الصارمة خلال المراحل الانتقالية، والفترات الفاصلة بين محطات وقف إطلاق النار، فهي مراحل خطرة وقاتلة، ولا يفجعنا المقاومون الفرحون بتوقف الحرب، بنيل العدو منهم، ووصوله إليهم، فهم وإن كانوا يتوقون إلى الشهادة ويسعون لها، ولا يهابون الموت ولا يفرون منه، ذلك أن الخسائر في الساعات الأخيرة مؤلمة وقاسية، ويصعب تحملها والصبر عليها، إذ أن الفقد بعد الأمل موجع، والخسارة شهادةً أو إصابةً ونحن نتهيأ للعودة واستعادة الحياة صعبة جداً، وهي تترك في النفس حسرةً وكمداً، وألماً ووجعاً، تفوق بكثير جداً ما أصابنا خلال الحرب وأثناء العدوان.
فاللهم احم غزة وأهلها، وصن شعبها وسكانها، وعوضهم خيراً وأكرمهم عوضاً، وأحسن نزلهم وأجزل عطاءهم، وأعدهم إلى بيوتهم ودورهم، ومناطقهم وأحيائهم، واجعلها عودة كريمة ميمونة، واحفظ اللهم مقاومتها ورجالها ولا تفجعنا في آخر الساعات بهم، واجعل بينهم وبين عدوهم سداً يمنعهم منه، ويحول دون وصوله إليهم، ومكن اللهم لهم في الأرض عزةً وثباتاً، وأرهم نصرك، ومتعهم بفضلك، وأذقهم حلاوة العودة إلى الديار، والثبات في الأرض، وسعادة إعادة الإعمار، وجمع الشمل واستعادة الأمل، وأمت اللهم العدو غيظاً بحياتهم، وكمداً بنجاتهم، كما وعدتهم والمجاهدين، وبشرتهم والصابرين “قل موتوا بغيظكم”.

«7»

استمرار التدمير الممنهج والنسف المنظم

قد تكون الحرب الطاحنة على قطاع غزة قد توقفت، وانتهت الغارات اليومية الجوية العنيفة، وتوقفت المسيرات الآلية المفخخة، وتراجعت حدة عمليات القصف المدفعي، وتوقف عداد الشهداء اليومي والجرحى، لكن العدو الإسرائيلي الذي لا زال موجوداً بكامل آلياته العسكرية خلف الخط الأصفر في 53% من مساحة قطاع غزة، ما زال يطلق النار على المواطنين الذين يقتربون من الخط الأصفر، التي هي مناطقهم التي كانوا فيها وأجبروا على الخروج منها، وفيها بيوتهم ومساكنهم أو ما تبقى منها، فيقتل بعضهم رغم أنهم لا يشكلون خطراً عليه، حيث يبدو عليهم من بعيد وإذا اقتربوا، أنهم أطفالٌ ونساءٌ وشيوخٌ وشبانٌ، مدنيون نازحون عابرون، ولا يحملون معهم غير ما استطاعوا الحفاظ عليه من فراشٍ ومواعين.
ما زال جيش العدو يصر على ارتكاب المزيد من جرائمه رغم إعلان انتهاء الحرب، والاتفاق على خطة ترامب للسلام، والتزام قوى المقاومة الفلسطينية وحركة حماس بها، ومباشرة تنفيذهم الأمين والدقيق لبنود مرحلتها الأولى، لكنه يتحجج ويخلق الأعذار ويخرق الاتفاق ولا يلتزم ببنوده، فيقصف ويطلق النيران غزيرةً على جموع الفلسطينيين فيقتل بعضهم ويصيب آخرين بجراحٍ، وكأنه يريد العودة إلى الحرب واستئناف العدوان السافر، بعد أن استعاد أسراه الأحياء وأغلب جثامين قتلاه، الذين ما كان ليستعيدهم بالقوة لولا الاتفاق، وبالحرب لولا المفاوضات، ومع ذلك فهو يدعي أنه حقق أهداف الحرب التي أعلن عنها.
لكن الجريمة الكبرى التي ما زال العدو يمارسها بصمتٍ وبعيداً عن الأضواء، فهي تلك التي ينفذها في المناطق التي يسيطر عليها شرق القطاع وجنوبه، حيث تقوم وحداته العسكرية الهندسية وغيرها، بعمليات تدميرٍ ممنهجٍ ومنظم لما بقي من مباني ومنشآت الفلسطينيين في المنطقة، حيث تعمل جرافاته الضخمة فيها ليل نهارٍ، تهدم وتجرف، وتقوم وحداته الهندسية بتفخيخ المباني وتفجيرها، ويحتفي الجنود بمشاهد التفجير والتدمير، ويتباهون بنقل صورها ومظاهر ابتهاجهم بها، ويرسلون مقاطع الفيديو التي توثق جرائمهم إلى عائلاتهم وأصدقائهم، وإلى بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية التي تنشرها وتعلق عليها.
لا يكتفي العدو الإسرائيلي بتكليف جيشه الهمجي بتدمير ما بقي من المساكن والبيوت والمساجد والمدارس والأسواق والمحال التجارية وغيرها، وإنما يسمح للمستوطنين بممارسة هواياتهم المريضة ورغباتهم الخبيثة والمساهمة بأنفسهم في عمليات النسف والتدمير، والهدم والتجريف، فضلاً عن شركاتٍ أخرى، إسرائيلية ودولية، تمتلك معداتٍ وآلياتٍ ضخمة، تعاقدت مع جيش العدو على القيام بأوسع عملية تدمير وتخريب في مناطق القطاع التي يسيطر عليها، ولعل الصور الفضائية التي تلتقط على مدى الساعة لهذه المناطق تبين بوضوحٍ حجم التغيير اليومي الحادث فيها، نتيجة عمليات النسف والتدمير والجرف والهدم والتخريب.
ربما كانت مدينتا رفح وخانيونس وبلداتهما الشرقية، وأحياء الشجاعية وتل المنطار والصبرة والزيتون ومناطق الشريط الشرقي كلها على امتداد الخط الفاصل، هي من أكثر المناطق التي تتعرض لعمليات النسف والتدمير الممنهج، وكأن العدو يسابق الزمن ويتحدى المجتمع الدولي قبل استحقاقات المرحلة الثانية، التي ستفرض عليه الانسحاب من كامل أرجاء قطاع غزة، فأخذ يعمل بجنونٍ على تدمير كل مظاهر الحياة في المنطقة، ليجعل العودة إليها صعبة والحياة فيها مستحيلة، خاصةً في موسم الشتاء الذي بدأت تباشيره، وأخذت نذره تحذر من صعوبة الحياة في المنطقة، التي أصبح أغلبها ركام مبانٍ، وتلال رمالٍ، وشوارع محفرة، وأكوام قمامة ونفاياتٍ مبعثرة ومنتشرة في كل مكان.
أو كأنه ينفذ اتفاقاً سرياً ربما لا نعلمه، بينه وبين الإدارة الأمريكية، وقد يكون هذا هو الأرجح، يخلي فيها المنطقة التي يسيطر عليها خلف الخط الأصفر من السكان، ويدمر ما بقي فيها من مبانٍ، تمهيداً للبدء في مشاريع إعمار وإسكان منظمة، تخضع لقوانين وضوابط أمنية صارمة، يشرف عليها الكيان وحلفاؤه، وتنفذها القوات الدولية المنوي انتشارها في القطاع، وخلال فترة إعادة الإعمار فيها يحشر المواطنون في المناطق الأخرى قبل انتقالهم إلى المناطق المعمرة، بالشروط الأمنية الجديدة، التي تراعي المصالح الإسرائيلية، وتجور كثيراً على الفلسطينيين وحقوقهم، وتقيد حريتهم، وتحرمهم من حقهم في الحياة الكريمة في أرضهم وفوق تراب وطنهم.

(8)
 نزع سلاح المجموعات المسلحة وتفكيك بنيتها العسكرية

يشعر المواطنون الفلسطينيون في قطاع غزة بقلقٍ جديدٍ من المليشيات “الفلسطينية” المسلحة التي شكلتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وزودتها بالأسلحة والمعدات والآليات وأدوات القتال المختلفة، ووفرت لها المال والمؤن والمساعدات، وأمنت مناطقها وجهزتها بوسائل اتصالٍ حديثةٍ وآمنةٍ، وشكلت حمايةً لها ولعناصرها ومقراتها، وسهلت حركتها وانتقالها وسياراتها وعرباتها، ونظمت لها دورات عسكرية وأخرى أمنية، وأجرت معها مناوراتٍ مختلفة، وأنشأت لها غرف عملياتٍ ومراكز تنسيقٍ واتصالٍ مع الضباط المكلفين بمتابعتها والمسؤولين عن عملها وتوجيهها، وسهلت انتقال بعض مسؤوليها وسفرهم، إذ شوهد بعض قادتها خارج فلسطين المحتلة، إلى جانب سياراتٍ تحمل لوحاتٍ “أجنبية”.
ومكنت بعضهم من نشر مقالاتٍ وعرض تصوراتهم عن مستقبل قطاع غزة، في كبريات الصحف والمجلات الدولية، والظهور على وسائل الإعلام والحديث عن أدوارهم وعرض مهامهم بكل خسةٍ ونذالةٍ، وضِعةٍ ووقاحة، في مواجهة عناصر حركة حماس والقوى الفلسطينية الأخرى المقاتلة، والاعتراف بالمهام التي نفذوها، والجرائم التي ارتكبوها، والأهداف التي يتطلعون إليها ويعملون على تنفيذها، ولا يتورعون عن الظهور إلى جانب العربات العسكرية والدبابات الإسرائيلية.
لا يشعر قادة هذه المجموعات التي تشبه مليشيا العميل اللبناني أنطوان لحد، قائد جيش لبنان الجنوبي الذي أنشأه العميل سعد حداد، بأنهم خونة وعملاء، وأنهم يعملون جواسيس ضد شعبهم، وأدواتٍ قذرة لدى عدوهم، الذي لا تعنيه حياتهم، ولا يهتم لمصيرهم، ولا يقلق على مستقبلهم إذا تم الاتفاق وثبت وقف إطلاق النار، ومضت خطة السلام المطروحة، فهو أول من سيتخلى عنهم ويتركهم لمصيرهم المحتوم، بل قد يقوم بقتلهم وتصفيتهم والتخلص منهم، لأنهم سيكونون عبئاً عليه دون جدوى، وسيكلفونه الكثير دون طائل لهم أو حاجة ترتجى منهم، بعد أن فضحت أدوارهم، وكشفت شخصياتهم، وعرفت أسماؤهم وعائلاتهم ومناطق إقامتهم وعملهم.
لا يدعم الاحتلال الإسرائيلي هذه المليشيات القذرة وحدة، بل تدعمها جهاتٌ أخرى تتعاون معه، وتتفق وإياه على الهدف والغاية من تشكيلها، وتحاول هذه الجهات المشبوهة الدفاع عنها وتحسين صورتها، وتلميع قادتها، وتلطيف مهامها، وتستخدم لغايتها الخبيثة أقلاماً مأجورةً وأبواقاً أجيرة، ومنصاتٍ قذرة، ولعلها جهاتٌ معروفة لدى الشارع الفلسطيني، إذ سبق لها القيام بمهام تشبهها، ورعت جهاتٍ تعمل عملها، فخربت وأفسدت وقتلت ودمرت، وأظن أنها تراهن على هذه المجموعات، وتتأمل في أن يكون لها دورٌ في مستقبل قطاع غزة، يمكنها من بسط نفوذها، ونشر مفاهيمها، وتحقيق أهدافها، ولو أنها كانت ضد مصالح الشعب وتتعارض مع آماله وتطلعاته.
باتت هذه المجموعات المأجورة المدسوسة، العميلة الخائنة القذرة، تعمل في جنوب قطاع غزة وشماله، وتنتشر في المناطق الذي يتواجد فيها جيش الاحتلال خلف الخط الأصفر، وتستفيد من الحماية التي فرضها على المنطقة، لكنها تخشى مغادرتها والخروج منها، ولا تأمن على حياتها وأمنها خارجها، إذ تتربص بها المقاومة ويلاحقها رجالها، ويدل المواطنون عليهم ويبلغون المقاومة عنهم، في الوقت الذي تلاحقهم عائلاتهم وعشائرهم، التي أعلنت البراءة منهم والتخلي عنهم، وهي تتوعدهم بالقتل والتصفية، وقد أباحت سفك دمائهم والقضاء عليهم، إذ قاموا بعملٍ عارٍ أضر بسمعة عائلاتهم ولطخ شرف عشائرهم، وشوه الصفحات الناصعة لبعضهم، ممن كان لهم فضلٌ وسابقة، ودور رائد في المقاومة.
أمام خطر هذه المجموعات وقذارة أدوارها، وقطعاً للطريق على مستقبل عملهم وتشريع وجودهم، فإنه ينبغي على المفاوضين الفلسطينيين في الدوحة والقاهرة، أن يفرضوا على الطاولة وجوب تفكيكها وتجريدها من سلاحها، وإخراجها عن القانون واعتبارها مجموعاتٍ مارقة ومليشياتٍ خائنةً، وعدم الرأفة بها والتهاون في أمرها، فوجودها خطر يضر بمصالح الشعب الفلسطيني، إذ ستبقى أدوات للاحتلال، تنفذ سياسته، وتؤدي المهام القذرة نيابةً عنه، وتواصل قتل واستهداف قادة ورموز المقاومة الفلسطينية.
يجب أن يكون ملف هذه المليشيات ملفاً أساسياً على طاولة المفاوضات، فهم جزء من الاحتلال وتبع له، فإما أن يتخلوا عنهم وتفكك المجموعات ويسلم قادتها وعناصرها أنفسهم للعدالة الثورية الفلسطينية التي تنظر في أمرهم، وتحكم في جرائمهم، وتنفذ في حقهم الأحكام التي يستحقون، وإما أن يسحبها جيش الاحتلال مع فلول قواته، ويجرها مع عرباته، ويفرد لها حظائر تليق بها بعيداً عن المواطنين الفلسطينيين ومناطقهم، وحذارٌ على المقاومة أن تتهاون معهم، أو تستخف بهم وتغض الطرف عنهم، فهؤلاء سرطانٌ لا علاج له ولا شفاء منه إلا بالاستئصال، ولا نجاة منه إلا بالقضاء عليه، وإلا انتشر واستفحل، وسيطر وتمكن، وفتك وقتل.

(9) 
بن غفير يلاحق الأسرى المحررين في منفاهم


كأنهم لم يتحرروا من السجون والمعتقلات الإسرائيلية، التي خرجوا منها بموجب صفقة تبادل الأسرى الأخيرة مع المقاومة الفلسطينية، التي قضت بالإفراج عن مائتين وخمسين معتقلاً من المحكومين بالمؤبد لمرةٍ واحدةٍ أو أكثر، إلى جانب مئاتٍ آخرين من معتقلي قطاع غزة بعد السابع من أكتوبر، إلا أن سلطات الاحتلال التي قتلت المئات من الأسرى وأعدمتهم، خلال جلسات التحقيق وأثناء التعذيب، وأثناء عمليات النقل والترحيل، لم تلتزم بالمعايير المتفق عليها بموجب خطة السلام، ولم تنفذ الالتزامات التي وافقت عليها وتعهدت بها، بل تلاعبت بالمعايير، وعدلت في القوائم، واعترضت على أسماء، واستبدلت بعضها وفق هواها، ورفضت الإفراج عن الأسرى الكبار والقادة والرموز، وامتنعت عن تقديم كشوفٍ بأسماء المعتقلين لديها، حيث قتلت الكثير منهم وما زالت تقتل، ورفضت تسليم جثامين الشهداء واحتفظت بها.
فرح الأسرى الفلسطينيون المحررون بخروجهم من السجون والمعتقلات الإسرائيلية، واستبشروا خيراً بالحرية التي رأوا شمسها وتنسموا عبيرها، ومنَّوا أنفسهم بأيامٍ سعيدة وليالٍ جميلة يعوضون بها ما فاتهم في سنوات اعتقالهم المريرة الطويلة، فلا قيود ولا أغلال، ولا سلاسل ولا أكياس، علهم ينسون فيما بقي من عمرهم مرارة السجن وقسوة السجان، وعتمة الزنازين، وخشونة جدرانها وسماكة أبوابها، ورداءة طعامها وسوء أحوالها، وقد ظنوا أنهم أصبحوا بمأمنٍ من السجان الإسرائيلي الذي كان يسومهم سوء العذاب، ويمارس ضدهم شتى أنواع الضرب والقهر والقمع والتعذيب، وأنهم تخلصوا وإلى الأبد من قوانين السجون والمعتقلات القاسية، فلم يعد لسلطات الاحتلال وجلاوزة السجون والمعتقلات عليهم أي سلطة أو سطوة.
وكانت الصفقة قد قضت بإبعاد عشرات الأسرى المحررين خارج حدود فلسطين، ومنعت خروجهم إلى الضفة الغربية، ورفضت إقامتهم في قطاع غزة، ما اضطرهم للقبول بالنفي والإبعاد، فظنوا أنفسهم أنهم أصبحوا في كنفٍ أهلٍ ورعاية إخوانٍ، وأنهم في أماكن إقامتهم الجديدة في مأمنٍ وسلامٍ، لن يضاموا ولن يظلموا، ولن تصل إليهم يد بن غفير ولن تطالهم سياساته التي أوغل فيها وتطرف، وقسى فيها وتشدد، ولن تتمكن سلطات الاحتلال الإسرائيلي من التغول عليهم والتدخل في شؤونهم، وستنسى وقد خرجوا من سجونها أمرهم، ولن تطالب بتقييد حريتهم والضغط عليهم، وحجزهم في غيتوات مغلقةٍ، يخضعون فيها للرقابة والمتابعة، والمحاسبة والسؤال، ولا يسمح بزيارتهم ولا يؤذن لهم بالخروج بأنفسهم.
اغتاظ العدو الإسرائيلي من إقامة الأسرى المحررين في فندقٍ في القاهرة، ووصف إقامتهم فيه بأنها مرفهة، وأنها سبع نجوم، فطالب بإخراجهم منه، ومنع استضافتهم فيه وفي غيره من الفنادق المصرية، وإخضاعهم للرقابة الأمنية المشددة، وكان قد مارس ضغوطه على الكثير من دول العالم للامتناع عن استضافتهم، وعدم السماح لهم بالإقامة في بلادهم، ومن قبل منع عائلاتهم وأسرهم في الضفة الغربية من السفر لمصر ولقاء أبنائهم في القاهرة، وهم الذين لم يروهم منذ سنواتٍ طويلة، حيث لا يسمح العدو بزيارتهم، وكأن الذي يصدر الأوامر هو نفسه المتطرف الصهيوني إيتمار بن غفير، الذي جعل همه الأول في وزارة الأمن القومي التضييق على الأسرى والمعتقلين، وسحب الامتيازات منهم، وحرمانهم من أبسط حقوقهم، ومنعهم من الفورة والتعرض للشمس، ومصادرة كتبهم وأوراقهم وأقلامهم، وغير ذلك من الإجراءات التي تشدد فيها ونفذها.
لعل هؤلاء الأسرى الأحرار، الأبطال الشجعان، عمالقة الصبر ورجال الأمة الأفذاذ، الذين قضوا عشرات السنوات من زهرة أعمارهم في السجون والمعتقلات، وضحوا بحياتهم في سبيل قضيتهم ومن أجل شعبهم، وتخلوا عن أطفالهم ونسائهم، وعائلاتهم وأسرهم، وتركوا الدنيا ومتع الحياة خلف ظهورهم، ورفعوا بصمودهم وثباتهم وشموخهم وكبريائهم رأس الأمة عالياً، لعلهم يستحقون منا كل وفاءٍ وتقديرٍ، وعرفانٍ وإكرامٍ، وأن نرفعهم على أكفنا، ونتسابق في خدمتهم والاحتفاء بهم، وحسن استقبالهم وكريم معاملتهم.
وليعلم العالم كله أننا أمة حرةً، نكرم أبناءنا ونقدر أسرانا، ولا نقبل بإهانتهم، ولا نعطي العدو فرصةً للتطاول عليهم، ولا نسكت عمن يسيء إليهم، ولا نحترم من يوصي بالتضييق عليهم، ولا نسمح لأحدٍ أياً كان بالتدخل في شؤونهم، والاعتراض على أوضاعهم، أو توجيه النقد لمن يستضيفهم أو يرغب في استقبالهم، فكرامة هؤلاء الأسرى من كرامتنا، وشرفهم هو شرفنا، وما كانوا أعزاء فإننا أعزاء، وما كانوا مكرمين فإننا كرماء.


خَلف الخط الأصفر أسرارٌ ومخططاتٌ

(10)

شيءٌ ما غريبٌ مريبٌ مشبوهٌ وغير عادي يجري على الأرض هناك في المنطقة التي تقع خلف الخط الأصفر على امتداد الجانب الشرقي لقطاع غزة، التي تشكل نسبة 53% من مساحته، حيث يتواجد وفق خطة ترامب للسلام في مرحلتها الأولى، جيش العدو الإسرائيلي وينشط، إلى جانب مجموعات العملاء التي تنسق معه عملياتها في المنطقة وخارجها.
حصر العدو قواته في هذه المنطقة، وحشد فيها دباباته وآلياته العسكرية وجرافاته الضخمة، التي تعمل كافة فرقها العسكرية البرية، وخاصةً الفرق الهندسة وقطاع المتفجرات، وفرق النخبة والوحدات المختصة، ليل نهار في المنطقة وفق خطط معدة مسبقاً، وخرائط مفصلة توضح مناطق العمل، ومربعات التدمير والتفجير، والمباني والمنشآت المستهدفة بالنسف والإزالة.
ينفذ جيش العدو عملية تدمير شامل لكل ما هو فوق الأرض وتحت الأرض، ويعيد تسوية المباني بالتراب، وينهي كل مظاهر البناء والعمارة أياً كانت، صغيرة أو كبيرة، سكنية أو خدمية، وينفذ مخططاته بموجب خرائط معدة ومدروسة، وعمليات مسح جوي وتصوير تقوم بها الطائرات المسيرة، التي تنقل عمليات التدمير، وتصور المباني الأخرى المرشحة للنسف والتدمير، ولعل صور الأقمار الاصطناعية تظهر حجم التغيير اليومي على سطع الأرض.
ما الذي يريده العدو الإسرائيلي والإدارة الأمريكية من منطقة ما قبل الخط الأصفر، وماذا يخططون لها ولماذا يدمرون كل شيء، ولماذا كل هذه التجهيزات والآليات والمعدات، لماذا يدمرون المدمر، ويخربون المخرب، وينسفون ما قد نسفوا من قبل، أفلم يكتفوا بما دمروه على مدى عامين كاملين، إذ لم يبق مكان لم تطاله غاراتهم الجوية وقصفهم المدفعي، لكن الأمر يتعدى التدمير الشكلي، ويتجاوزه إلى المخططات والنوايا، والتصورات والأحلام، بما يؤكد أن وراء هذه المخططات مشروعٌ ما، وتصور لمستقبلٍ آخر لقطاع غزة وسكانه.
لكن هل أن الإدارة الأمريكية منخرطة في هذه المخططات وشريكة فيها، وتتم بعملها وموافقتها، وبما يتناسب مع الخطط التي أعدتها، والتصورات التي تنوي تنفيذها، وتأتي ضمن أحلام ترامب التي تحدث عنها سابقاً، وتنسجم معها وتتوافق، وتتكامل معها وتتساوق.
أم هي عمليات إسرائيلية محضة في سباقٍ محمومٍ مع الزمن لتدمير كل ما تبقى في المنطقة من مبانٍ وأنفاق وبنى تحتية، وخاصة أنفاق المقاومة الاستراتيجية ومقراتها القيادية، لئلا تكون قادرة بعد تمام الانسحاب من المنطقة، على إعادة تأهيل أنفاقها، وتجهيز مقراتها، وترميم قوتها، وتعويض ترسانتها من مختلف الأسلحة.
من الواضح جداً أن ما يجري إنما هو بالتنسيق بين الطرفين، وأن الإدارة الأمريكية تنوي مع حكومة الكيان الإسرائيلي، تأكيد تقسيم قطاع غزة إلى مناطق ثلاث، الأولى غرب القطاع ويقيم فيها أكثر من 95% من سكان قطاع غزة، وتمثل نسبة 47% من مساحة القطاع، وأخرى تمثل الشريط الفاصل، وهو بعمق يتراوح بين 500-1000 متر على امتداد الحدود الشرقية والشمالية لقطاع غزة، ولن يسمح فيها بأي وجود فلسطيني، وتكون بمثابة منطقة عازلة، والقسم الثالث وهو الأهم، الذي يقع قبل الخط الأصفر، ويمثل ما نسبته 53% من مساحة القطاع، ويقيم فيه بضعة آلاف من المواطنين الفلسطينيين، إلى جانب العصابات المسلكة التي أنشأها الكيان ويشرف عليها.
تتطلع الإدارة الأمريكية مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى إعادة إعمار المنطقة الثالثة، وفق شروط ومواصفات خاصة، تكون مؤهلة لإقامة مئات آلاف المواطنين الفلسطينيين، بعد شق الطرق فيها وتعبيدها، وبناء شبكة خدمات مدنية وبنى تحتية ومجاري صحية، ومستشفيات ومدارس وأسواق، وربطها بشبكة الكهرباء الإسرائيلية وربما المصرية، على أن ينتقل إليها من القسم الأول من شاء من المواطنين الفلسطينيين، الذين سيجدون أنه قد سبقهم إليها أنظمة محكمة وقوانين خاصة، وأجهزة أمنية وشرطية ومؤسسات إدارة مدنية مدربة ومؤهلة، يشرف عليها مجلس السلام، الذي ينوي ترامب ترأسه، الذي سيقوم بتمويل مشاريعها وتنفيذ خططها، والإشراف على إدارة شؤونها وخدمة سكانها، وستكون هذه المنطقة منزوعة السلاح، وخالية من كل مظاهر العنف ووسائل القوة.
أما المنطقة الأولى التي تقع خلف الخط الأصفر، فستبقى محرومة من كل شيء، فلا خدمات ولا مساعدات ولا مشاريع، وسيترك فيها الفلسطينيون لقدرهم ومصيرهم، فإما أن يقبلوا بالهجرة واللجوء الذي سييسر لهم، وسترحب دولٌ عدة باستقبالهم، وستفتح أبوابها لهم، أو أن ينتقلوا إلى القسم الآخر، ويخضعوا لشروطه، وينزلوا عند أحكامه، وبذا تكون غزة الجديدة قد تشكلت وفق تصوراتهم، ونشأت تحت عيونهم وبرعايتهم، بما لا يجعلها منطقة خطرة، وبما يؤكد عدم جنوح سكانها إلى أي شكلٍ من أشكال المقاومة.
هذا المشروع وهذه المخططات ليست الأولى التي يعلن العدو الإسرائيلي والإدارة الأمريكية الراعية، والتي يجري العمل بها والترويج لها، بدءً من الميناء الأمريكي العائم، الذي أنشئ لتسهيل الهجرة، وصولاً إلى أحلام الطرد والتهجير، فضلاً عن الانتصار المطلق، والتفكيك الكامل، والاستسلام ونزع السلاح، وقتل القادة وترحيل المقاتلين، فكما فشلت كل المشاريع السابقة، وأجهضت تلك التي لم يعلن عنها، فإن هذا المشروع سيسقط وسيفشل، وسيجد العدو وحلفاؤه، أنفسهم مضطرين ومجبرين، ومكرهين رغم إرادتهم، على الخضوع لإرادة الشعب، والاعتراف بحقوقه.

(11)

 المقاومون داخل الخط الأصفر صمودٌ وبقاءٌ

لا أحد يعرف عنهم شيء، أين هم وكم عددهم، وكيف يقاتلون ومتى يخرجون، وماذا يأكلون وكيف ينامون، أو هل عندهم ما يأكلونه وما يشربونه، أم أنهم حرموا الماء والغذاء كما الدواء والإيواء، فباتوا يخرجون من مواقعهم للحصول على ما يقيم أودهم ويبقي على حياتهم، كما لا أحد يعرف من يقودهم وكيف ينسقون عملياتهم، وما إذا كانوا يتواصلون فيما بينهم وينسقون جهودهم، ومن يوجههم وكيف تصل إليهم المعلومات، وما إذا كانوا يعلمون أن الاتفاق قد تم وأن خطة ترامب قد دخلت حيز التنفيذ، وأن قطاع غزة قد تم تقسيمه إلى قسمين، داخل الخط الأصفر وحتى الحدود الشرقية للقطاع، وخلف الخط الأصفر وحتى البحر غرباً.
إنها مجموعات من عناصر المقاومة الفلسطينية، التابعة لمختلف القوى الفلسطينية المقاتلة، التي كانت عشية التاسع من أكتوبر/تشرين أول تقاتل داخل مدينة رفح وفي مناطق مختلفة من مدينة خانيونس، وترابط على خطوط النار، وتؤدي الواجب المكلفة به قتالاً ورصداً وملاحقة، قبل أن تسلخها خطة ترامب للسلام، وتفصلها عن غرب القطاع، وتصنفها منطقةً صفراء، يسيطر عليها جيش الاحتلال الإسرائيلي وينشط فيها وحده مع مجموعات العملاء التي أنشأها وكونها وأشرف عليها، وبات يوجهها ويطلب منها تنفيذ عملياتٍ قذرة ضد الشعب الفلسطيني.
حق لهذه المجموعات أن تظن أن الحرب ما زالت قائمة، وأن وقف إطلاق النار لم يدخل حيز التنفيذ، فهي ترى من مكامنها بين المباني المدمرة، ومن أنفاقها السرية تحت الأرض، عربات وآليات ودبابات وجرافات جيش الاحتلال تجوب مناطقهم، وأصوات دوي الصواريخ وهدير الدبابات وأزيز المسيرات تصم آذانهم، وترى أن عمليات جيش العدو في المناطق التي يتواجدون فيها لم تتوقف بعد، فهو يفجر المباني، وينسف البيوت، ويجرف الشوارع، ولا يتوقف عن عمليات التدمير المنظمة المروعة، ما جعل جميع المقاومين في هذه المناطق يظنون أن الحرب ما زالت مستمرة، وأن جيش الاحتلال مازال باقياً، يقتل ويدمر ويغير، وأنه ينبغي مقاومته وقتاله، والقيام بعملياتٍ عسكرية ضده، لصده وحَدِه، ومنعه من التغول والإيغال في مناطقهم.
ولعل المقاتلين الفلسطينيين داخل الخط الأصفر ليسوا نسيج وحدهم، وليسوا أول من تأخر علمهم بانتهاء الحرب وتوقف القتال، فقد كشفت وسائل إعلامٍ دولية، قبل سنواتٍ قليلة، أن مقاتلين يابانيين ما زالوا في الغابات والأحراج، يحملون بنادقهم، ويرابطون في مناطقهم، ظناً منهم أن الحرب العالمية الثانية ما زالت مستمرة، وأن عمليات القتال لم تتوقف، فلهذا لم يلقوا سلاحهم، ولم يتخلوا عن مهامهم، ولا يقتصر الأمر على المقاتلين اليابانيين فقط، بل تكرر الأمر نفسه ولو بدرجةٍ أقل في فيتنام والجزائر وغيرهما.
من المؤكد أن هذه المجموعات قد فقدت اتصالها بقيادة المقاومة المركزية، وأنها لم تعد تتلقى الأوامر منها، وبهذا أصبحت مضطرة للتعامل مع الواقع الميداني وفق ما هو، وحسب الأحداث الجارية، وتقرر وتنفذ ما تراه مناسباً، وهو الأمر الذي يفسر قيامها بتنفيذ عدة عملياتٍ ضد جيش العدو، ما أسفر عن مقتل وإصابة عددٍ من جنوده، وما جعله يعتبر هذه العملية خرقاً للاتفاق، ومبرراً له لتنفيذ غاراتٍ جويةٍ ومدفعية عنيفة ضد ما أسماه بأهداف تابعة لحركة حماس، بينما كانت غاراته الحقيقية هي ضد عامة المواطنين الفلسطينيين.
قد لا نستطيع أن ننفي قطعاً أن هذه المجموعات لم تسمع بدخول الاتفاق حيز التنفيذ، فقد تكون قد علمت به واستعدت له، إذ لديها بلا شك أجهزة مختلفة تتيح لها سماع الأخبار ومتابعة الأحداث، لكن من المؤكد أن هذه المجموعات قد فقدت الطرق الآمنة التي تسطيع أن تسلكها للخروج من المناطق التي تتواجد فيها، ولا يوجد جهات دولية أو منظمات تنسق لخروجهم وتضمن لدى العدو سلامتهم، وهي لا تثق بالعدو أبداً ولا تأمن مكره، ولا تصدق وعده، في الوقت نفسه فقد فقدت القدرة على التنسيق مع قيادتها، وفق البيان الذي أصدرته الحركة وأكدت فيه انقطاع اتصالها بمجموعاتها العاملة داخل الخط الأصفر.
أما اللافت في الأمر، والمثير للدهشة والإعجاب، فهو أن هذه المجموعات المقاتلة، رغم قسوة الظروف التي تعيشها، وضيق الأماكن التي تتواجد فيها، ونشاط جيش العدو المسعور في المنطقة، وقلة الإمكانيات ونقص الطعام والشراب وربما انعدامه، فإنها ما زالت تقاتل بشراسة، وتقاوم ببسالة، وتخطط بدقة، وتهاجم بقوة، وتصل إلى أهدافها بإصرارٍ وعنادٍ، وتحقق في صفوف جيش العدو إصاباتٍ مؤكدة، الذي يعجز رغم قدراته عن الوصول إليهم، والسيطرة عليهم، فلا يجد إلا أن يفاوضهم عبر وسطاء، ويقبل بعمليات تنسيق تضمن خروجهم الآمن، وتوقف عملياتهم ضد فلول جنوده وأرتال آلياته، فألف تحية إلى هؤلاء الرجال الأماجد المقاومين الأبطال، المقاتلين الشجعان، الصِيد الكُماة الأباة، أبناء هذا الشعب الفلسطيني المقاوم العظيم، الصابر المحتسب العنيد.


(12) 
رادعٌ وحسمٌ مثالان في غزة على الحسم والأمن


إلى جانب الحرب القاسية الضروس التي شنها العدو الإسرائيلي على قطاع غزة على مدى عامين كاملين، لم يتوقف خلالهما إلا لأيامٍ قليلةٍ يجدد فيها بنك أهدافه، ويحدث معلوماته، ويتوثق من إحداثياته، ويحدد أهدافه الجديدة، ويستبدل قواته، ويحرك قطاعاته، ويبدل مناطقه، ويحصن ثكناته ويحمي تجمعاته، قبل أن يستأنف حربه الهمجية، وغاراته الوحشية، وعدوانه المدمر، على مدى عامين طويلين قاسيين مضنيين مؤلمين متعبين، مارس خلالهما كل أشكال القتل والإبادة، وارتكب أفظع المجازر وأسوأ المذابح التي شهدها التاريخ الحديث، وبطش إلى أبعد مدى بالبشر والحجر والشجر، في محاولةٍ منه مقصودة لإبادة سكان قطاع غزة، أو طردهم وتهجيرهم وإخراجهم من قطاعهم الحبيب إلى شتات الأرض البعيد.
إلى جانب ذلك كانت هناك أنواعٌ أخرى من الحروب والفتن، والأدواء والأمراض، والظواهر السلبية والسلوكيات السيئة، والمجموعات المريضة والنفوس الخبيثة، التي حرص العدو على زراعتها وتنشئتها، ورعايتها ومتابعتها، وتعميقها والتأكيد عليها، ليضمن تفكك المجتمع الفلسطيني وتفسخه، واضطرابه وانقلابه على أخلاقه وقيمه، وخلق الفتنة بين صفوفه، ونشر الرذيلة بين أبنائه، وحرمانهم من الأمن والأمان، والطمأنينة والسلام المجتمعي، الذي كان يميزهم بتضامنهم وتكافلهم، وتعاونهم واجتماعهم، وتوافقهم واتحادهم.
من هذه المفاسد التي رعاها العدو وما زال في قطاع غزة، وحرص على تكريسها وتعميق جذورها، إلى جانب المجموعات المسلحة العميلة، التي تعمل عنده أجيرة، وتنفذ له مهام قذرة وضيعة، كان هناك جشع بعض التجار الذين رفعوا الأسعار واحتكروا المواد التموينية والسلع الغذائية، ومكاتب تحويل الأموال التي نشطت في كل مناطق القطاع، وخلقت جيشاً من السماسرة والعاملين، الذين يسرقون أموال المواطنين بالعمولات الكبيرة التي يفرضونها، والأموال البالية التي يسلمونها، والرديئة التي يفرضونها على المستفيدين من التحويلات بعد خصم نسبٍ كبيرةٍ منها.

إلى جانب عصابات السرقة والنهب، العامة والمنظمة، الذين يسرقون البيوت والأثاث، ويعتدون على الحقوق والممتلكات، وينهبون المؤن والمساعدات، ويعتدون على القوافل والشاحنات، ويسرقون ما فيها ويحرمون المواطنين وأصحاب الحقوق منها، ثم يقومون بعرضها في الأسواق بالأسعار التي يريدون، والشروط التي يفرضون، فيجبون من جيوب الفقراء والمعدمين آخر ما تبقى فيها، وما فيها قليل جداً مما يصلهم من حوالاتٍ منقوصةٍ، ومساعداتٍ منهوبةٍ.

لهذا وأمام هذه الظواهر السلبية التي باتت تهدد أمن وسلامة المجتمع الغزي المكلوم، والتي يرفضها بكليته، ويعارضها بأغلبيته، ويستغرب وجودها في مجتمعه وفي بيئته، وبين أهله وأبنائه، إذ تتناقض مع قيمه وأخلاقه، وتتصادم مع مفاهيمه وموروثاته، ولا تتفق مع دينه وإيمانه.

كان لابد للحكومة في قطاع غزة، وأجهزتها الأمنية والشرطية والبلدية، وكل المسؤولين والغيورين، أن تضرب بيدٍ من حديدٍ على المارقين والمخالفين، والمسيئين والمفسدين، والمعتدين والمخربين، وكل من تسول له نفسه الإساءة إلى شعبه، واستغلال الحرب ومحنته في الاغتناء السريع، والاستغلال الوضيع، والجشع المقيت، ومحاولة التغول على الضعفاء وأكل مال الفقراء، والاستفادة من غياب السلطات في الكسب غير المشروع، وممارسة أعمال البلطجة والاستقواء بالعدو والعائلة والعشيرة.

لهذا تحركت المقاومة الفلسطينية والحكومة في قطاع غزة، وشكلت قوى ضاربة وأجهزة أمنية ضابطة، كوحدة “السهم”، التي لاحقت التجار الجشعين والمحتكرين الفاسدين، وأصحاب مكاتب التحويل وغيرهم ممن استغلوا غياب السلطة وتعطل القوانين، فعاثوا في الأرض فساداً وبين الناس خراباً، ونهبوا وسرقوا وقطعوا الطريق وقتلوا أحياناً، فكان قرار الحكومة الحاسم وتحركها السريع، وفرض الأمن والنظام بالقوة، مما كان له أبلغ الأثر في ضبط الشارع، وتنظيم المناطق، وعودة الحياة تدريجياً إلى المناطق المدمرة.

وإلى جانب وحدة سهم السرية الحركة، والنافذة القوة، والحاسمة القرار، والسريعة الوصول، والواسعة الانتشار، كانت وحدة “رادع” التي لاحقت العملاء والمندسين، والخونة والمتعاملين، والجواسيس وعناصر المجموعات العسكرية المتعاونة مع العدو الإسرائيلي، وتعاملت معهم بكل قوةٍ وشدة، وضيقت عليهم وحاصرتهم، وعرفت أماكنهم ومقراتهم، وأماكن اجتماعاتهم ولقاءاتهم، فداهمتهم على عجل، ودخلت إلى أوكارهم بسرعة، واشتبكت معهم وأطلقت النار عليهم، واعتقلت بعضهم وأودعتهم السجون للتحقيق معهم ومحاكتهم، وفي الوقت نفسه قتلت مسؤوليهم وقضت على رؤوسهم الكبيرة، واستطاعت خلال أيامٍ أن تقضي عليهم في المنطقة المصنفة خلف الخط الأصفر، وهو المصير نفسه الذي ينتظر الهاربين منهم إلى مناطق الخط الأصفر.

رحب المواطنون الفلسطينيون بجهود وإنجازات الأجهزة الأمنية والشرطة وعناصر البلديات، ولاقت جهود الحكومة في غزة ترحيب واحترام المواطنين، الذين اكتووا كثيراً بسياط هؤلاء المارقين الفاسدين المندسين، وبدأ الغزِّيون يشعرون ببعض الأمان الذي فقدوه، والطمأنينة التي يبحثون عنها، وحصلوا على المؤن والمساعدات التي كانت تنهب، وأصبح باستطاعتهم الذهاب إلى الأسواق، وشراء بعض الحاجيات، واستلام حوالاتهم المالية دون اقتطاعٍ كبيرٍ منها، وغدوا جميعاً عيوناً للسلطة، وحراساً للوطن، وأمناء على الحقوق.


(13)
يا مسلمي العالم وأحراره أغيثوا أهل غزة


أما وقد قام الفلسطينيون بما يجب أن يقوموا به بعزةٍ وشرفٍ، وكبرياءٍ وشموخٍ، وإباءٍ وشممٍ، وصمدوا سنتين كاملتين في مواجهة آلة القتل الأمريكية الخرقاء، التي زودت بها الإدارات الأمريكية جيش الكيان اللقيط ومكنته، وسمحت له باستخدامها في حرب الإبادة والتطهير، ومحاولات القتل والتهجير، واستطاعوا بتضحياتهم الجسام وصمودهم الأسطوري واحتسابهم العجيب رفع رأس الأمة التي فاخرت بهم وتشرفت، واعتزت بهم وتقدمت، إذ قاتلوا نيابةً عنها ومثلوا إرادتها، وجعلوا لها اسماً يذكر ويوقر، وحجزوا لها تحت الشمس مكاناً، وتحملوا ما لم يتحمله شعبٌ آخر في التاريخ، بالنظر إلى حجم الحمم البركانية، والصواريخ المدمرة، والقصف المهول الذي تعرضوا له.
يأتي اليوم دور الأمة العربية والإسلامية، شعوبها لا دولها، ومؤسساتها لا حكوماتها، وهيئاتها لا نظمها، وقد تأخرت مهما قدمت، وقصرت مهما أعطت، ولم تؤد ما عليها مهما اجتهدت، ولتعلم أنها ستسأل عما قدمت وأخرت، وستحاسب عما منعت وحبست، وستبوء الخيبة والخسران إن تأخرت وقصرت، وقد جاء دورها اليوم لتبرأ أمام الله عز وجل بالوقوف إلى جانب سكان قطاع غزة ونصرتهم ومساعدتهم، ودعمهم ومساندتهم، وإكرامهم والإحسان إليهم، وهم اليوم لا يطلبون من الأمة دماً ولا سلاحاً، ولا يريدون منهم قتالاً ولا مقاومة، ولا تضحيةً أو بذلاً، ولا يحملونهم فوق طاقتهم، ولا يحرجونهم ويكشفون عجزهم، ويفضحون ضعفهم.
إن المطلوب من الأمة اليوم، بشطريها العربي والإسلامي ومعهما أحرار العالم كله، المناضلين الشرفاء، والمناصرين الأوفياء، الذين تحدوا حكوماتهم وخالفوا سياسة بلادهم، وأيدوا الشعب الفلسطيني وناصروه، وساندوه وتضامنوا معه، وهم ليسوا عرباً ولا مسلمين، وإنما هم دعاة حق وأنصار العدالة، على وجه السرعة وبالعجلة القصوى، وبجرأةٍ وشجاعةٍ ودون خوفٍ، وبعزمٍ وإصرارٍ وبلا تردد، وبتحدٍ وعنادٍ ومواجهة، تقديم كافة أشكال الدعم المادي بلا حدود إلى سكان قطاع غزة، الذين باتوا جميعاً، بلا استثناء، فقراء معدمين، ومعوزين محتاجين، جرحى وجوعى ومرضى وبلا مأوى، فلا بيوت بقيت لهم، ولا قوت عندهم، ولا خبز يأكلونه، ولا ماء يشربونه أو يستخدمونه، ولا مساجد ولا مدارس ولا مراكز صحية ولا مستشفيات، ولا شيء من مقومات الحياة ومظاهر التمدن أبقى عليه جيش العدو بلا قصفٍ أو دمارٍ.
لا عذر اليوم لقاعدٍ أو قادرٍ، ولا لممتنعٍ أو حابسٍ، ولا لمقصرٍ أو عاجز، ولا لغنيٍ أو فقير، ولا لمواطنٍ أو مغترب، ولا لمن يملك بيتاً أو يستأجر سكناً، ولا لتاجرٍ أو موظف، ولا لمسؤولٍ أو عاملٍ، فكل الأمة العربية والإسلامية بخير، فهي تعيش في بلادها، وتأمن في أوطانها، وتسعد مع أولادها، وتملك قوت يومها، وطعام أولادها، وعندها ما يسترها ويحفظ حياتها، بينما أهل غزة لا يملكون شيئاً، وقد فقدوا الأب والأم والأخ والشقيق والولد والطفل والرضيع، فأفيضوا عليهم أيها العرب والمسلمون مما أفاض الله به عليكم، وأدوا زكاة أموالكم لهم، بل زكوا أنفسكم بأموالكم وأرسلوها لهم، وباركوا بيوتكم واحفظوا أولادكم، وإلا فأذنوا بحربٍ من الله ورسوله، ولعنةٍ منهما لا تزول ولا تحول إلى يوم القيامة.
لم تعد الأبواب مغلقة، ولم يعد تحويل الأموال إلى قطاع غزة متعذراً، فلا يتعلل أحد بصعوبة إدخال المال وتعذر توصيله إلى أصحابه والمحتاجين إليه، فقد انتهى الجشع والاحتكار، وحاربت الحكومة أصحاب مكاتب تحويل الأموال وتجار الحروب، الذين كانوا يفرضون عمولةً كبيرة على الأموال المحولة إلى قطاع غزة، وأصبح بإمكان كل من يرغب في المساعدة أن يحول من أي مكانٍ ما يريد، وسيكون واثقاً أن المال سيقع في أيدي مستحقيه، وسيستفيد منه أهل غزة، فهو في أي أرضٍ وقع فسينبت، وسيزهر وسيثمر في أرضنا المباركة ومع شعبنا الفلسطيني العظيم، ولا تستقلوا أي مبلغٍ مهما صغر، ولا تحقروا أي مساعدة مهما ضئلت، فالقليل ينفع والكثير يجدي.
لا تعيبوا على أهل غزة حاجتهم، ولا تعيروهم بفقرهم، فقد والله قدموا أغلى ما عندهم، وضحوا بأنفس ما يملكون، وقد تآمر العالم كله مع العدو عليهم، فحاصرهم وجوعهم، وقتلهم وحاول إبادتهم، ولكنهم أصروا على البقاء، وأقسموا على الثبات، ورفضوا الهجرة والشتات، فلا تردوا سائلهم، ولا تمتنعوا عن إجابة طالبهم، ولا تغلقوا الأبواب في وجوه المحتاجين منهم، وكلهم في حاجة ويشكو من جوعٍ وفقرٍ وفاقةٍ ومرض، ويتألم من فقدٍ وشهادةٍ وإصابةٍ ووجع.
وأنتم أيها العلماء والأساتذة والكتاب والمفكرون والمحللون والمثقفون والمبدعون والمسؤولون، شجعوا الأمة كلها على التضامن مع المواطنين الفلسطينيين، وعلى تقديم العون لهم، وانشروا بينهم هذه الثقافة، وادفعوهم نحو هذا الواجب، وذكروهم بأن أهل غزة الذين أصابهم ما أصابهم وما ركعوا ولا خنعوا، ولا هانوا ولا استسلموا، يستحقون أن نضحي من أجلهم، وأن نقتسم معهم ما نملك حتى ينهضوا من كبوتهم، ويقفوا على أقدامهم.
واعلموا أن التاريخ لن يرحمكم، والله عز وجل لن يغفر لكم، وأمتكم لن تسامحكم، والأجيال القادمة ستزدريكم وستحتقركم، وستلعنكم وستتبرأ منكم، إن قصرتم في الدعوة، أو جبنتم عن التحريض، وخفتم من حاكمٍ أو سلطانٍ، ولتكونوا أنتم القدوة والمثال، والنموذج الذي يحتذى، ولتتبرعوا ببعض أموالكم ليتأسى بكم شعبكم، وتتعلم منكم أمتكم، تطهرون بها قلوبكم، وتسمو بها أرواحكم، وتزكون بها أنفسكم، ويبارك الله لكم بها في نسلكم وأولادكم ورزقكم وأموالكم، ويمد في أعماركم ويرفع قدركم ويحفظ مقامكم.

(14)
الغزيون في حاجة إلى الدعم المادي لا الدعم النفسي

وضعت الحرب العدوانية الإسرائيلية نسبياً أوزارها، وتوقفت شكلياً صورها الوحشية، وغابت مشاهدها القاسية، وتغير شكلها الدموي وقصفها المدوي، وتراجعت حدة الغارات وغابت عن السماء الطائرات، وأخذت بعد إقرار خطة "ترامب" للسلام، ودخولها حيز التنفيذ، أشكالاً أخرى مختلفة أقل حدةً مما كانت، وأخف ضغطاً على السكان مما سادت، رغم الخروقات الإسرائيلية المتكررة، والغارات المحدودة المحددة الأهداف والغايات، إلا أن الظروف قد تغيرت، والأوضاع قد تبدلت.
واليوم التالي في قطاع غزة بعد تحريره وانسحاب جيش العدو منه، بدأت ترتسم معالمه، وتتشكل مظاهره لدى الجانب الشعبي الفلسطيني، والأساس فيه والثابت الذي يقوم عليه، هو العودة إلى الديار، والبقاء في البلاد، والإقامة فوق ركام البيوت المدمرة، واستعادة الحياة رغم الألم، واستئناف العيش رغم الجرح، والمباشرة في تنظيف الشوارع وفتح المساجد وإعمار الأسواق والمحال التجارية، وتسوية الجدران وبناء الخيام، واستعادة الحياة المفقودة، وبعث الحياة في الأمل الذي أرادوا خنقه وعملوا على وأده.
أمام هذه الوقائع المستجدة، وبدلاً من أن تخف المؤسسات الدولية والهيئات الإنسانية إلى مساعدة أهل قطاع غزة وتمكينهم من العودة إلى مناطقهم، واستعادة حياتهم فيها، وتسهيل إقامتهم فوق ركام بيوتهم المدمرة، وتقديم مختلف أشكال الدعم المادي لهم، وتوفير مستلزمات العيش البسيطة التي تمكنهم من مواصلة الحياة، إذ هم في حاجة إلى كل شيء، وتنقصهم كل حاجة، فهم يبحثون عن الطعام والشراب ومياه الشرب النقية ومياه الخدمة، ويحلمون في خيمةٍ غير بالية تسترهم وتؤويهم، ويحتاجون إلى الثياب الثقيلة التي تقيهم برد الشتاء القادم وزمهرير الطقس القارص.
في ظل هذه الأوضاع الصعبة التي يعيشها الفلسطينيون في قطاع غزة ويعانون منها، ارتفعت أصواتٌ دولية تنادي بالعمل على رفع الروح المعنوية للشعب الفلسطيني، ومعالجة آثار الحرب النفسية عليهم، والاهتمام بأطفالهم الذين عاشوا الحرب وذاقوا ويلاتها، وتركت عليهم آثاراً نفسية لا تنسى، وحفرت في نفوسهم مآسي عميقة وجراحاً بليغة، قد تبقى عالقة فيهم وملاصقة لهم، وستنعكس يقيناً على مستقبلهم، وستؤثر على مسار حياتهم.
وطالبت بعض الدول الأوروبية بتخصيص ميزانياتٍ مالية كبيرة للاهتمام بالصحة النفسية للمواطنين الفلسطينيين، ومعالجة آثار فقدانهم لأحبابهم، إذ فقدوا الولد والأب والأم، والأخ والأخت والجار والقريب والحبيب، والبيت والمأوى والعمل والمدرسة والتعليم، فضلاً عن آلاف الجرحى والمصابين، وآلاف المعوقين والمتضررين وأصحاب العاهات المستديمة والإعاقات الدائمة، بعد فقد البعض لعيونهم، أو بتر أطرافهم، أو إصابتهم بأنواعٍ مختلفة من الشلل نتيجة تلف أجهزتهم العصبية وإصابتهم في أعمدتهم الفقرية ورؤوسهم حيث مراكز الحس والسيطرة.
غريبٌ أمر هذه الدول التي علا صوتها، وبان غضبها، وأظهرت حرصها وغيرتها على مستقبل الأجيال الفلسطينية، وبدت خائفة على نتائج الحرب النفسية عليهم، وتريد أن تخلصهم منها وتجنبهم آثارها، وتخشى أن يكبروا وتكبر معهم معاناتهم، وتصاحبهم آلامهم، وهي نفسها التي خصصت عشرات المليارات من الدولارات لدعم العدو الإسرائيلي في حربه على قطاع غزة، وفتحت لجيشه ثكناتها ومستودعاتها، وسخرت له مصانعها الحربية ومعامل ذخيرتها المدمرة، ولم تبخل عليه بشيءٍ من أسلحتها الفتاكة، وطائراته المقاتلة، وذخائره التي لا تزول آثارها مع الأيام أبداً، وبقيت حتى آخر أيام العدوان تمده وتزوده بما يحتاج إليه، رغم الاعتراضات الشعبية، والمظاهرات المناهضة للحرب والمنددة بالعدوان على قطاع غزة.
لا ننكر أبداً أن الفلسطينيين في قطاع غزة في حاجةٍ إلى الرعاية النفسية بعد الحرب الإسرائيلية المدمرة عليهم، فقد أصابهم القرح والجرح والحزن والألم، نتيجة الفقد والقتل والخراب والدمار والتشرد والنزوح والتجويع والحصار والخوف والإذلال.
لكنهم جميعاً يحتسبون ما أصابهم عند الله سبحانه وتعالى، ويترحمون على شهدائهم، ويؤمنون بأن مقامهم عند الله عز وجل أعلى وأسمى، ويدعونه سبحانه وتعالى لأن يشفي الجرحى ويعافي المصابين، وأن يخفف من آلامهم وأن يعجل بشفائهم، وهم جميعاً يسرون عن بعضهم، ويخففون من آلام أنفسهم، إذ أنهم جميعاً قد ابتلوا وأصيبوا، ونالهم جميعاً جانبٌ من آثار الحرب والعدوان، لكنهم يشعرون بمعية الله معهم، وأنه لن يتركهم ولن يتخلى عنهم، وسيبقى إلى جانبهم، وهم يؤجرون على ما أصابهم، ويرتفع عند الله وبين الناس قدرهم.
الفلسطينيون ليسوا بحاجةٍ لغير الله عز وجل يسري عنهم ويخفف من آلامهم، فلن يعيد الدعم المعنوي شهداءهم، ولن يشفي جرحاهم، ولن يفرج من السجون والمعتقلات الإسرائيلية عن معتقليهم، ولن يجدي ربتهم على الظهور، وابتسامتهم في الوجوه، وتمسيدهم للرؤوس، ومداعبتهم للأطفال وتقديم الحلوى والسكاكر لهم، في نسيان الفلسطينيين لجريمتهم، ومسامحتهم على مشاركتهم في الحرب عليهم.
فإن صدقت هذه الدول التي تدعي غيرتها في مواقفها، وتريد أن تقدم العون والمساعدة للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، فلتضغط لوقف الغارات الإسرائيلية المستمرة على مناطق القطاع المختلفة، ولتسير قوافل المساعدات الغذائية والطبية والوقود وغيره إلى القطاع، ولتطالب بفتح معبر رفح الحدودي مع مصر لضمان مرور وعبور الشاحنات إليه، وضمان خروج الجرحى والمصابين من القطاع إلى مستشفيات العالم، فحاجة الفلسطينيين اليوم في غزة ماسةً جداً إلى السكن والإقامة، وتوفير الطعام والشراب والدواء والعلاج ورعاية الجرحى والمصابين وضمان علاجهم، فما جدوى دعمهم نفسياً والسكين ما زالت تحز رقابهم، والجوع والفقر والحاجة يقرص بطونهم.

(15)
المستشفيات العائمة حاجة غزية وقدرة دولية


خلفت الحرب الإسرائيلية الظالمة على قطاع غزة أكثر من 150 ألف إصابة منظورة، سجلت بعضها ووثقت، وبعضها لم يسجل ولم يوثق، بسبب الغارات والعمليات الحربية التي لا تتوقف، وغياب وسائل النقل والمواصلات، وملاحقة وقصف سيارات الإسعاف المدني وتدميرها وقتل طواقمها، وملاحقة الأطباء والممرضين وكافة العاملين في المجالات الطبية، فلا يتمكن المواطنون بسببها من الوصول إلى المستشفيات المدمرة، ولا إلى المراكز الصحية المعدومة القدرات، ولا يستطيعون تسجيل إصاباتهم وتوثيق حالاتهم، فتراهم يعضون على جراحهم، ويضمدون بالصبر والاحتساب آلامهم، ويكتفون بالعودة إلى خيامهم في مناطق نزوحهم، ينتظرون الفرصة للحصول على الدواء اللازم وترقب الشفاء المستحيل.
 لم يتمكن أغلب الجرحى والمصابين من تلقي العلاج المطلوب، نظراً لقلة الإمكانيات وتدمير المستشفيات، والحصار المشدد على القطاع، وحرمان سكانه من إدخال المؤن والمساعدات الغذائية والطبية والدوائية، ومنع الفرق الطبية والأطباء المتطوعين من الدخول إلى قطاع غزة، فباتت حالتهم الصحية سيئة، وفرص شفائهم من جراحهم ضئيلة، بسبب انعدام الدواء والرعاية الطبية الضرورية، وبسبب الحصار والتجويع والحرمان ونقص التغذية، إذ لا يجد المواطنون الفلسطينيون عامةً، فضلاً عن الجرحى، ما يحفظ حياتهم، ويقوي أجسادهم، فضلاً عن ترميم صحتهم ومداواة جراحهم.
جرحى العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، فضلاً عن عددهم الكبير الذي بات يكشف ويسجل، بعد التوقف النسبي في الغارات وإعلان انتهاء الحرب، إلا أن أعدادهم تزداد وحالتهم الصحية تتفاقم وظروفهم تتعقد، وهم أنواعٌ وأصناف وعلى مستوياتٍ مختلفة، فبعض الجرحى والمصابين غير الذين بترت أطرافهم وفقئت عيونهم وشلت حركتهم، حالتهم صعبة بل وميؤوسٌ منها، ولا يرجى شفاؤها في قطاع غزة، حيث يتطلب علاجهم مستشفياتٍ ذات قدراتٍ عالية، وإمكانياتٍ كبيرة، وأطباء مهرة، وتجهيزاتٍ حديثة، وهو ما لا يتوفر في القطاع، الأمر الذي يجعل من موتهم أمراً محتوماً ومصيراً معلوماً.
وفي الوقت نفسه يتعذر خروج الجرحى والمصابين من غزة إلى مصر والعالم الخارجي، لتلقي العلاج في مستشفيات دول العالم المختلفة، بسبب إغلاق معبر رفح الحدودي مع مصر، وبالنظر إلى الكلف العالية "السمسرة" التي يتوجب على ذوي الجرحى والمصابين دفعها لضمان دخولهم الأراضي المصرية، إذ تصل كلفة سفر الشخص الواحد ثمانية آلاف دولار، ومن المعروف أن كل مصاب يصاحبه مرافق يعنى به ويهتم بشؤونه ويقوم على خدمته ومساعدته، وهذا بدوره يلزمه للخروج مرافقاً مبلغ آخر مشابهاً، وهو ما لا يقدر عليه الجرحى جميعهم وذووهم.
أمام هذه العقبات والتحديات، ولمواجهة هذه الكارثة الإنسانية الكبيرة، ولخلق حلولٍ إبداعية لها، نرى وجوب السعي وإقناع الوسطاء الدوليين للضغط على حكومة الكيان الإسرائيلي للموافقة على رسو سفن المستشفيات الدولية العائمة، حيث تبدي العديد من الدول المتميزة في هذا الجانب، استعدادها التام لتسخير قدراتها، وتسيير سفنها الاستشفائية إلى شواطئ قطاع غزة، وقد أبدت بعضها موافقتها على ذلك، ومنها إسبانيا والبرتغال وإيطاليا وتركيا وروسيا واليونان وماليزيا وغيرها من الدول الأوروبية التي تملك سفناً استشفائية مجهزة، وغنية بالطواقم الطبية والتجهيزات الحديثة والأطباء المهرة المتخصصين في مختلف التخصصات الطبية.
ما إن ترسو هذه المستشفيات على شواطئ قطاع غزة حتى تباشر أعمالها، وتبدأ في استقبال الجرحى والمصابين وعامة المرضى الآخرين، فغرف عملياتها جاهزة، وهي حديثة ومتطورة، وطواقمها مدربة ومؤهلة ولديها الرغبة الذاتية لمساعدة أهل قطاع غزة، وهي ليست في حاجة إلى الربط مع شبكة الكهرباء المتهالكة في قطاع غزة، إذ لديها مولداتها الخاصة، ووقودها الكافي لتشغيلها وضمان عدم انقطاعها، والطمأنينة إلى سلامة تجهيزاتها ومعداتها الطبية المختلفة، وبعضها يرحب بالكفاءات والطاقات الطبية المحلية للاستفادة منها وتخفيف الأعباء وتعجيل النظر في مختلف الحالات.
لعل هذا المشروع هو الأفضل والأنسب للمعالجة الشاملة والكلية والسريعة لجرحى ومرضى ومصابي قطاع غزة، ولا أظنه يحتاج إلى جهدٍ كبيرٍ لإقناع هذه الدول وغيرها، للمشاركة في استنقاذ الفلسطينيين وعلاج المتضررين منهم، ولعل بعض الشخصيات العربية المشهود لها بالصدق والوطنية والغيرة والحمية، جاهزة لأن تسعى على مستوى دول العالم لتحويل الفكرة إلى مشروع عمل حقيقي وفاعل، يخرج قطاع غزة من أزمته الصحية، ويبلسم الجراح، ويعالج المرضى، ويعيد البسمة والأمل إلى قلوبٍ ظن أصاحبها أنها ماتت، وأنها لن تعود تنبض بالحياة من جديد، ويخلق الفرحة والسعادة لدى ذويهم الذين يخشون فقدانهم، ويعيشون على أمل حياتهم.
لعلها توصية جادة إلى المفاوضين الفلسطينيين في القاهرة والدوحة، للعمل على فرض هذا الاقتراح، ووضعه على جدول الأعمال، وإقناع الوسطاء العرب والدوليين بتبنيه والدفاع عنه، وجعله شرطاً أساسياً للدخول في المرحلة الثانية من المفاوضات، إذ لا يحزن شعبنا اليوم في قطاع غزة، شيئ أكثر من حزنهم على الأسرى والجرحى، فهما جرحان غائران في قلب ووعي أهلنا لا يندملان، فإن كنا عاجزين عن تحقيق حرية الأسرى، فلا نقف مكتوفي الأيدي أمام معاناة وآهات الجرحى.

(16)
حال غزة على أبواب فصل الشتاء وهطول الأمطار


تخلص أهلنا في قطاع غزة من الحرب الدموية التي شنها العدو الإسرائيلي عليهم مدة عامين كاملين، كانتا عليهم قاسيتين كالصريم، وهوجاء كريحٍ صرصرٍ عاتيةٍ، ما أتت على شيءٍ إلا جعلته كالرميم، وارتاحوا نسبياً من الغارات العنيفة، والقصف المدمر، والقتل اليومي، والنزوح المستمر، وباتوا يرممون ما بقي من بيوتهم، وينصبون خيامهم البالية فوق ركام بيوتهم المدمرة، ويحاولون بجهودهم الشخصية استعادة الحياة ولو قليلاً، وتأمين أماكن إقامتهم المتواضعة البسيطة، والتي هي بالنسبة لمن عاد إلى منطقته، ووجد فيها مكاناً يأوي إليه ويقيم فيه، ويجمع فيها من بقي من أفراد أسرته ويسترهم، وكأنها قصور مشيدة ومنازل فخمة.
لكن غزة مقبلة خلال هذه الأيام على فصلي الخريف والشتاء، وإن تأخر نسبياً هطول المطر، وما زالت حرارة الجو أعلى من معدلاتها في هذا الوقت من العام في المنطقة عموماً، وما من دولة أو منطقة إلا وتتهيأ قبل فصلي الخريف والشتاء من كل عام، وتتفقد جاهزيتها لأي طوارئ، واستعداد فرقها الفنية والعاملين فيها، وتجري صيانة للمجاري الصحية، وتعبد الطرق وتردم الحفر، وتطوف على المناطق وتجوب الأحياء، وتسأل عن الحاجات والنواقص، وتجهز طواقم الدفاع المدني، وتطمئن إلى جاهزيتها لأي طوارئ، وتفرض على السيارات نظمها للسلامة العامة وإجراءات الأمان المرعية الإجراء.
لكن قطاع غزة اليوم، الذي يعيش في أقل من نصف مساحته قرابة مليوني مواطنٍ، بلا مساكن أو أماكن إيواء، وبلا مبانٍ أو بيوت، لا يجد ما يستقبل به فصل الشتاء، ولا ما يواجه به طوارئه، أو يسد به نوائبه، أو يلبي به سكانه، فمبانيه مدمرة، وشوارعه محفورة، وطرقه مغلقة، وخيام سكانه ونازحيه بالية، لا تحمي من تحتها ولا تقيهم المطر ولا ترد عنهم البرد، وغيرهم في العراء بلا مسكنٍ أو مأوى، وشبكة المجاري الصحية فيه منهارة، إذ جرف جيش العدو الأرض بكل ما فيها، وأتى على أنابيب المجاري وقنوات الصرف الصحي، وأكوام القمامة صارت تلالاً تملأ الشوارع والطرقات، وتتسبب في الأوبئة والأمراض، وتنشط فيها وتتكاثر مختلف الحشرات، ولا مياه شربٍ نقية، أو مياه خدمةٍ كافية، فضلاً عن غياب المنظفات والمعقمات ولوازم الصحة والنظافة، في ظل غياب الكهرباء التي تتوقف عليها مختلف الخدمات.
كما لا ينسى سكان قطاع غزة إقدام سلطات الاحتلال الإسرائيلي على إغراق وادي غزة بالمياه العادمة والفضلات الآدمية خلال فصل الشتاء، بصورة متعمدة ومقصودة، في ظل غياب القدرات العملية لتكرير المياه وتصريفها أو جرها إلى البحر، مع ما يترتب على ذلك من انتشار الروائح الكريهة جداً، والحشرات القارصة المؤذية، وتلويث مياه البحر والمناطق القريبة، وأثر ذلك على المستحمين والصيادين والثروة السمكية الضئيلة المسموح للصيادين الفلسطينيين باستغلالها.
هذا إلى جانب وجود جثامين آلاف الشهداء تحت ركام المباني المدمرة، حيث لا يمكن الوصول إليهم وانتشالهم من تحت الأنقاض بسبب غياب الآليات الثقيلة، فضلاً عن تحلل الجثث والجثامين، وانتشار الكلاب الضالة التي تنهش ما بقي منها، وما يترتب على ذلك من تلوث البيئة، وانتشار الأوبئة والأمراض، وتلوث المياه الجوفية التي يتعذر الوصول إليها، وفساد مياه الآبار السطحية التي يحاول المواطنون الفلسطينيون الاستعاضة بها عن سياسة التعطيش التي يمارسها العدو ضدهم.
أما البلديات المكلفة بالتجهيز والإعداد، والمسؤولة عن المواجهة والتصدي لكل طوارئ الشتاء وعواصف الخريف والأنواء، فهي مدمرة أيضاً، واستشهد العشرات من موظفيها، وتم قصف مقارها ومراكزها وآلياتها ومعداتها، ولا يسمح العدو بإدخال معداتٍ وآلياتٍ جديدة إليها، حتى أضحت البلديات ضعيفة لا إمكانيات لديها ولا قدرات عندها، مما اضطرها للعمل بالوسائل البدائية والمجارف والمعاول والمهدات اليدوية، التي يلزم الإنجاز فيها أياماً وليالي طويلة، مع الإشارة مجدداً إلى غياب الكهرباء التي تعمل بها الكثير من الآليات، وانعدام الوقود أو نذرته المشغل لبعض الآليات البديلة.
يجب أن يكون معلوماً لجميع دول العالم، خاصة تلك الدول التي ساندت الكيان الصهيوني وأيدته، ودعمته بالمال والسلاح والعتاد والذخيرة، أن قطاع غزة ما زال يعيش مأساةً حقيقية وإن انتهت الحرب وتوقفت العمليات الحربية، وأن موسم الشتاء القادم سيكشف حجم المعاناة وعمق الأزمة التي خلقها وتسبب بها العدو الإسرائيلي بحربه المجنونة على قطاع غزة، الأمر الذي يفرض على المجتمع الدولي أن يتصدى لهذه التحديات، وأن يلتزم بالتخفيف من معاناة الفلسطينيين، الذي كان سبباً وشريكاً فيها.

(17)
رسالةٌ إلى المفاوضين والوسطاء من معتقلي سدي تيمان



انتهى العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وتوقفت الحرب الخشنة القاسية فيه، وبدأ المواطنون في القطاع يتحسسون أحياءهم ومناطق سكناهم المدمرة، يتلمسون فيها حياتهم، ويستعيدون أشكالها البسيطة وصورها المتواضعة، ويبنون بأيديهم العارية وإمكانياتهم البسيطة المتواضعة، بل المعدومة فعلاً، بيوتهم التي يرجون أن تؤويهم فيها وتسترهم، خياماً وأكواخاً وبيوتاً من شعرٍ وخشبٍ وألواح وصفائح، لكن بأملٍ وثقةٍ ورجاء، لا يقلل منه الجوع والفقر والضعف والعوز والفاقة والحاجة، ولا يفتر همة العمل فيها الفقد والخسارة، والجرح والإصابة، وأخيراً الشتاء والمطر والبرد والزمهرير والعواصف والرياح العاتية، وتسلل المياه إلى خيامهم، وجريانها سيولاً تجرف متاعهم وثيابهم المتبقية.
إلا أن الحرب الخشنة القاسية، الظالمة الحاقدة، القمعية المستبدة، السادية العنصرية، ضد الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين عموماً في مختلف السجون والمعتقلات الإسرائيلية، وفي معتقل سدي تيمان السيئ السمعة والصيت على وجه التحديد، الذي تجاوز في سيرته السيئة وفحش معاملته وقسوة حراسه، معتقلات غوانتانامو وأبو غريب وقاعدة بانغرام، لم تنته بعد، ولم تتوقف إجراءاتها القاسية وسياساتها المتشددة ومعاملة إدارتها العنيفة، بل ازدادت عنفاً وتطرفاً، واتسع نطاقها وشملت كل الأسرى، وبالغت إدارتها وهي الخاضعة لجيش الاحتلال وسلطات وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، في ممارسات التعذيب والقمع والإهانة، وتمادت في اقتراف الموبقات وارتكاب مختلف أشكال الجرائم الفاحشة بحق الأسرى والمعتقلين.
ربما سلطت المدعية الإسرائيلية التي نشرت تسجيلاً يوثق جريمة اغتصاب معتقلٍ فلسطيني في معتقل سدي تيمان، على أيدي مجموعة من حراس المعتقل، الذين استقبلوا يوم أمس خلال محاكمتهم الهزلية بالهتافات والأغاني والأهازيج، تأييداً لهم، ودفاعاً عنهم، وابتهاجاً بما قاموا به، وتشجيعاً لغيرهم، الضوء من جديد على هذا المعتقل السيئ الذي أنشئ خصيصاً لمعتقلي قطاع غزة بعد عملية طوفان الأقصى، وأخرج بأوامر مباشرة ومقصودة عن دائرة الرقابة والتفتيش التابعة لمصلحة السجون الإسرائيلية، فأصبح كل حارسٍ وسجانٍ فيه حراً فيما يفعل، وغير مسؤولٍ عما يتصرف، إذ لا يعاقبه القانون ولا يدينه، ولا يحاسبه المسؤولون على تصرفاتهم، ولا يعيبون عليهم ما يقومون به، وكأن الأسرى والمعتقلين ليسوا بشراً، بل هم دون "الحيوانات" بكثيرٍ، فلا حرمة لهم ولا حقوق، ولا رحمةً معهم ولا رفق بهم، ولا اهتمام بشأنهم ولا تقدير لظروفهم.
في هذا المعتقل لا يحرم المعتقلون من الطعام والشراب وحسب، بل يشبحون فيه إلى السقف من أيديهم المكبلة خلف ظهورهم لساعاتٍ طويلةٍ، ويقيدون إلى حلقاتٍ مثبتة على الأرض وفي الجدران، ويعزلون في زنازين ضيقة، ويتعرضون للضرب الموجع والتعذيب المتواصل، وتشج رؤوسهم، وتكسر عظامهم وتهشم أسنانهم، وتسيل دماؤهم، ويقتل تحت التعذيب بعضهم، ويعاني من نجا منهم من أوجاع لا تفارقهم، وتباريح لا تغادرهم، فلا فراش يريح أجسادهم، واليوم في ظل البرد والشتاء لا غطاء يدفئهم، ولا ثياب تحميهم، وكانوا في فصل الصيف يعانون من حرارته العالية.
في هذا المعتقل المنافي للإنسانية، والمخالف لكل القوانين والاتفاقيات والأعراف الدولية المرعية الإجراء، والمعزول عن العالم، والممنوع على اللجنة الدولية للصليب الأحمر زيارته، وعلى لجان حقوق الإنسان متابعته، والمحروم معتقلوه من المثول أمام المحاكم العادلة، والشكوى من المظالم وسوء المعاملة، يعاني فيه الأسرى والمعتقلون من سياسة التجويع والتعطيش، والحرمان من أبسط حقوقهم في الطعام والشراب والنوم والدواء والعلاج، إذ يشكو من فيه ومن خرج منه وتحرر، من النحافة والضعف، ومن المرض وسوء التغذية، إذ يحرمهم السجانون من الطعام أياماً طويلة، وإن سمحوا لهم به فيكون بكمياتٍ قليلة جداً، لا تكفي حاجتهم ولا تنفع صحتهم، ويمتنعون عن علاجهم قصداً، ويتركونهم في جراحهم يعانون عمداً، وهم يعلمون أن حرمانهم من العلاج والدواء هو حكمٌ مؤكدٌ بالإعدام.
رسالة الأسرى المحررين من هذا الباستيل الإسرائيلي اللعين، إلى المفاوضين الفلسطينيين في القاهرة والدوحة، وإلى كل الوسطاء العرب والأجانب، رسالةٌ صريحةٌ واضحةٌ من الأسرى والمعتقلين الذين ما زالوا في معتقل سدي تيمان، مفادها ضرورة إدراج هذا المعتقل ضمن جدول أعمال المفاوضات، وفرضه على طاولة المفاوضات كملفٍ أول، وموضوعٍ أساسٍ لا يمكن الانتقال إلى غيره قبل حله ووضع نهايةٍ حقيقية له.
والمطالبة بإصرار بإغلاقه، وتحرير من فيه من الأسرى والمعتقلين، وتخليصهم مما يطلق عليه الإسرائيليون أنفسهم "جهنم" و "الجحيم"، حيث يتفنن الحراس والسجانون في ابتداع أساليب التعذيب والإهانة، النفسية والمعنوية والجسدية، ويبتكرون وسائل شيطانية وأساليب وحشية، في محاولةٍ للانتقام منهم ومحاسبتهم على ما قاموا به يوم السابع من أكتوبر 2023، ولعلهم يعلمون أنهم أجبن من أن يواجهوهم طلقاء، وأن يتصدوا لهم في الميدان، فغلاف غزة يشهد على الرجال المسربلين بالسلاسل والأغلال، كيف كانوا أسود الوغى وأبطال الطوفان.

moustafa.leddawi@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق