نقلا عن الشرق
هل نحتاج مناسبة لتذكر "د. جمال حمدان"؟ لا أظن، فهو الحاضرـ دائما ـ بوعيه المشرق وببصيرته الكاشفة، وهو الذي منح الدنيا علما ثريا بينما عاش ومات زاهدا في ثرائها، مكتفيا بشقة بالغة التواضع والضيق، ليس فيها من الأجهزة الكهربائية إلا المذياع، وليس في مطبخها إلا موقد غاز مسطح، علقت جريمة قتله (التي ارتكبها جهاز مخابرات) في عنق اسطوانته التي قيل إنها انفجرت فأحرقته. لكن "مفتش صحة الجيزة" الذي حرر شهادة الوفاة أكد أن "المرحوم" مصاب بحروق متوسطة في الساقين لا تؤدي إلى الوفاة، وقال "د.عبادة كحيلة" في مقدمة كتابه "جمال حمدان: عبقرية المكان والزمان" إن "حمدان" أخبره بأن لديه 3 مخطوطات، هي: "الصهيونية" و"شخصية سوريا" و"العالم الإسلامي". ويتساءل شقيقه "اللواء عبد العظيم حمدان" في حوار صحفي: فأين ذهبت هذه المخطوطات؟ ثم يجيب محددا المتهم "الموساد الذي قتله هو الذي سرق المخطوطات الثلاث التي رأيتها بعيني، وهي مكتملة على مكتبه. وأخبرني شقيقي قبل اغتياله بأن "يوسف عبد الرحمن" ناشره، سيأتي للتعاقد على طباعتها يوم الأحد، لكنهم اغتالوه يوم الجمعة، أي قبلها بيومين فقط".
وإذا كان "اللواء عبدالعظيم حمدان" يتهم الموساد بالقتل بناء على مصلحته في اختفاء كتاب "الصهيونية" فإن لنا أيضا أن نتساءل عن صاحب المصلحة في اختفاء "شخصية سوريا" ونتساءل عن صاحب المصلحة في حذف هذا الاتهام من الحوار عند نشره في صحيفة "الأهرام" المصرية، بينما نشر النص كاملا في صحيفة "الخليج" ونتساءل عمن أحنقته كلمات "جمال حمدان" المنشورة في "شخصية مصر ـ الجزء 4" لدرجة الإقدام على قتله، حيث يقول:
"وهكذا بقدر ما كانت مصر تقليدياً، ومن البداية إلى النهاية، شعباً غير محارب في الخارج، كانت مجتمعاً مدنياً يحكمه العسكريون كأمر عادي في الداخل، وبالتالي كانت وظيفة الجيش الحكم أكثر من الحرب، ووظيفة الشعب التبعية أكثر من الحكم، وفي ظل هذا الوضع الشاذ المقلوب، كثيراً ما كان الحكم الغاصب يحل مشكلة الأخطار الخارجية والغزو بالحل السياسي وأخطار الحكم الداخلية بالحل العسكري، أي أنه كان يمارس الحل السياسي مع الأعداء والغزاة في الخارج والحل العسكري مع الشعب في الداخل، فكانت دولة الطغيان عامة، استسلامية أمام الغزاة، بوليسية على الشعب.
من هذا وذاك جاءت لعنة خضوع الحكم العسكري الاغتصابي الاستسلامي للاستعمار الأجنبي على المستوى الخارجي، ولعنة خضوع الشعب السلبي المسالم للحكم البوليسي في الداخل، وهي جميعاً سلسلة متناقضات ساخرة بقدر ما هي قطعة من الاستمرارية المأساوية المحزنة المخجلة".
يرحم الله جمال حمدان (4 من فبراير 1928م - 17 من أبريل 1993م) الذي كان آخر ما فعله قبل موته هو ركوب الحافلة العامة (الأوتوبيس) لتسليم مقاله إلى "الأهرام"!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق