أما إذا أردت شيئاً يخص صحتك النفسية والبدنية ، فاعلم أنه لا شيء يبدو حقيقياً ، لأن الشعب نفسه ليس حقيقياً، ومن ثم فلا تجلس كثيراً أمام التلفاز، ولا تقرأ الصحف، ولا تتعصب للساسة، ولا تصدق من يتحدث في السياسة؛ لأنه حديث مختلط بالهوى والإشاعات والأيديولجيا، ويبعد عن التحليل الموضوعي .. حاول أن تضع قطنة في أذنيك عندما يتحدث أحد صدفة بجوارك في السياسة .. لا تحاول أن تنتمي لحزب سياسي، وإذا شاهدت جماعة يتظاهرون أو يعتصمون أو يبيتون في خيام في الميادين، أو يغلقون المصالح العامة ويعطلونها عن العمل، أو يحاولون تسلق أسوار مقرات الحكومة والرئاسة .. إذا رأيتهم يفعلون هذا فقل اللهم اهدِهم سواء السبيل وامضِ إلى حال سبيلك.. لا تستخدم كثيرا كلمة (ثورة) في حديثك، حاول أن تعتبرها كلمة خرافية هبطت إلى الحياة بدون قصد .. احذر أن تصدق الوزارات وتصريحاتها فالأزمة أكبر وأبعد من كل الوزارات والفصائل، وبهكذا يمكنك تجنب الضغط والسكر والبواسير والإسقربوط ولين العظام والكساح والضعف الجنسي والعته والجنون.
لم يعد الأمر ربيعاً كما يتوهم البعض، إلا من جهة واحدة تربط بين الربيع والثورة التي حدثت، إذ هيأ ويهيئ كل منهما للناس المكوث الطويل في البراح، والميادين و الخيام وتناول الوجبات السريعة، وما عدا ذلك فإني أميل إلى مقولة النظام السابق: "الشعب المصري غير مهيأ لاستيعاب الديمقراطية أو تطبيقها"، ولعله كان يقصد ما صنعته يداه بالشعب المصري.
ليس بإمكاننا ، كما لا يجوز لنا، أن ننكر على الشعب رغبته في تغيير نظام ديكتاتوري ظل يكرر نفسه على مدى ثلاثين عاماً أو تزيد وهو ينحدر بمصر، وبالشعب المصري إلى أسفل نحو الهامش العالمي، ونحو مستنقع الفساد والجوع والعبودية والبطالة، وتبديد طاقات الشباب في الهلاسة والهلوسة والمخدرات والجلوس على المقاهي، وانتظار ما لا يجيء من آمال مبددة أو مباراة كرة قدم تنتهي بكارثة أمنية.
نحن لا ننكر على الشعب رغبته في تغيير نظام عميل لقوى أجنبية، وخاضع كلية لأجندة عولمية رأسمالية غربية استعمارية، ولكن الذي ننكره على الشعب هو عدم امتلاكه لمشروع قومي يعطيه خصوصيته ويرد إليه ذاته المبددة، ويرسم توجهاته نحو ديمقراطية حقيقية ويحقق توجده الفاعل في العصر.
ليس غريباً عندي أن يمضي الشعب بغير مشروع، ولعل الأسباب واضحة، فالثورة كانت بلا رؤوس، ولم يكن هناك فكر ثوري سابق عليها، كان هناك كبت للحريات، وتجويع وتمييع للرأي وتزوير لإرادة الشعب وسوء عدالة، ونهب للثروات، ولم يكن هناك فكر أو فلسفة، ولم تكن هناك معارضة سياسية حقيقية، ولم تكن هناك مؤسسات تربوية أو ثقافية تؤدي دورها في بناء الشخصية المصرية وتنميتها في اتجاه هذا المشروع أو ذاك، لذلك جاءت ثورة الجياع بلا رؤوس.
ولعل ما يرضى الجياع أن يشبعوا غريزة الجوع، والجنس، ولهذا انحصرت مطالب الثوار في مطلب واحد بيولوجي يخص الجياع. أما بقة المطالب فإنها تخص الأجندة العولمية وأجندة النظام السابق.
دعونا نتأمل هذه المطالب، ولعل أولها (عيش) وآخرها (عاوز أتعين) ..هل هذان مطلبان ثوريان ينتميان لفكر ثوري؟ .. لعله الحد البهيمي الأدني من الحياة أن يسكن الفرد وأن يمارس الجنس وأن يأكل طعامه قبل ذاك، ولقد انحصرت المطالب الثورية عند هذا الحد البهيمي البيولوجي الطبيعي الذي تحرص على توفيره للمواطنين النظم الديكتاتورية قبل الديمقراطية.
الأمر لم يكن خافياً على النظام السابق وهو يمارس ضغطه البيولوجي على غريزة الشعب عندما حرم الشباب من حق التوظيف وحال بينه وبين ثروات بلاده ، ولكنه كان واضحاً مع نفسه عندما كان يفعل هذا وفق أجندة التوريث، التي كانت تسعي إلى توصيل الابن إلى سدة الحكم على جثة الشعب الفقير، وكان واضحاً مع القوى العولمية التي تدعم بقاءه، و التي كانت تسعي إلى السيطرة على الثقافة والسوق والإرادة السياسة، لكنه لم يكن يحسب حساب الشعب، وأن عضة الجوع يمكن أن تقلب الطاولة.
أما بقية المطالب التي تتردد هنا وهناك فهي لا تخص الشعب في شيء، دعونا نناقش ـ مثلاً ـ أزمة البرادعي مع نفسه أولا ، لنرَ إن كانت ثورية أو تخص الشعب في شيء، منذ أن كان يعلن في زيارته المكوكية لمصر:" على الرئيس المصري أن يتنحي" ، وكنا نغبط شجاعته وقدرته على التصريح برأيه والمجاهرة به، رغم أننا كنا نعلم أنه مدعوم ومسنود على قوى أجنبية عالمية تحميه من بطش مبارك، وهي تضغط به على النظام السياسي المصري كورقة سياسية في وقت كان النظام المصري جاهزاً لنقل السلطة إلى الابن.
ودعونا نسأل ـ على سبيل المثال ـ : ما هو مشروع البرادعي الذي فرض عليه أن يكون انسحابياً بعد الثورة ، هارباً من ترشيح نفسه للرئاسة، ورافضاً للحوار الوطني مع مؤسسة الرئاسة بعد ذلك؟.. لعل مشروع البرادعي يتلخص في جملة واحدة شعارية بلا معنى هي "مصر دولة علمانية" وقد صدمه أن مصر لن تكون دولة علمانية مع صعود الإخوان التيار الأقرب إلى ثقافة الشعب وحياته ؛ فاضطر إلى الانسحاب والتمترس خلف فكرته، ثم التخندق خلف الرفض لأي حوار أو رأي آخر حتى وإن كان رأي الشعب المصري نفسه.. ودعونا نسأل عن مدى صحة فكرة البرادعي تاريخياً أو اجتماعياً، ومدى اقترابها من الأجندة العولمية، ومدى ابتعادها عن مطالب الشعب المصري وثورته وثقافته.
ونسأله بشكل مباشر: من قال لك إن مصر دولة علمانية؟ وبماذا تدلل على صحة المقولة من التاريخ أو الواقع؟.. هل هذه المقولة وليدة حالة فكرية كانت موجودة في مصر قبل الثورة أم أنك أتيت بها معك؟ وما علاقة هذه الأيديولوجيا بالجياع وثروتهم؟, وبماذا تختلف هذه المقولة كتطبيق وكمنهج عن تطبيقات نظام مبارك الذي كان ينهج بها ويطبقها في صمت؟
إن مسألة تحرير السياسة في الدول الإسلامية من الخطاب الديني مسألة ميئوس منها، ويئس منها الغرب نفسه، بعدما أدت محاولاته لفرض العلمانية على الدول الإسلامية إلى كوارث وحروب عالمية أزعجت الغرب نفسه قبل أن تزعج غيره، وحالت دون تنفيذ المشروع العولمي في السيطرة الحقيقية على الاقتصاد والثقافة في الدول الطرفية، وربما لهذا اتجه وجهة أخرى تهدف إلى تخليص هذه الدول من أنظمتها الديكتاتورية الفاشلة في إدارة المشروع العولمي بالشكل المأمول، والتي لم تكسب الغرب سوى عداوات هذه الشعوب، واتجهت نحو مصالحة هذه الشعوب بغية السيطرة عليها بطرق أكثر سلاسة, ولعل أول هذه الأجندة توظيف القوى الإسلامية نفسها ومساندتها لتصل إلى سدة الحكم، ثم التعامل معها كبديل قوي قريب من ثقافة الشعوب المحكومة، لا لتنجح في تنمية شعوبها نحو مشروع قومي إسلامي أو تواجد فاعل في العصر، ولكن لتتهاوى بها بنفس راضية نحو الرضوخ للنظام العولمي وفق آليات أخرى، وخطاب آخر مهدهد للروح الإسلامية والثقافة الإسلامية يعزله رويداً عن السياسة ثم ليتهاوي به أخيراً في مصير عولمي.. هل تنجح القوى الإسلامية في التفلت من ربقة هذا المشروع ؟ .. هذا سؤال آخر وموضوع آخر.
المعروف أن هذه القوى الإسلامية لن تبدأ قوية في بلدانها بعد أنظمة فاسدة حكمتها لحقب طويلة، واقتصاد منهار، وبنية اجتماعية مخلخلة, والمعروف أيضاً أنها ستمد يدها إلى الغرب لمساندتها سياسياً واقتصادياً، والبديهي أيضاً أن الدول الغربية لن تساند غير مشروعها، ولن تكف عن إرباك أي نظام سياسي يحكم هذه الدول الطرفية الإسلامية حتى يكون بين أصابعها كدمية متحركة، والمعروف أنها لن تكف عن توظيف المال ومنظمات المجمع المدني في هذه الدول، كما أن من سياستها أيضاً توظيف النُّخب في هذه الدول ، هذه الأجندة لن تتغير مع صعود القوي الإسلامية إلى الحكم، ولعلها نفس الأجندة التي تحكمت بها في الأنظمة السابقة على الثورات العربية بل وأسقطتها بها.
ما نسمعه إذن من خطاب النخبة ـ التي لم يُنَخِّبها الشعب بطبيعة الحال ـ هو آلية من ضمن آليات إرباك النظم الحاكمة هنا، أما ما نسمعه من البرادعي فهو نفس الخطاب القديم لهذه القوى العولمية التي تسعى إلي تنفيذ مضمونه حاضراً ولكن وفق آلية جديدة مستثناة ووفق خطاب مختلف.
ربما لا يعرف البرادعي وتلاميذه وأشباهه أنهم ورقة محروقة ، وكارت تم استبداله، وربما أنهم لا يعرفون أنهم مجرد أداة لإرباك القوى الإسلامية الحاكمة، وربما أنهم يعرفون ويرتضون هذا الدور الحقير في بلدانهم.
أين مطلب البرادعي من مطالب الشعب وثورة جياعه؟ وأين الشعب من المطالب الثورية التي تجتاز به المسافة نحو التواجد الإنساني القومي في العصر بعيداً عن أزمته البيولوجية مع الحياة وبعيداً عن ربقة النظام العولمي؟ وبعيداً عن أصحاب المال الأسود والنظام السابق الذي يدافع عن امتيازاته؟! وبعيداً عن أصحاب المصالح الشخصية من الساسة الهواة والحواة الذين عملوا تحت إبط النظام السابق كمقاولي أنفار؟
الذي أعرفه أن أي خطاب نهضوي حقيقي يبدأ من ثقافة وطنية أو يسعي إلى وطننة الثقافة أولاً، ولعل مقولة البرادعي تنطلق على الثقافة المصرية والعربية والإسلامية لا منها، لتتقاطع مع مقولات النظام العولمي من جهة وتتلاقح كمنهج مع منهج النظم العربية السابقة المنزاحة أو التي لم تتم ازاحتها بعد.. ما الجديد أيها البرادعي عندك، وبماذا أتيت؟ .. لقد ضربنا مثالاً واحداً وأجندة واحدة، وهي الأبرز، لكن هناك أجندات أخرى وخطابات أخرى تخص إسرائيل وإيران والنظام السابق الذي سقط من الحكم ولكنه لم يسقط من الحياة ، وما زال يدافع باستماتة عن مصالحه وبقائه وامتيازاته.
أين هي ثورة مصر وإرادة شعبه ورؤوس ثورته وفلسفته الثورية وتوجهاته القومية ومشروعه النهضوي ؟ .. أين هو بعيداً عن النوم في الخيام وترديد الخطابات الخاضعة لأجندات الغربي أو أجندة النظام السابق؟، أين هو بعيداً عن دورة المال الأسود في الحياة السياسية وتوظيف البلاطجة؟ أين هو هذا الشعب بعيداً عن كل هذا وذاك؟ .. ولعله موجود ولكن بلا رأي أو إرادة، يستمسك بالمتاح حتى الآن وهو صندوق الانتخاب، يحلم أن يأتي له هذا الصندوق بوظيفة أو أنبوبة بوتاجاز أو رغيف خبز أو صفيحة بنزين أو برميل سولار؟! .. ما أرخص المطالب وما أدنى الشعب والثورة والثوار!!.
ولعل هذا ما كان مكشوفاً للنظام السابق ماضياً أو آنياً، كما أنه مكشوف للقوى المنافحة سياسياً الآن من أصحاب الأجندات عندما رفضوا الرضوخ لنتائج الصناديق التي أتت بالإخوان إلى سدة الحكم، وصرحوا بأن الشعب جاهل وأمي وغبي و يباع ويُشترى ، وبلا رأي حقيقي وبلا فكر، ولا يجب الارتكان إلى رأيه في مسألة من يحكم أو رسم السياسات أو وضع الدستور!! بل صرحوا بأكثر من ذلك عندما انتحلوا صوت الشعب وهتفوا مؤخراً أمام قصر الاتحادية : "الشعب يريد إسقاط النظام" .. هم دأبوا على استثناء الشعب وانتحال صوته، أو التفكير بالإنابة عنه؛ إذ لا شعب في الأساس، فلم يُبقِ النظام السابق شعباً صالحاً للحياة أو التفكير أو ممارسة الديمقراطية، لكي يعمل ويفكر ويبدي رأيا سليماً، وهم على حق من هذه الجهة لأن ثورة الشعب الحقيقية بلا فلسفة أو فكر أو رؤوس ولا تهدف إلا لإشباع البطون. املأ بطني وخذ عقلي، أعطني مسكناً وأتح لي ممارسة الجنس وخذ عقلي، لا تدعني نهباً لغرائزي وخذ عقلي، ولعل هذه المطالب البيولوجية المُلحَّة أضحت سلعة المدربين في الساحة السياسية، وسلعة النظام السابق بأمواله السوداء، وسلعة القوى الغربية بصندوق نقدها الدولي، وسلعة من يملك المال من أي جهة كانت صاحبة مصلحة في مصر. وربما لهذا نقول : إن الثورة جلبت لمصر أسوأ تطبيق للديمقراطية في العالم، وهذا شيء طبيعي ما دام الصراع بلا شعب أو فكر أو فلسفة أو مشروع أو رؤوس.. أما الأخطر من ذلك ما كشفت عنه الثورة من إمكانية تسليع الشعب لصالح الأجندات اللاوطنية، الأمر الذي أتاح إمكانية تسليع الثورة نفسها لصالح نفس الأجندات.