الاثنين 12 أغسطس 2019 23:08
على ما يبدو أن النظام العالمي، الذي يعلم الجميع من يديره، هو من يصر على أن تبقي جميع مقدسات المسلمين سواء في فلسطين أو في الأراضي الحجازية تحت السيطرة، بهدف استخدامها رهينة أو أداة ضغط لابتزاز المسلمين أو بعضهم وتركيعهم للإرادة الغربية.
فيما تظل أصداء نداءات تدويل الأراضي المقدسة أو حتى استقلال إدارتها في شبه الجزيرة العربية تتردد كثيرا على مر التاريخ الحديث وذلك خوفا على سلامة تلك المقدسات وحرصا على سهولة وحرية الوصول إليها ، أو خوفا من سوء وفساد وانحراف السلطات السياسية المشرفة عليها ، أو خشية أن تستغلها الإدارة الراعية لها سياسيا منحا ومنعا، وذلك بداية من تلك المطالبات التي نادت بها مصر واندونيسيا والهند عام 1927 مع هدم المساجد والأضرحة التي بدأت الدولة السعودية الثالثة عهدها بها ، نهاية بنداءات معمر القذافي وصدام حسين عام 1990 التي كانت ترددها اذاعة العراق انذاك وأنشد لها المطربون العراقيون الأناشيد وصولا إلي المطالبات الإيرانية المتكررة.
وامتدت الدعوى حتى وصلت للنقابات ومنها مطالبات نقابة الأئمة بتونس بذلك حتى وصل الأمر لإنشاء بعض المتحمسين منظمات تطالب بذلك ومنها "الهيئة الدولية لمراقبة إدارة السعودية للحرمين الشريفين" أو"الحرمين ووتش"، والتي عقدت مؤتمرها الأول في 9 من يناير/كانون الثاني قبل الماضي بأندونيسيا.
وكان حزب "مصر الفتاة" المصري أبرز الأحزاب التي كانت دعوة تدويل المقدسات سببا في تجميده.
منجم لا ينضب
لكن تلك الأصداء ترتفع وتخبو بين الحين والأخر طبقا للتداعيات الناجمة جراء إساءة استغلال النظام السعودي لهذه المقدسات سياسيا وهو له في هذا تاريخ طويل، حيث يعتبرها جزءا من ميراثه الخاص يتصرف فيها وفي زائريها كما يشاء، وليست ملكا لأمة تعدادها يقترب من الملياري مسلم، معتبرا أن دعوات التدويل بمثابة إعلان حرب، وهوما يفسر العداء الشديد الذي كانت تكنه السعودية لعبد الناصر وصدام لا سيما تجاه العقيد الليبي معمر القذافي بسبب إصراره على هذا المطلب.
والحقيقة أن المقدسات الإسلامية لا تمثل ثقلا سياسيا كبيرا للنظام السعودي فحسب بل تمثل منجما هائلا لا ينضب من الثروة لا يبذل في استخراجها أدنى مشقة، فعائدات الحج والعمرة تدر عوائد مالية ضخمة تقدر بحسب بعض المصادر بنحو 16 مليار دولار سنويا فيما قدرها مركز "بي.إم.إي ريسيرش" - إحدى شركات مجموعة فيتش العالمية للتصنيف الائتماني - بنحو 12 مليار دولار وذلك من خلال حجوزات الفنادق والمواصلات والهدايا والطعام والرسوم وغيرها.
هذا المعين الذي لا ينضب شجع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان على طرح خطة لتنويع مصادر الدخل بالمملكة لتستقل عن النفط وتركز على "السياحة الدينية"، حيث يقصد المملكة بسبب تلك المقدسات نحو 20 مليون حاج ومعتمر سنويا، وهناك خطط للوصول بهم إلى 30 مليون حاج ومعتمر في رؤية 2030 التي يروج لها الإعلام السعودي.
المنع والتضييق
وتأتي إجراءات المنع والتضييق والترويع التي اتخذتها السلطات السعودية تجاه حجيج دولة قطر وقيام الإعلام السعودي بتخيير القطريين بين خيانتهم لوطنهم أو الحج، كواحدة من تلك الإجراءات التعسفية التي تخلط فيها بين ما هو ملك لها وما هو ملك للإسلام والمسلمين.
ورغم أن قطر من أكثر دول العالم التي اتهمتها السعودية بالسعي لتدويل المقدسات، إلا أن الواقع يقول أن قطر رغم أنها هى الدولة الوحيدة التي مورست ضد حجيجها أوسع الانتهاكات من قبل السلطات السعودية ، ومع ذلك لم تطلب من الأمم المتحدة آو اليونسكو أو أية جهة أخرى تدويل الأراضي المقدسة و- هو مطلب مشروع لها ولغيرها - واكتفت بمطالبة تلك المنظمات الأممية وقف استمرار استغلال السعودية لهذه المقدسات بشكل انتقائي خاصة بعدما فشلت الوساطات، وغيبت الجامعة العربية ، وأصاب الشلل مجلس التعاون الخليجي، وتعاظمت المضايقات لحجيجها، ورفضت الجِهات المسئولة عن الحَج في السعوديّة تسجيلهم الكترونيًّا، وتأمين سلامتهم، خاصة بعد حَصْر ذهابِهم وعودتهم لأداء مناسك الحج عبر طريقين مَحدودين وغير مباشرين، واستخدام شركات طيران أخرى غير الخطوط الجوية القطرية وهو ما حدث العام الماضي، وهذا يَعني "تَصعيب" سفر الحجّاج القطريين والمقيمين.
والواقع أن هذه المضايقات والإهمالات تتم مع حجيج كل دولة أو جهة أو طائفة لا تتفق وهوى الإدارة السعودية، وهو ما لفت نظر الهيئة الأمريكية للحريات الدينية الدولية (USCIRF) ، فراحت تسلط الضوء عليها وتصفها بالانتهاكات الجسيمة للحرية الدينية خاصة ضد الشيعة ، وهو أيضا ما جعل طهران تؤكد تعرض حجيجها للكثير من تلك المضايقات والتي تسببت في أحد المرات عن مقتل 500 حاج إيراني رميا بالرصاص المباشر بعد مشاركتهم في مظاهرات البراءة من تل أبيب ، وقبلها قتل أيضا 1500 آخرين في نفق المعيصم عام 1990 ووقائع أخري متعددة.
ولقد وصل الاستخدام السياسي للشعائر المقدسة أن قام أحد أئمة النظام السعودي في فبراير 1998بسب الشيعة وتكفيرهم، بينما كان الرئيس الإيراني هاشمي رافسنجاني أحد المصلين خلفه في خطبة الجمعة بمكة المكرمة، وبالطبع كلنا نعرف أن لا شيء هناك يحدث إلا بتوجيه خاصة مع السجال الدائم بين إيران والسعودية.
وفي عام 2006 قامت الإدارة السعودية بمنع الحجاج العراقيين من الحج وراحت تخوض سجالا سياسيا مع تلك الحكومة الحليفة لطهران، كما أنها لذات السبب منعت الحجاج السوريين من الحج لبضعة سنوات على التوالي رغم عدم الإعلان عن ذلك رسميا، وهو الأمر نفسه الذي اتبعه مع الحجاج اليمنيين الذي تخوض السعودية حربا شرسة ضد بلادهم.
ومن المدهش ان تمتد المضايقات للدرجة التي تجعل السلطات السعودية تمنع حجاج بعض الدول من العودة بقارورات مياه زمزم أو التصوير داخل الحرم.
ويتعرض الكثير من الحجاج لاسيما اللاجئين السياسيين المعارضين للدول الحليفة للسعودية للاعتقال وتسليمهم لدولهم.
دلائل التملك
وتشير وقائع التاريخ أن السلطات السعودية تعتبر منذ نشأتها أن المقدسات الإسلامية التي تحت رعايتها هي ملك لها، بدليل أن من أوائل القرارات التي أصدرها الملك المؤسس عبد العزيز أل سعود بعد قيام الدولة الثالثة عام 1929 قرارا لا يزال معمولا به حتى الآن يقضي بأنه "لا يسمح بعقد اجتماعات لمناقشة الدين أو المسائل الدنيوية الخاصة به من دون موافقة من الملك".
ومن دون استشارة المسلمين، قامت الدولة السعودية بعد تأسيسها بهدم الأضرحة والآثار الإسلامية، حتى طال الأمر هدم البيت الذي ولد فيه الرسول في مكة المكرمة وضريح السيدة خديجة وبيت أسد الله حمزة وجميع بيوت أل البيت، فضلا عن هدم غار ثور وسد غار حراء بالصخور، كما هدموا المساجد التي تركها العثمانيون بحجة أنها مساجد صوفية رغم أنها ليست بها أضرحة، واحتج المسلمون حول العالم لكل ذلك لكنهم استسلموا على ما يبدو لضغوط بريطانية.
ونقل موقع "بي بي سي" البريطاني في نوفمبر/تشرين الثاني 2014 تقريرا للكاتب المهتم بالآثار الإسلامية في السعودية أندرو جونسون تحت عنوان (مكة تحت التهديد: خطة لتدمير منطقة مسقط رأس النبي محمد صلى الله عليه وسلم، واستبدالها بقصر ملكي كما أن 95 % من المباني والمناطق الأثرية التي تعود لآلاف السنين تم تدميرها وإحلال فنادق ومراكز للتسوق محلها، مشيراً إلى أن عمليات التوسعة دمرت مؤخرا أعمدة شيدت قبل 500 عام لتخليد ذكرى الإسراء والمعراج.
فيما أشارت الباحثة السعودية وابنة مدينة مكة هتون الفاسي أستاذ تاريخ المرأة والكاتبة في جريدة الرياض سابقا في فيديو مصور لها أن هناك تدميرا وإزالة ممنهجة للآثار المقدسة في مكة والمدينة من أجل محو هويتهما وان عامودا عرف باسم عامود المعراج يجري استخدامه كلوحة لكتابات ملاحظات البناء في المدينة.
وتدل كافة الشواهد أن الحديث حول تدويل الأراضي المقدسة في السعودية ووضعها تحت إدارة منظمة العالم الإسلامي أو أية جهة إسلامية متفق عليها، حديث غير مرض عنه غربيا بدليل أنه رغم كثرة تلك الدعوات في الغرف المغلقة إلا أن القليل فقط من الدول هي من جهرت بها.
الحقيقة أن تحرير المقدسات من هيمنة أي نظام سياسي او جماعة او طائفة او مذهب اسلامي يعد في حد ذاته امرأ مقدسا لو كنا نطلب حقا فصل السياسة عن الدين ولا يمثل ذلك عملا عدوانيا ضد النظام السعودي إن كان يريد من أمره رشدا.