لم اندهش أبدا من مشاركة نتنياهو في احتفالات “ثورة” 23 يوليو1952 بالسفارة المصرية بتل أبيب، ولا من كلمته فيها التي جاءت كوصلة غزل فيها وفي رأس الحكم الحالي، ولا من الفرحة التي نطقت بها ملامح وجهه قبل كلماته، فهذا يؤكد ما ذهب له الناقل والعاقل وهم كثر بأنها كانت
ثورة أمريكية من أجل الإطاحة بالملك الذي تحالف مع الألمان في الحرب العالمية الثانية سرا، ومن أجل التمهيد لصناعة استقلال وهمي وطرح نظام عسكري تدعم كل تصرفاته الكيان الصهيوني.
ثورة أمريكية من أجل الإطاحة بالملك الذي تحالف مع الألمان في الحرب العالمية الثانية سرا، ومن أجل التمهيد لصناعة استقلال وهمي وطرح نظام عسكري تدعم كل تصرفاته الكيان الصهيوني.
منذ فترة طويلة انتشر على شبكة الإنترنت فيديو لمقابلة أجراها السفير المصري لدى الولايات المتحدة محمد كامل عبد الرحيم عام 1953 مع التلفزيون الأمريكي أكد فيها لمحاوريه أن مصر يمكنها تجنيد حتى مليون جندي وأنه يمكنهم أن يكونوا تحت تصرف الولايات المتحدة شريطة أن تساعد في الإنفاق عليهم، وقال أن مصر ليس لديها عداء مع إسرائيل (1) ليكون هذا هو أول دليل مادي على أن عبد الناصر كانت تربطه علاقات جيدة بأمريكا لم تتوقف عند المعونات الغذائية وذلك على عكس ما عرف ويشاع حتى لو فسرها البعض في طور البرجماتية السياسية ، ثم توالت الشهادات وصولا للفيلم الشهير بـ “الملاك” (2) والذي يروي تفاصيل عن عمالة أشرف مروان لإسرائيل ما ألقي بمزيد من التساؤلات حول الرئيس الذي يعادي إسرائيل ويعمل على حماية مصر والوطن العربي كله منها بينما يعمل زوج ابنته الكبرى جاسوسا لها.
وفي خضم ذلك جاء سجال العام الماضي الذي دار بين أمين الجامعة العربية الأسبق عمرو موسى والذي كان يسوق نفسه من قبل كدبلوماسي ناصري الهوى وبين عبد الحكيم نجل الزعيم، حيث شكك الأول في انحياز والد الثاني للفقراء (3)، وهي من أقوى الصفات التي يشهد بها له المصريون ممن عاصروا حقبته، ثم بلغت المفاجآت ذروة تشويقها حينما قالت نجلته الكبرى منى أن والدها لم يكن أصلا يعتبر إسرائيل العدو الأول للعرب بل بريطانيا والإخوان، لتضربه بذلك في مقتل لدي من أيدوه بشدة لشعاراته المناهضة لهذا الكيان (4).
وليس ذلك فحسب بل نقلت التسريبات فيديو تتراقص فيه في حفل زفاف ابنها أحمد أشرف مروان بحضور ما قيل إنه ديفيد جوفرين السفير الصهيوني نفسه (5)، وهو ما عزز لدى البعض رواية فيلم الملاك، وعززتهم معادلة منطقية تدعم أن الوطنية والنضال لا يتيح للمرء امتلاك المنتجعات الفارهة كما هو الحال عند مروان، ما دفع أسرة “مروان” لإصدار بيان يكذب الواقعة ويقول إن من قالوا عنه أنه السفير الصهيوني هو العريس نفسه.
وتأتي كل تلك التساؤلات في ظل التساؤل الكبير القديم حول تنظيم الضباط الأحرار الذي قاد انقلاب يوليو 1952 وكان عبد الناصر أبرز قياداته حيث يعتقد كثير من المراقبين أنه تنظيم صنع في دوائر الاستعمار البريطاني إما بالأمر المباشر أو عبر الخداع المخابراتي، وأن الهدف منه ومن الانقلاب لم يكن تحقيق استقلال مصر، ولكن تعيين وكلاء محليين ضمن خطة طويلة الأمد في تغيير شكل الاحتلال المباشر للاحتلال بالوكالة.
ومن جانبها راحت صفحة إسرائيل الرسمية على الفيس بوك “إسرائيل بالعربي تزيد الطين بلة بقولها إن ” إسحاق رابين رئيس وزراء الكيان الأسبق حينما كان قائدا عسكريا التقي عبد الناصر لقاءا ودودا على الغداء خلال حرب الفالوجا عام 1948!!(6).
ثم راح يستحاق ليفانون، السفير الإسرائيلي السابق بالقاهرة يلفت الأنظار إلى الأخطر وهو أن المسلسل العربي المصري “حارة اليهود” يحكى في الأصل عن قصة حب بين الراقصة اليهودية ريتا وجمال عبد الناصر (7). ما يطرح أيضا اندهاشا جديدا من أن يكون حي الجمالية بالقاهرة – حيث حارة اليهود- مسقط رأس اثنين من أربعة عسكريين حكموا مصر، عبد الناصر والسيسي، أحدهما حارب إسرائيل من ناحية ويطلب دعما أمريكيا من ناحية أخرى، والأخر باع كل مصر من أجل السلام الدافئ معها (8 و 8).
غشاوة.. زالت أو غشت
المنتقدون لناصر يقولون أن الصورة التي بدا عليها عبد الناصر إعلاميا كبطل قومي تحدى الإنجليز وقاد بلاده للحرية والتطور كانت أكبر بكثير من إفرازات حركة يوليو، وأن هناك نية مبيته لتقديمه بالصورة التي بدا عليها، كما أنه عطل المسار الديمقراطي لمصر حينما دعم مسار عسكرة الدولة داخل تنظيم الضباط الأحرار، وحتى الحروب التي يقال أنه خاضها ضد الإمبريالية كانت هي الأخرى وهم، بدءا من نكبة 1948 التي لا يعرف أحد حتى الآن لماذا سمح الإنجليز الذين يسيطرون على قناة السويس وسيناء للقوات المصرية بالعبور إلى فلسطين من خلالها، ولا نعرف أيضا كيف تحولت قضية “اختلاسات مالية” في التسليح كشفها الديوان الملكي نفسه وقدم فاعليها للمحاكمة عام 1950 إلى قضية “أسلحة فاسدة” ثم حصل مرتكبوها على البراءة عام 1953بعد الإطاحة بالملك؟!!. بحسب ما أوضحه المؤرخ العسكري أحمد حمروش وآخرون. (9)
ورغم أن هناك بعض الشهادات تقول إن عبد الناصر أصيب في تلك الحرب، ولكن أيضا تأكد للعلن أنه والأميرالاي سيد محمود طه وآخرين حوصروا في الفالوجا في أكتوبر 1948 وبعد أربعة أشهر قام إسلاميون بشن هجوم وحرروهم.
وكان عدوان 1956 غامضا ولم يفهم مغزاه، نظرا لأن بريطانيا سحبت جنودها طواعية عام 1954، فلماذا ذهبت طواعية لتعود بحرب؟ وهل حقا ما ردده البعض أن دخول بريطانيا الحرب كان لتسويق عبد الناصر كبطل قومي؟ ولماذا تركت القاهرة مدن القناة تواجه العدوان الثلاثي بالمقاومة الشعبية فقط لا غير؟
وامتدت التساؤلات الحرجة أيضا إلى نكسة 1967حيث راح البعض يقرأها أنها ليست نتيجة لإهمال من قادة الجيش، ولكنها كانت لحظة تضحية كبيرة بعرائس الماريونت من أجل تمكين إسرائيل من التمدد على رقعة أرض كبيرة لتساوم عليها مستقبلا.
وطالت الاتهامات بالتآمر جمال عبد الناصر حتى من قبل زملائه الضباط الأحرار مثل زكريا محيي الدين الذي أكد في مذكرات له أن عبد الناصر دبر 4 تفجيرات وأحداث كبرى ليلصقها بمعارضيه لا سيما الإخوان المسلمين منها حادث محاولة اغتياله في منشية الإسكندرية (10).
وقال الشاعر عمر بهاء الدين الأميري سفير سوريا في السعودية عام 1954 في حديث قديم له لمجلة المجتمع الكويتية: أن السفير الأمريكي وودس وورس زاره في مكتبه ذات مرة وكان يعرف بتعاطفه مع الشعب الفلسطيني ودار بينهم حديث حول الإخوان الذين صدرت بحقهم أحكام إعدام في مصر ومدى التواطؤ الغربي في الوقائع، وان من ضمن ما قاله إن مهمة الضباط الأحرار هي تجميد القضية الفلسطينية لمدة عشرة سنوات.
إصلاحات ذات وجهين
الجميل حقا في عصر عبد الناصر أنه تميز بالإصلاحات الكبيرة ونمو الروح الوطنية التي نفتقدها الآن، إلا أن البعض يقرأ الأمر من زاوية أخرى تتهمه بقهر فئات من المجتمع، وأن الكثير من المشروعات الاجتماعية والاقتصادية التي قام بها، تحتمل التأويل وهو ما يتفق مع رؤية عمرو موسى.
فمجانية التعليم التي نسبت إليه، أقرها أصلا رئيس وزراء الملك أحمد نجيب الهلالي عام1944، وقوانين الإصلاح الزراعي التي أنصفت الفلاح بحق، فتتت الرقعة الزراعية المصرية بشكل خطير، وكان يمكن إنصاف الفلاح بان تظل تلك الرقعة كتلة موحدة ملكا للدولة – وسياسة التأميم مستعرة آنذاك – ويظل الفلاح عاملا عليها بأجر كبير أيضا.
حتى عشوائيات القاهرة الكبرى الحالية يحيلونها لحقبة عبد الناصر وأنها تمددت والتهمت مئات الآلاف من أفدنة الأراضي الزراعية الخصبة، وكان يجب على الدولة توجيه هذا التمدد إلى الصحراء وتخطيطه بدلا من صناعة قنبلة حزام العشوائيات الحالية.
***
لكننا لا زلنا نتمسك بأهداب الأمل، فكل تلك التساؤلات تبقى لغزا يحتاج إلى إجابات لتكشف لنا ما جرى في تلك الحقبة لنعرف حقيقة عبد الناصر، هل كان صرحا شامخا، أم فقط صرح من خيال؟
شخصيا أتمنى أن يكون عبد الناصر لا زال صرحا شامخا، فنحن في حاجة إلى رمز مثله.
مراجع:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق