تاريخياً، تبدأ الأنظمة الشمولية في التخبط عند نهاياتها، قد تعطي تصرفاتها الانطباع بأنها قوية ومتمكنة، فهي تضرب يميناً ويساراً وصوتها عالٍ يهاجم الجميع، وفي الحقيقة فهي حالة ارتباك وعدم وضوح رؤيا.
وأفضل مثل على ذلك: نهاية عهد السادات الذي امتلأت سجونه بكل أطياف شباب مصر ابتداءً من الشيوعيين وحتى الأخوان المسلمين.
كان السادات قد أحدث صدمة كبرى في المجتمع المصري بعد زيارته للقدس وعقده لاتفاقيات كامب دافيد مخالفاً قناعة مصر الثابتة بأن إسرائيل هي العدو وضارباً عرض الحائط بالأمن القومي المصري والعربي.
ونرى اليوم النظام السعودي
يسير على نفس الطريق، فقد بدأ المستور من علاقته السرية القديمة مع إسرائيل التي تحتل المسجد الأقصى أولى القبلتين بالانكشاف.
يسير على نفس الطريق، فقد بدأ المستور من علاقته السرية القديمة مع إسرائيل التي تحتل المسجد الأقصى أولى القبلتين بالانكشاف.
وتكمن الطامة الكبرى في أن الملك السعودي يحمل على عاتقه حماية الدين بوصفه خادم الحرمين الشريفين، أما الأنظمة التي أقامت علاقات مع الصهاينة مثل النظام المصري والأردني والسلطة الفلسطينية فهي أنظمة علمانية لا تحمل الدين على كتفيها. ففي البداية أظهر النظام قبوله بالوجود الإسرائيلي يوم طرح مبادرته للسلام في قمة بيروت عام 2002 بقبول حل الدولتين مكتفياً بالقدس الشرقية كعاصمة للدولة الفلسطينية المقترحة، ثم فرض رؤيته على باقي العرب، وحدد بذلك سقفاً لتدخل العرب في المسألة الفلسطينية، سقف مريح لا يفترض حشد الجهود لتحرير فلسطين وإعادتها لأصحابها الأصليين.
ولكن ما هي الأسباب التي حدت وتحدو بعرب أقحاح من الجزيرة العربية يقومون بواجباتهم الدينية على أكمل وجه الى اتخاذ مواقف مخالفة لعروبتهم وليس لها علاقة بما يأمر به الدين الاسلامي؟
لن نذهب بعيداً في البحث، إنه المال، المال السهل الذي يأتي من غير تعب ولا عناء، مال يمكن الاستمتاع بما يعطيه من النفوذ والقوة وينبغي الحفاظ على تدفقه في الخزائن.
والمال ليس له وطن، ولهذا فإن قناعة العائلة السعودية هي في أن العلاقة القوية الدائمة الأولى والأهمّ هي مع الذين استخرجوا النفط من الأرض، ينتجونه ويشترونه ويحمون تدفقه الى أسواقهم، ومن أجل ذلك يوفرون الحماية ويقطعون يد كل من تسوّل له نفسه مد يده اليه.
تعلموا درسهم من هؤلاء الذين فكروا في السيطرة على نفطهم مثل مصدق في إيران في خمسينيات القرن العشرين، فهم مجانين لا يعرفون سطوة الغرب وقدراته، وتفكر العائلة السعودية أنه لا قدرة لها على التعامل مع هذه المادة، ويكفيهم ما تجود به الشركات الغربية عليهم، وهو كثير يملأ خزائنهم ثم إن متطلباتهم قليلة والشعب قليل العدد موزع على مساحة واسعة، ويجهل ما الذي يجري ويثق فيهم ويقدمون له الأعطيات من وقت لآخر. وهكذا يحتفظون بالفائض في بنوك المنتجين فهي أكثر أمنا من الاحتفاظ به تحت أسرّتهم.
لا شيء يبقى على حاله، فالشعوب المجاورة للجزيرة تزداد وعياً وتزداد مطالبتها بالعدل والمساواة.
كانت الناصرية أحد هذه المخاطر، فقد غيرت المنطقة وأشعلت فيها الثورات، ففي شمال الجزيرة أصبح العراق جمهورية، ووصل المد الى داخل الجزيرة نفسها حين قامت ثورة على الإمام في اليمن وأعلنت الجمهورية فيها. جمهورية في داخل الجزيرة العربية! هذا خطر داهم على الحكم السعودي، ولذلك قام النظام السعودي بدعم الإمامة الزيدية، ولم يكن للفوارق الطائفية أية قيمة أو حساب في ذلك الزمن، بل وسمح النظام بدخول قوات الشاه الشيعي واحتلال سلطنة عمان، وكان ذلك مريحاً ومقبولاً فهو يقضي على ثوار منطقة ظفار رغم أنهم ينتمون للمذهب السني.
ماذا تغير حتى تصبح إيران البعبع المخيف للنظام السعودي؟
أول ثورة شعبية في الشرق الاوسط حدثت في ايران سنة 1979، وصل الى السلطة رجل دين بسيط طعامه الحليب والتمر ويجلس على الأرض ويعيش في بيت عادي بسيط.
بالنسبة للنظام السعودي فإن قيام الشعوب بالثورة نذير خطر، فقد تنتقل العدوى الى الجزيرة العربية، وزوال عرش الطاووس في طهران قد يشجع الناس على التفكير بإزالة عرش آل سعود في الرياض. ولا يجد هذا النظام حلاً لحماية نفسه ومستقبله سوى إفشال هذه الثورة.
لذلك تم توريط صدام حسين في حرب استمرت ثماني سنوات أكلت الأخضر واليابس ودمرت قدرات البلدين، وفي هذه الحرب بدأت أولى مظاهر الطائفية تظهر على السطح وبدأ استعمال كلمات مثل المجوس والفرس والقادسية، وكان النظام السعودي سعيداً فقد تحول التفكير بعيداً عما يفعله في نهبه للمال العام ووقوفه ضد تطلعات الأمة العربية في مستقبل أفضل.
كانت مصر بمثابة القاطرة للعالم العربي، ولكن مع توقيع النظام المصري اتفاقات كامب دافيد لم يعد هناك وحدة حال وهدف بين هذه الاقطار، بل أصبح كل قطر يغني على ليلاه، وتحرر النظام السعودي من تهديد القوى التقدمية في العالم العربي فلم يعد أحد يتكلم عن الرجعية العربية، فكانت هذه الانتكاسة بمثابة تكريس لحكم القبيلة التي يحكمها شيخها حتى يتوفاه الله، أما حياة القبيلة حاضراً ومستقبلاً فهي بيد الله وإن حدث أي تقدم فيها فهو بسبب القصور الذاتي بدون تخطيط أو تفكير مسبق، فالشيخ يفكر في حياته، ماله، سعادته واستمرار وريثه في الحكم بعده.
أصبح واضحاً أن النظام السعودي هو القائد الفعلي لهذه المرحلة، يوزع الشيخ الكبير مكرماته على الأتباع والموالين. ويمكننا أن نسمي هذه المرحلة بالحقبة السعودية في تاريخ المنطقة العربية، ومن مظاهر هذه الحقبة التراجع في كل مجالات الحياة، وسيطرة عقلية المال السريع القادم عن طريق النفط، والفساد والتخلف في التعليم والصحة.
لم يكن هذا التراجع مقتصراً على قطر بذاته، وليس مستغرباً أن يشمل جميع الأقطار العربية، ووحدة الحال هذه تدلل على وحدة الوطن العربي فهو ينهض سوياً، ينتكس سوياً ويثور سوياً.
والأنظمة العربية التي تقاد من قبل النظام السعودي ليست لديها القدرة على حل المشاكل المستعصية أمامها مثل توفير الحياة الكريمة لشعوبها التي يستمر عددها في التزايد كل عام بنسبة كبيرة في نفس الوقت التي تزيد فيه معرفتها بما يجري في هذا العالم نظراً لثورة المواصلات والاتصالات التي جعلت الأرض قرية كبيرة.
وهذا الانقياد للنظام السعودي كان السبب في انطلاق الثورة الشعبية في العالم العربي، ولكن استطاعت القوى المضادة للثورة احتواء معظمها لسبب بسيط هو أن الثورة لم تكن لها قيادة أو حزب موجه يستطيع توجيهها وتفعيلها.
انطلقت الثورة بينما كانت الرجعية العربية والتحالف غير المعلن مع إسرائيل وبقيادة الولايات المتحدة في أوج قوتها، مما جعل الأمر يزداد سوءاً، فالشرق الأوسط الجديد ينبغي تقسيم دوله القطرية الحالية الى دويلات صغيرة مقسمة على أساس عرقي، طائفي أو مذهبي.
كان النظام السعودي ينفذ ما يطلب منه بدون إعلان أو تصريح، معتبراً أن تقسيم دول المنطقة يصب في مصلحته ومستعملاً المال لشراء النفوذ استمراراً لسياسة دائمة منذ نشأته وحتى الملك السابق عبدالله.
الى أن تولى العرش سلمان الذي قام بانقلاب على التقليد المتبع في ولاية الأخ لأخيه، فقد ولى ابنه محمد بن سلمان ولاية العهد وأطلق له العنان والسلطة كتدريب لتولي السلطة بعده، وبينما كان معظم الملوك الذين تولوا العرش من كبار السن مستعملين الحذر في السياسة كان محمد بن سلمان صغير السن والملك غير المتوّج لا يبالي بكل التقاليد المتبعة، سواء على المستوى الشخصي أو العام.
وعلى المستوى الشخصي شهدنا تبديداً للثروة في شراء يخت روسي فخم، وشراء قصر في باريس أو شراء لوحة شهيرة، هذه البنود الثلاثة بلغت تكلفتها قرابة مليار ونصف المليار دولار، وما خفي أعظم. أما على المستوى العام فلأول مرة في التاريخ يقوم مشتري أسلحة بعمل صفقات بمبلغ خيالي بلغ 450 مليار دولار.
دول كثيرة في هذا العالم قامت بتصنيع أسلحتها المتقدمة بمبلغ أقل كثيراً من هذا الرقم الفلكي. ولكن يتفق الجميع على أن هذا المبلغ هو بمثابة رشوة لسيد البيت الأبيض وأمريكا.
كذلك تحويل فندق فخم الى معتقل للأمراء والأغنياء بحجة الفساد بدون اللجوء الى القانون، فالمفترض أن الناس سواسية أمام القانون.
واعتقال عدد كبير من الناس وخاصة من الشيوخ المعارضين والنساء، كما أن مقتل الصحفي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده وتقطيع جثته إنما دليل على استهتار النظام بالحياة الإنسانية.
وعلى المستوى العربي:
احتجاز رئيس وزراء دولة أخرى وإجباره على الأستقالة (سعد الحريري).
وحرب اليمن، وهي الطامة الكبرى لنظام يستقوي على شعب فقير يقوم بقتله وتجويعه بشكل مستمر منذ أربع سنوات.
ما سبق هو دلائل على أن رأس النظام السعودي إنما طائش وأخرق ووحشي، وعندما تجتمع هذه الصفات في رأس أي نظام فإن انهياره يصبح مؤكداً، ولا شك أن مجتمع الجزيرة العربية الذي يقف الآن مذهولاً مما يشاهد كل يوم من أحداث تخالف معتقداته التي تربى عليها منذ عقود طويلة، ولكنه في نفس الوقت تربى على طاعة ولي الأمر والخوف من السلطة التي كانت تدفعه إلى أداء الفروض الدينية بالقهر والغصب، وهذا التوازن بين الرغبة في تغيير النظام والخوف من السلطة إنما توازن فريد في مجتمع الجزيرة العربية، ولكن لا محالة ستتغلب قوى الثورة والتغيير على كل الحسابات الأخرى لوجود عوامل خارجية مؤثرة خاصة تغير موازين القوى في الحرب اليمنية واستطاعة أنصار الله نقل المعركة الى داخل الجزيرة في نجران وجيزان وعسير وهي بالمناسبة أراض يمنية أصلاً.
نقل المعركة الى هذه المناطق بأسلحة بسيطة واستنزاف خزينة النظام المستمر وإفشال مغامرته غير المحسوبة كل ذلك سيلعب دوراً في انهيار النظام وقد تعلمنا من التاريخ أن هزيمة النظام في الحرب تؤدي الى تغييره.
وهناك عامل آخر تستطيع الشعوب العربية والإسلامية لعبه لتسريع سقوط هذه الحقبة المؤلمة في تاريخ المنطقة، وهو الامتناع عن أداء فريضة الحج وأداء العمرة لمدة سنتين، فعمل كهذا سيؤدي الى نقص السيولة وتدفق الأموال الى أسواق الجزيرة العربية التي تتغذى باستمرار من أداء المشاعر الدينية عند العرب والمسلمين.
مساهمة بسيطة من الناس العاديين ستغير موازين القوى في الشرق الأوسط ولكن على قوى المجتمع الحية توعية الناس بأهمية هذا الطلب البسيط وحضهم على ذلك.
لو تحققت خطوة كهذه ستكون أول مرة في التاريخ تستطيع فيها الشعوب وبدون إطلاق رصاصة واحدة تغيير الوضع العفن الذي تعيش فيه، فهي تنهي الحقبة السعودية، حقبة الفساد والسرقة والفرقة.
الفجر دائماً قادم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق