05 سبتمبر 2015

سليم عزوز يكتب: "الخضيري" قاضي الثورة في قبضة الثورة المضادة

لو لم يكن له إلا دوره في تفجير انتفاضة القضاة ضد نظام مبارك لكفاه.
إنه المستشار محمود الخضيري، الذي يدفع الآن ثمن كل مواقفه النضالية في سجون الثورة المضادة، فلم تمنع شيخوخته ومرضه دون التنكيل به بواسطة نظام المخلوع الذي عاد عبر "عبد الفتاح السيسي"، الذي يناصب كل خصوم مبارك العداء، والذي قرر الانتقام من كل من شارك في ثورة يناير، حتى أولئك الذين مثلوا غطاء مدنيا للانقلاب العسكري.
"الخضيري" وبصفته رئيس نادي قضاة الإسكندرية، فجر شرارة النضال ضد مبارك، ليتلقفها المستشار زكريا عبد العزيز رئيس نادي قضاة مصر، فتشهد مصر انتفاضة غير مسبوقة، تطالب باستقلال القضاء، وترفض الإشراف المنقوص على الانتخابات البرلمانية، وتعلن أن قضاة مصر لن يكونوا شهود زور بإشراف لا يشمل العملية الانتخابية برمتها. وكانت مفاجأة أن أول جمعية عمومية للنادي تعلن النضال قوامها تسعة آلاف قاض، كما كانت مفاجأة لنا أن السواد الأعظم منهم من شباب القضاة.
لم يكن النظام الحاكم قد مس امتيازات القوم، ومع هذا خرجوا للشارع بالأوشحة، على نحو كاشف أن حكم مبارك فقد مبرر وجوده، والذي رد على هذه المطالب بإلغاء الإشراف القضائي برمته على العملية الانتخابية والعودة إلى إشراف الموظفين، بتعديل في الدستور، ظن أنه سيعصمه من الغرق، فكانت الثورة، التي شارك فيها المستشار محمود الخضيري بقوة، وكان قد استقال من العمل القضائي قبلها، وقبل وصوله لسن خروجه على التقاعد، ليكون بعيدا عن قيود الوظيفة وموانعها.
في البداية، ظننت أن الرجل منتم لأفكار جماعة الإخوان المسلمين، وتنبأت بأنه عندما يتحلل من عمله كقاض سيكرر تجربة المستشار حسن الهضيبى المرشد العام الثاني للجماعة، وكثيرا ما اتهمه إعلام مبارك بذلك، لكنه استقال ولم ينضم للإخوان وظل على استقلاله. وعندما ترشح لانتخابات مجلس الشعب في إحدى دوائر محافظة الإسكندرية، قلنا إن موقعه الطبيعي هو رئاسة هذا البرلمان، فإذا لم يكن هو الرئيس وهو قاض مرموق، ومنتمٍ للثورة بجدارة، فمن يكون رئيس برلمان الثورة؟!
وقد خاض الرجل انتخابات وعرة في إحدى دوائر محافظة الإسكندرية، وقف السلفيون فيها مع خصمه الذي استدعي لمهمة إسقاطه وهو شقيق رجل الأعمال المسجون في قضية مقتل "سوزان تميم" هشام طلعت مصطفى، فدخل بكل قوته، يسنده المال، كما تسنده سمعة لا بأس بها، لكن تدينه من النوع الخاص بصاحبه، فلم يكن له دور في النضال، ولا دور في الثورة، وعندما خاض الانتخابات، كان ذلك وفق قواعد دولة مبارك بالحفاظ على مقعد شقيقه.. لكن هل كان من يؤازرونه والذين حصلوا على الأتعاب بالوقوف بجانبه علاقة بالثورة أو بالنضال؟ وهم الذين تنازلوا عن دم ابنهم "سيد بلال"، الذي قتل على أيدي زبانية التعذيب، وهم يدفعونه للاعتراف بارتكاب جريمتهم المتمثلة في تفجير كنيسة القديسين!
لقد كاد دم "سيد بلال" يذهب فطيسا، لولا تنديد الدكتور محمد البرادعي بجريمة قتله، ومع ذلك فإن رموز السلفية دفعوا في اتجاه طوي صفحة اغتياله، فحالوا دون أن يكون، وهو شهيد دولة الاستبداد والإجرام أيقونة للثورة، في حين أن خالد سعيد الذي قتل في ساحة أخرى وبملابسات معروفة، تحول إلى أيقونة لها، بصمود أسرته، واستعدادها للتعامل كما لو كان الفقيد هو أحد أبطال حرب أكتوبر!
المراقبون والمشاركون في هذه الانتخابات يعلمون الثمن الذي دُفع لوقوف السلفية الرسمية ضد الخضيري، وكانت دولة مبارك حاضرة من وراء حجاب، تعمل على إسقاط أحد رموز الثورة انتقاما منه في شخصه.
يحسب للإخوان أنهم لم ينسوا فضل الرجل، وجعلوا من معركته الانتخابية معركتهم، ووصلت منهم إشارات تفيد أنه رئيس برلمان الثورة، ولو فعلوا لما تمكن أحد من المزايدة عليهم، لاسيما وأن المعركة كانت لا تزال مشتعلة بين من يمثل الثورة: البرلمان أم الميدان؟! لكنهم ظنوا أنهم لن يهزموا بعد اليوم من قلة، فسيطر عليهم فقه التنظيم لا أسس بناء الدول، ففضلوا عليه الدكتور سعد الكتاتني، الذي لم يكن بأدائه إضافة، وهو الذي حرص على استدعاء طريقة فتحي سرور رئيس برلمان مبارك في إدارة الجلسات، وباستخدام العبارات التي ارتبطت به، وكانت بداية القصيدة كفر، عندما وجد أن رئاسته للمجلس لا تكتمل إلا في استمرار الأمين العام للبرلمان منذ رئاسة "صوفي أبو طالب"، "سامي مهران" في موقعه، وكان قد أحيل لجهاز الكسب غير المشروع بعد الثورة، ومنع من السفر، لكن الكتاتني حصل له على إذن بالسفر معه، من جهات التحقيق، في أول جولة خارجية له وكانت للكويت.
لقد كان "الخضيري" له دوره الفاعل في الثورة، وفي ميدان التحرير، وكان حضوره بكل ثقله، يمثل دلالة بأنها ثورة وليست مجرد "هوجة شباب"، وعندما تنحى المخلوع، تزعم المحكمة الشعبية له في "ميدان التحرير"، وهي المحاكمة التي حاول المجلس العسكري بطرقه إفشالها، وعندما قام المخلوع بمداخلة في قناة "العربية" من شرم الشيخ، وجد الثوار في هذا تحديا للثورة وكان قرار المستشار محمود الخضيري هو الدعوة لحشد من الثوار بسياراتهم يتوجهون لشرم الشيخ، للقبض عليه.
عندئذ لم يجد المجلس العسكري الحاكم من سبيل في مواجهة المد الثوري، إلا أن يتدخل بحبس مبارك، وكان في الواقع يحميه، إلى أن يصبح الظرف مواتيا للإفراج عنه.
وقد كان "الخضيري" دائما صوت الثورة الفصيح والشامخ، وهو مثل معنى لوصف كنا نطلقه على القضاة من أمثاله، ويجري ابتذاله اليوم، وهو "القاضي الجليل"، وقد حدثني زميل مراسل لإحدى الفضائيات كان قد ذهب للإسكندرية لتغطية الانتخابات البرلمانية، كيف يعامل القضاة في اللجان الانتخابية الرجل في جولاته، وكان شباب القضاة ينحنون ويقبلون يده. وأكاد أسمع الآن "همهمات" من الذين يتحركون في دوائر العدم وتنطلق تعليقاتهم من العدم أيضا.
فقبل كلامهم العدمي، الذي قد يدور حول أن جميع القضاة هم في معسكر الثورة المضادة، وليس فقط من يشاركون في عدد محدود من الدوائر تتولى محاكمة الإخوان، علينا أن نسأل من المسؤول عن غياب من شكلوا أول جمعية عمومية في مواجهة مبارك، ودعوا لاستقلال القضاء دون أن يكون قد "داس" لهم أحد "على طرف"، وكانت هيبتهم محفوظة وقد تأثرت بنضالهم وخروجهم للشارع، وكانوا في غنى عن هذا كله.
لا أدعي أنني أمتلك إجابة على ذلك، وهو ليس موضوعنا، فموضوعي هو المستشار محمود الخضيري، الذي أدار اللجنة التشريعية في البرلمان باقتدار، وكثيرا ما وضع اللواء ممدوح شاهين مساعد وزير الدفاع للشؤون الدستورية والقانونية، في حجمه الطبيعي، وهو الذي كان يجري تقديمه رغم ضحالته القانونية، كما لو كان عبد الرازق السنهوري باشا الفقيه القانوني التاريخي المعروف. وكان شاهين في اجتماعات اللجنة في البداية يتعامل على أنه "المندوب السامي العسكري"، لكن مثل هذا الكلام لم تكن لتقبله قامة قانونية بحجم "الخضيري"، كما لا يقبله رجل انتماؤه للثورة أصيل، فعامل شاهين على أنه واحد من آحاد الحاضرين.ولهذا فالخضيري يدفع ثمن كل مواقفه النضالية، في سجون الانقلاب، دعك من أفلام الكارتون وأنه عذب محاميا في ميدان التحرير إبان الثورة وصعقه بالكهرباء.إنها الثورة المضادة تنتقم من أحد رموز ثورة يناير، ومفجر شرارة انتفاضة القضاة "القاضي الجليل" المستشار محمود الخضيري.

محمد رفعت الدومي يكتب: كليبتومانيا الضوء : سيمون بين السرايات حالة

"كليبتومانيا" هو الشغف بسرقة أشياء الآخر بهدف الحصول علي لذة مؤقتة، سلوك لا إرادي، يبقي مرضًا علي كل حال حتي يتعلق الأمر بالضوء، عندئذٍ، يصبح مرض السرقة مرضًا خاصًا بالمشاهير الأكثر قدرة علي النفاذ إلي قلوب الجماهير، وهؤلاء أقلية، ومن هذه الأقلية "سيمون"..
عندما قرأت لأول مرة أن "سيمون" قررت الوقوف تحت الأضواء مجددًا من "بين السرايات"، تناسيت سيطرتها التامة علي مفردات شخصية امرأة من القاع في تجربة سابقة لها علي المسرح، وسألت نفسي: 
- امرأة مثل "سيمون"، وديعة وأرستوقراطية ومثقفة الروح، ماذا ستفعل هناك؟
لم أظفر بإجابةٍ عن هذا السؤال إلا مع أول وقفة لـ "صباح" فوق الخط الدرامي للأحداث، تلك اللحظة، تبين لي أن "سيمون" ما كانت لتقدم علي الذهاب إلي "بين السرايات" لولا أنها تدرك تمامًا أن لديها أسلحة وعتادًا أقوي بكثير مما يتصور أحد.. 
لقد أكدت وعيها الغائر بلعبة الضوء المعقدة، كما أكدت أنها تعرف عن مزاج الكاميرا ما لا يعرفه إلا القلائل، لذلك، كانت شهرًا من القصائد المتجددة التي لمست مناطق رمادية تجاهلتها الدراما المصرية التي تناولت الأرملة، أو المرأة التي تصارع الحياة بمخالبها الخاصة، وتجاوزت بـ "صباح" كل أدوارها السابقة، وأسست لاسمها وعيًا جديدًا لا يمكن أن يهمله كل من سيؤرخ لـ "سيمون" بعد "بين السرايات"!
قدرتها علي استقطاب المتلقي إلي عالمها الخاص دون أن يدري مذهلة، إلمام وجهها ليس فقط بمفردات التفاعل مع الكاميرا إنما مفردات التجاوب معها شاسع جدًا، وهذا شئ فطري لا يمكن تعلمه، لكن، إن كنت أظن أن تفردها يعود بالأساس إلي انتباهها المبكر إلي خطأ يماطل المتخصصون حتي الآن في تصحيحه فلأن ذلك علي الأرجح هو سر تفردها، إنها ليست ممثلة، لا كسرت بعدًا علي طول الطريق ولا تورطت في انفعالات متشنجة، ولا لقب "الممثل" يليق بفنان، فالتمثيل في أبسط صوره ليس مضاهاة الطبيعة إنما الطبيعة ذاتها، ليس واقعًا موازيًا إنما سردٌ أمين للواقع نفسه، ما ليس طبيعيًا ليس فناً!
وما كنت أظنها في البداية مجازفة ً هي عودة "سيمون" من خلال عمل اجتماعي يعكس واقع المهمشين بقسوته وتوتره وصراعاته في وطن يحلم سكانه بالهروب من قبح الواقع إلي واقع بديل، مزيف، يأخذهم بعيدًا عن مآسيهم، يخدرهم، لكن، أن نقدم لهم انعكاس واقعهم المرير ونطلب منهم أن يتفاعلوا معه فاحتمالات العزوف كبيرة جدًا..
تزداد احتمالات العزوف حدة مع شغف المخرج "سامح عبد العزيز" بسرد الأحداث تصاعديًا لا حشدها وتكثيفها في البدايات، هذا يعني أن إيقاع الدراما سوف يسير في نطاقه المرسوم، فهو يعلو أو ينخفض طبقاً لتقدم النص دون أن يقيم وزناً لشهية المتلقي، يبدو أن الاختبار كان عسيرًا! 
أعترف الآن بأنني كنت مخطئاً، لقد نسيتُ أن عودة "سيمون" بحد ذاتها كانت حدثاً من شأنه أن يأخذ "بين السرايات" إلي مرتفعات شاهقة من معدلات المشاهدة والإثارة، دعاية مجانية لعمل في طور الإنشاء، وهذا تمامًا هو الذي حدث، ذلك أن وجودها عزَّزَ من شعبية العمل وأضفي عليه زخمًا يصعب تصديقه، لقد ضربت قلوب الكثيرين موجةٌ عنيفة من الشغف برؤية جزء سُكَّريٍّ يخرج من متون الغياب يصلهم بماضيهم، وعندما رأي "سيمون" من لم يرها في صاحبة السعادة مع "إسعاد يونس" لأول مرة نسي الكثيرون حالتهم في تفاصيل وجهها، لقد أصيبوا بصدمةٍ ميسرة، ما زالت جميلة ورائقة كالعهد بها!
وكالعهد بـ "أحمد عبد الله" كان النص هادئاً، والنسيج الدرامي صلبًا ومكثفاً، والشخصيات منحوتة بتدبر، وهي تنمو في سياقها الطبيعي، والعلاقات بينها مبررة وواقعية! 
كان الانطباع المبدئي من اسم العمل أن البطولة للمكان، كما أن إخلاص "أحمد عبد الله" لتيمة المكان أكدته عدة تجارب سابقة، حيث لا بطل محوري يعمل الآخرون علي تربية شخصيته ولا حكاية بطل، آلية في الكتابة تضع الكاتب بمأمن من الاتهام بترك مناطق رمادية ورائه، فاستدارة حكاية من شأنها أن تعوض عدم نضج حكاية أخري، كما تفتح أمامه بوابة كبيرة للفرار من شبهة استدعاء تجارب سابقة، وتمنحه رفاهية التحرك فوق مساحة واسعة من آفاق التلقي وسرد مستويات مختلفة من المفردات الإنسانية، لكل بطل حكايته الخاصة، ولكل حكاية أبطالها الثانويون الذين يمتلكون دائمًا فرص التسلل إلي مركز الضوء مع تقدم الخط الدرامي وانحساره، وهذا ما استفادت منه "سيمون" كثيرًا، كيف؟
في مثل هذا الأحوال، يصبح الوضع في البلاتوه محمومًا، وتلعب أدوات الفنان الخاصة دورًا مهمًا في تنمية شخصيته، إنه امتحان لمعرفة المزيف من الحقيقي، غير أن قوة روح "سيمون"، وولع الكاميرا بوجهها، من قبل حتي أن تنطفئ المعركة الدرامية في "بين السرايات"، جعلت السؤال عن بطل العمل ينكمش إلي إجابة واحدة: "سيمون"، طبعًا!
ولا ألوم أحدًا علي عزفه، لقد فعل معظمهم أقصي ما يستطيع.. 
كان "صبري فواز" كعادته منصة درامية فادحة، "سيد رجب" كان شديد اللياقة أيضًا، وأكد "محمد شاهين" أنه ينضج بوتيرة مرضية، ونجحت "نجلاء بدر" في الخروج من قفص الحسناء، لم يتطلب هذا أكثر من بطالة ماكييرها لبعض الوقت يثبت خلاله أن الماكيير بإمكانه تزوير الملامح أيضًا..
لكن "باسم سمرة"، لا أدري هل لتعمد الكاتب أن تبدو الشخصية هكذا ملتبسة أم لتقصيره هو واستعجاله أثناء القراءة، أخطأ الإمساك بخيوط "مخلص" وأبعاده جيدًا! 
بينما فضلت "روجينا" المراوحة في مكانها، وبالقدر نفسه، "أيتن عامر"، لم تضف كلتاهما إلي أفكار المتلقي السابقة عنهما جديدًا!
إن مما هو في حكم المؤكد أن 30 يومًا قضتها "سيمون" في "بين السرايات" سوف تهيؤها للتحليق في آفاق أكثر رحابة، كانت كيمامة أطلقتها في البراري، عندما تراها تحلق في السماء تشعر بأنه أنسب مكان لها فحسب..

04 سبتمبر 2015

سعيد نصر يكتب : أرجوك متستحمرنيش .. مش قادر أبقى حمار

برغم حدوث "ثورتين" ، إلا أن ثالوث "الاستحمار والاستهبال والاستخفاف " عاد وسيطر على المشهد وبشكل غير مسبوق ، حتى فى أسوأ فترات الرئيس الأسبق حسنى مبارك .
ففى الوقت الذى مازال فيه الرئيس السيسى متمترسا عند" مفيش مفيش.. مش قادر أديك"، لدواعى يراها هو ونصدقه فيها ، نجد المستشار أحمد الزند وزير العدل يعطى الخبراء بوزارة العدل والمحاكم حافزا بحد أدنى 700 جنيه وبحد أقصى 1200 جنيه ، أى بما يعادل الحد الأدنى للأجور الذى يطالب به العمال ، ورفضه اصحاب الشركات بالقطاع الخاص ، والذى لم تزل منشآت حكومية غير قادرة على الوفاء به لموظفيها . 
أيضا مجلس القضاء الأعلى- مع احترامنا الشديد له - إتخذ قرارا فى منتهى الغرابة ، حيث أعطى منحة 5 ألاف جنيه لوكلاء النيابة والقضاة ، دون مراعاة لمقولة السيسى "مفيش مفيش .. مش قادر أديك"، ودون مراعاة للمغزى السىء لتزامن هذه المنحة السخية مع بدء إجراءات الانتخابات البرلمانية ، وهى منحة سخية بمنظور الموظفين البسطاء الذين يطمحون فى منحة ولو 50 جنيها ويقال لهم " مفيش مفيش .. مش قادر أديك " .
والمضحك أنه عندما تنتقد ذلك يقولون لك " مجلس القضاء الأعلى لم يكلف وزارة المالية شيئا ، لأنه أعطاهم من ميزانيته الخاصة " ، وكأنه لم يحصل على هذه الميزانية من الشعب ، والعجيب أنهم يقولون هذا الكلام دون أدنى دراية منهم بأن ما يقولونه فى منتهى الخطورة ، لأنه يوحى - ولو بالتلميح لا التصريح- بأن القضاء دولة داخل الدولة ، وربما يدركون ذلك ولكنهم يستحمروننا ويستخفون بعقولنا فى فترة لم يعد فيها للعقل مكانا ، تحت وطأة الطبل والرقص والزمر ، وكأن هذا الثالوث الصاخب الهادف للتعمية وفرض منطق الوصاية على الجميع أصبح بمثابة جزءا أساسيا فى إستراتيجية محاربة الإرهاب! 
وبرغم أن الشعب كله يحارب الإرهاب ، وبرغم أنهم يحاربونه بتفويض من الشعب ، وبرغم أن الإرهاب يستهدف الشعب كله ، خرج علينا المجلس الأعلى للجامعات الذى يترأسه وزير التعليم العالى بقرار غريب وشاذ يستثنى قيادات القضاء والجيش والشرطة من منظومة التوزيع الجغرافى فى تنسيق طلاب الثانوية العامة للإلتحاق بالجامعات ، دون الالتفات إلى أن القرار يعصف بمبدأ العدالة الاجتماعية وبمبدأ تكافؤ الفرص ، باعتبارهما أهم هدفين اندلعت من أجلهما معظم الثورات على مر التاريخ ؟ 
والغريب فى القرار المشار إليه أنه جاء بدافع أنهم مهددين من الإرهاب ، برغم أن الشعب كله مهدد بالإرهاب ، بدليل أن معظم الذين استشهدوا فى عمليات إرهابية ، إما جنود يؤدون خدمة عسكرية إلزامية ، أى مدنيين ، وإما مدنيين تصادف وجودهم فى ذات المكان مع توقيت وقوع التفجيرات ، وبالتالى فإن هذه الدافع ليس وجيها ، ولا ينطلى على أحد ، و لا يوحى بأننا نسير فى الطريق إلى المجتمع الأفضل ، أو الدولة الأكثر ديمقراطية ، حتى بمنظور العدالة الاجتماعية فقط ، خاصة وأن تلك الشريحة المستثناة ، هى الأقدر على تحمل نفقات اغتراب أبنائهم فى الكليات التى يلتحقون بها ، مقارنة بأبناء صغار الفلاحين والعمال والبسطاء والأرزقية باعتبارهم أغلبية الشعب ، الحامى للجميع من الإرهاب ، بدليل أن الرئيس السيسى ، طلب تفويضه لمحاربة الإرهاب ، عندما كان وزيرا للدفاع . 
وما يدهشنى هنا ، هو أن هؤلاء الذين يتخذون قرارات عجيبة وغريبة من تلك النوعية، لم يعد لديهم أى خوف أو قلق من احتمال يقظة الشعب وإفاقته وانتباهته ، و كأن الشعب فى منظورهم قد مات ، وهو ما اعتبره أخطر ما فى الموضوع ، خاصة وأنه خطير على الرئيس السيسى نفسه .

03 سبتمبر 2015

د. عمرو حمزاوي يكتب : فرصتنا الضائعة

وترضخ لشروط وظيفة وحيدة هى تبرير الظلم والقمع، تفتقد بلادنا مكونا جوهريا من مكونات تحقيق العدل والتقدم والانتصار لحرية المواطن واستعادة السلم الأهلى للمجتمع والحفاظ على تماسك الدولة الوطنية.
وﻷن السلطوية الجديدة لا ترى فى منظمات وهيئات المجتمع المدنى سوى القوى الهدامة والفوضوية التى يتوهم الحاكم الفرد وتتوهم المؤسسات والأجهزة الأمنية دوما حضورها ما أن تطلب الديمقراطية ويقاوم العصف بسيادة القانون وﻷن السلطوية الجديدة تعمل زيفا على احتكار مضامين الوطنية والصالح العام لكى تمرر فى خطوة تالية الادعاء المتهافت بانتفاء حرص المجتمع المدنى على الوطن، تتعرض بوجه خاص المنظمات الحقوقية ومبادرات الدفاع عن الحريات والهيئات المعنية بالعدالة الانتقالية لصنوف متنوعة من القمع تبدأ بتمرير القوانين الاستثنائية وتتواصل بسلب حرية العاملين فى المجتمع المدنى ولا تنتهى أبدا عند حملات التخوين والتشويه وإسكات الأصوات المستقلة عبر ممارسات الاغتيال المعنوى.
ولأن السلطوية الجديدة تتعامل مع المجتمع المدنى كعدو ــ شأنه هنا شأن المواطن المتمسك بحرية الفكر والتعبير عن الرأى والرافض للصمت على المظالم والانتهاكات ــ تهجر المنظمات الحقوقية ومبادرات الدفاع عن الحريات وهيئات العدالة الانتقالية، بل وكافة أشكال العمل التطوعى بين المواطنات والمواطنين، بعيدا عن المجال العام وتهميش أطروحاتها الاقتصادية منها والاجتماعية والثقافية تماما كالقانوية والسياسية.
ولأن السلطوية الجديدة تخلق بين الناس الانطباع الكارثى أن الحاكم الفرد المسيطر على مؤسسات وأجهزة الدولة الوطنية هو الوحيد القادر على «دفع البلاد نحو الاستقرار والتقدم والتنمية» وأن المجتمع المدنى فى المجمل ما هو إلا عنصر تعويق يتعين إما إخضاعه أو إزاحته بالكامل، شأنه فى هذه الحالة شأن المصالح المتوسطة والصغيرة فى القطاع الخاص التى تعانى اليوم بشدة فى سعيها لإطلاق المبادرة الفردية والنجاة من ثنائية الاستتباع نظير الحماية والعوائد التى تعتاش عليها حيتان السوق الكبيرة، تخسر مصر مواطنا ومجتمعا ودولة طاقات منظمات ومبادرات وهيئات طوعية وواعية تستطيع نشر قيم العقل والعلم والعدل والحرية والمساواة والجمال والتنوير فى مواجهة الجنون والجهل والظلم والتطرف والكراهية، وتستطيع العمل بفاعلية ﻹنجاز قيم الاستقرار والتقدم والتنمية المستدامة التى نريدها حقيقة مجتمعية راسخة لا تختزل فى دعاية السلطوية الجديدة أو أوهام طيور الظلام والمكارثيين، وتستطيع أن تكون قاطرة مصر نحو الديمقراطية. والأخيرة هى التى يحاربونها ويحاربون المطالبين بها بقسوة

01 سبتمبر 2015

المفكر القومى محمد سيف الدولة يكتب : حين سجنوا مصر فى 1981

حين يواجه الناس نظاما مستبدا باطشا ينتهك الدستور والقوانين، ويصادر الحقوق و الحريات، ويقضى على العدالة ويؤمم الحياة السياسية ويحظر المعارضة ويطاردها، ويعتقل من يريد منها، وينشر أجواء من الشك والتخوين والتحريض والكراهية، ويحكم قبضة الامنية على كل شئ.
وحين يشعر الناس بالعجز ولا يعرفون ماذا يفعلون فى مواجهة كل ذلك، بعد ان تم تجريدهم من كل ادوات الرأى والتعبير والاعتراض والمشاركة، فانهم يبحثون فى تاريخهم القريب عن محن مشابهة علهم يجدون فيها دروسا او مخارج لمحنتهم ومحنة البلد الحزينة.
وكذلك حين يضرب داء الصمت قطاعات واسعة من المفكرين والمثقفين والسياسيين والنخب، فيصمتون عن آلة البطش والاستبداد بل ويباركونها احيانا. فانه قد يكون من المفيد تذكيرهم بمحنهم الشخصية حين كانوا هم الضحايا ونزلاء السجون.
***
فى مثل هذه الايام منذ 34 سنة، عاشت مصر محنة اعتقالات سبتمبر الشهيرة، حين انطلقت قوات الامن وسيارات الترحيلات لتعتقل آلاف المصريين وتشحنهم الى السجون.
بررها السادات حينها بان هناك فئات مخربة تهدد الوحدة الوطنية و السلام الاجتماعي و سلامة الوطن مما يستوجب اتخاذ تدابير استثنائية لإنقاذ البلاد. وقال بالنص فى خطابه فى 5 سبتمبر 1981:
((منذ فترة ليست بالقصيرة حاولت بعض الفئات المخربة في مراحل متعددة إحداث فتنة طائفية بين أبناء الأمة وعملت جاهدة للقضاء علي وحدتها الوطنية، مستعملة في سبيل تحقيق أغراضها بعض الشعارات المضللة والوسائل غير المشروعة نفسية ومادية لتعويق مسيرة الشعب في طريق تنميته وازدهاره وديمقراطيته، ..
وفي الآونة الأخيرة بصفة خاصة وقعت أحداث جسيمة هددت الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي، إلا أن هذه الفتنة الباغية قد استرسلت في غيها واستهانت بكل القيم والقوانين، وتنكبت عن الطريق السوي وسلكت سبيل العنف والإرهاب وسفك الدماء وتهديد الآمنين، كما أن بعض الأفراد قد استغلوا هذه الأحداث وعملوا علي تصعيدها، الأمر الذي يجب معه اتخاذ إجراءات سريعة وفورية لمواجهة هذا الخطر الذي هدد الوحدة الوطنية وسلامة الوطن..))
***
كان القائمة الاولى للمعتقلين تضم 1536 شخصا، من الكتاب والمفكرين والسياسيين والمثقفين الذين ينتمون الى كافة التيارات الفكرية والسياسية المصرية بلا استثناء. ولأول مرة تجد القومى مع الاشتراكى مع الليبرالى مع الاسلامى مع الشيخ مع القس فى زنازين واحدة أو عنابر مشتركة.
كان من ابرز المعتقلين، فتحى رضوان، عبد العزيز الشوربجى، عصمت سيف الدولة، نبيل الهلالى، حلمى مراد، فؤاد سراج الدين، فريد عبد الكريم، محمد حسنين هيكل، محمد فايق، عبد العظيم ابو العطا، محمود القاضى، عمر التلمسانى، مصطفى مشهور، الشيخ المحلاوى، الشيخ كشك، اسماعيل صبرى عبد الله، فؤاد مرسى، عبد الغفار شكر، حسين عبد الرازق، عبد المنعم ابو الفتوح، حمدين صباحى، كمال ابو عيطه، ابو الفضل الجيزاوى، لطيفة الزيات، امينة رشيد، ميلاد حنا، ابو العلا ماضى، كمال السنانيرى، عبد العظيم مناف، صلاح عيسى، عبد العظيم المغربى وآخرين.
***
وتم تكليف اجهزة التحقيق، بالتعاون مع وزارة الداخلية، بتقسيم المعتقلين فرق و جماعات، وتفصيل وتلفيق التهمة المناسبة لكل فريق. وشهدت جلسات التحقيق مهازل نتيجة تهافت التهم والأوراق.
ولم يقتصر الأمر على الاعتقالات، بل صدرت حزمة إضافية من القرارات ضد عديد من الشخصيات والمؤسسات الأخرى:
· فتم نقل بعض أعضاء هيئة التدريس والجامعات والمعاهد العليا من وظائفهم بذريعة ممارستهم أنشطة لها تأثير ضار على الرأي العام، و تربية الشباب و تهدد الوحدة الوطنية أو السلام الاجتماعي أو سلامة الوطن.
· كما تم نقل بعض الصحفيين والعاملين بالمؤسسات الصحفية القومية واتحاد الإذاعة والتليفزيون والمجلس الأعلي للثقافة إلي هيئة الاستعلامات بنفس الذرائع.
· و تم التحفظ علي أموال بعض الهيئات والمنظمات والجماعات والجمعيات بذريعة انها مارست نشاطاً أو أعمالاً هددت الوحدة الوطنية أو السلام الاجتماعي أو سلامة الوطن.
· كما تم حل بعض الجمعيات لنفس الذريعة .
· وتم الغاء التراخيص الممنوحة بإصدار بعض الصحف والمطبوعات مع التحفظ علي أموالها ومقارها.
· كم تم عزل البابا شنودة من منصبه، وتعيين لجنة خماسية من الاساقفة للقيام بالمهام البابوية، وهو القرار الذى صاحبه اعتقال عشرات من المسيحيين والزج بهم فى السجون ضمن القائمة الاولى، المذكورة عاليه، للمتحفظ عليهم كما كانوا يسمونهم وقتها.
***
وخرج رجال السادات، وصبية النظام فى البرلمان والمنابر والاعلامية والصحفية، يبايعونه كما يفعلون مع كل رئيس، بل ويزايدون عليه ويصرخون بأعلى أصواتهم ((أن اضرب بيد من حديد، فالشعب معك و وراءك))
وخرجت مانشتات الصحف الحكومية تتحدث عن المؤامرات والخونة والعملاء والفتن الطائفية وتختلق مزيد من التهم والادعاءات وتضخم وتبالغ فيها بغرض التشهير والطعن فى وطنية وشرف المعتقلين .
كانت ايام سوداء على مصر، لم يخفف من وقعها سوى ان الجميع بدون استثناء كانوا جنبا الى جنب فى السجون، فهونت،وحدتهم فى الظلم، عليهم وعلى ذويهم،. كانت مصر كلها مسجونة.
لقد كان هناك حالة وحدوية قريبة الشبه بحالة ميدان التحرير فى الثمانية عشر يوم الأولى من الثورة من 25 يناير الى 11 فبراير 2011، والتى أحب دائما أن أسميها ((الـ 18 البيض)).
***
كان السبب الذى اعلنه السادتيون فيما بعد تبريرا لهذه الحملة، هو انه اراد تأمين الجبهة الداخلية وحمايتها من اى معارضة او قلاقل، يمكن أن تعطى ذريعة لاسرائيل لإلغاء أو لتعطيل انسحابها المزمع من سيناء فى ابريل 1982.
أما السبب الفعلى هو ان القوة الوطنية المصرية كانت فى حالة مخاض ثورى فى مواجهة السادات ونظامه وكانت فى سبيلها الى تشكيل جبهة وطنية موحدة لإسقاطه، بعد ان سلم مصر للأمريكان، وتصالح مع العدو الصهيونى ووقع اتفاقيات كامب ديفيد التى قيدت السيادة المصرية فى سيناء، وأخرجت مصر من مكانتها العربية والاقليمية، وسلم ادارة الاقتصاد المصرى لصندوق النقد الدولى ونادى باريس، وفتح الباب لراس المال الاجنبى ووكلاءه من رجال الاعمال المصريين لاستباحة ثروات مصر ومقدراتها، ناهيك عن تعميق سياسات الاستبداد بترسانة من الاجراءات والقوانين المقيدة للحريات. 
ولكن للأسف الشديد، أدىت جريمة اغتيال السادات فى اكتوبر 1981، والإتيان بمبارك خلفا له، الى وأد هذا الحراك الثورى وتعطيله وتأجيله 30 سنة.
***
هل هناك فرق بين اجواء الاستبداد فى سبتمبر 1981، وبين أجوائه اليوم؟
بالطبع هناك فروق تتعلق بموقف النظام من القوى والتيارات والشخصيات السياسية المعارضة، ومن منها يقرر سجنه و حظره، ومن منها يكتفى بحصاره والتضييق عليه.
وهو موقف يرتبط بتقدير النظام فى كل عصر أو مرحلة، للقوى السياسية ودرجة خطورتها عليه، من حيث قدرتها على التأثير فى الرأى العام أو المنافسة على السلطة المحرمة على الجميع.
فى 1981، كان السادات يرى أن القوة المدنية أشد خطورة عليه من الاسلاميين. ولكن المعادلة اليوم، ومنذ سنوات طويلة، قد اختلفت بعد أن قام النظام بتوجيه ضربات متتالية للقوى المدنية، وبالذات لأجنحتها القومية واليسارية.
ولكن فى الحالتين؛ فى 1981 و 2015، فان الحظر شمل كل فصائل المعارضة الحقيقية اياً كان انتماءاتها السياسية او الفكرية. بدليل سجن عشرات من الشباب الذين شاركوا فى 30 يونيو، بالإضافة الى ما تتعرض له المعارضة المدنية، هى الأخرى، من حملات الشيطنة والتشهير والتضييق.
والخلاصة انه فى الحالتين، نحن بصدد "استبداد الدولة" وبكل ما تملكه من امكانيات ومؤسسات وأدوات للسيطرة والقمع، وبكل ما تروجه من مبررات وذرائع، فى مواجهة معارضة سياسية محاصرة ومجردة من اى امكانية للتعبير او للتغيير.
*****

30 أغسطس 2015

محمد رفعت الدومي يكتب: مع ابن الرومي.. ذلك أفضل جدًا

لا أحب الكتابة عن شاعر قديم لسببين: أولهما أنني حين أفعل أكون ملزمًا لتكتمل الصورة الذهنية عند المتلقي بأن ألمس شيئاً من شعره، وهو بالضرورة شعر غاصٌّ بالألفاظ التي الآن حوشيّة ومهجورة ومثيرة للسخرية، لغة أخري قد انحسرت
السبب الثاني، وهذا هو الأهم، هو أن الشعر لم يعد ذلك الكلام الموزون المقفي فقط إنما هو تفتيت الواقع إلي رموز وإشارات والعكس، وهذا جدير بأن يطرد غابة من الناظمين الأوائل خارج دائرة الشعراء بكل بساطة، فما من شك أن معظم أشعار القدماء لم نعد نلمس فيها من الشعر إلا حساسية الشاعر وحدها! 
تتفاقم المشكلة عند الكتابة عن شاعر قديم مثل "ابن الرومي" وتتخذ أبعادًا أكثر تعقيدًا، ذلك أن كاتب وحيه كان لا يخجل من الخوض في كل شئ وأي شئ، وهذان البيتان یهجو بهما "خالدًا القحطبي" عينة مهذبة جدًا من هجائه:
أيا ابن التي كانت تحيضُ مِنَ اسْتها / يد الخرِّ لم يطهر لها قطُّ مِئزرُ
إذا ما وني عنها الزناةُ دعتهُمو / شقائقُ من أرحامِها الخضر تَهدِر..
كما أنه كان يوظف اللغة الفارسية في شعره بإسراف، وثمة قول مأثور يدَّعي: "لولا الفرزدق لضاع ثلث اللغة العربية"، وإذا كان الأمر هكذا، أجدني لا أجد غضاضة في أن أقول: "لولا ابن الرومي لضاع ثلث اللغة الفارسية"!
وشاعرنا "ابن الرومي" ربيبٌ لخرافةٍ كان يستطيع من خلالها أن يكشف عورات خصومه ارتجالاً، وأن يترك في القلوب وهو غير عاقدٍ العزم ندوبًا ومسرات، كما كان، وما زال، أقوي الشعراء روحًا علي الإطلاق، لذلك، من الضار جدًا قراءة شعره فقط لوقت طويل في عزلة، ذلك أنه، لقوة روحه، يستطيع بكل بساطة أن يسيطر علي روح المتلقي وينكأ فيها ثقوبًا كبيرة يتسلل منها إلي الداخل تشاؤمه ويأسه وتبرمه بالناس وبالحياة، وما من شك أن كل الشعراء الذين عاصروه والذين جاءوا بعده قد انتبهوا إلي تفرده وأدركوا قدره وحدقوا النظر طويلاً في شعره، ولا أستثني "المتنبي"، فبيت الأخير:
يا أعدل الناس إلا في محاكمتي / فيك الخصام وأنت الخصمُ والحكمُ
ما هو إلا صناعة أكثر جودة من صناعة بيت "ابن الرومي":
غـدا الدهرُ لي خصماً وفيَّ مُحَكَّمًا / فـكيف بخصم ضالع وهُوَ الحَكَمْ
شاعر جلل، لست هنا لأضئ مكانته الشعرية فهو أضخم من ذلك بكثير، وقد سبقني في الكتابة عنه أفذاذٌ أضاءوا الرجل من كل جوانبه، وبروايته هو، وكبحوا ذلك التيار العنيف من التجاهل من كتاب عصره لأسباب شخصية، وهذا خطأ الكتاب المزمن، لا ينحون مشاعرهم جانبًا أثناء الكتابة! 
وفيما يبدو أن حقد كتاب عصره عليه كان عارمًا بالقدر الذي معه لم يكن تجاهله فقط كافيًا لتهدئة قلوبهم روجوا شائعة تدعي أنه "نحس"، ولا أفهم سر جاذبية هذه التهمة في كل زمان ومكان، ولقد نجحوا إلي حد بعيد، لقد راجت الشائعة فعلاً ونجحت في كسر حاجز الزمن حتي طرقت بوابات "عباس العقاد" فصدقها واشترك في الترويج لها، وادعي أنه عندما عقد العزم علي الكتابة عن "ابن الرومي" (كسر ساقه ما لا يكسر)، وأن مطبعة قد احترقت عندما أراد صاحبها نشر كتاب عنه!
وكتاب عصره، بالإضافة إلي الترويج لنحسه، تعمدوا أيضًا حجب اسمه عن الموسوعات الأدبية القديمة والتراجم وكتب تاريخ الأدب كـ "أغاني أبي الفرج الأصفهاني" و "العقد الفريد" لـ "ابن عبد ربه" وطبقات "ابن المعتز" و "الكامل في اللغة والأدب لـ " المبرد"، لأسباب شخصية! 
لقد تجاهله "ابن المعتز" في طبقاته لأنه هجا أباه بقوله:
دع الخلافة يا معتز من كثـبٍ / فلـيس يكسوك منها الله ما سلـبا
وهو لم يهج "المعتز بالله" وحده، لقد عاصر "ابن الرومي" ثمانية من خلفاء بني العباس، وكانت علاقته بهم جميعًا سيئة، وكانوا يرفضون مديحه ويحجبونه عن الدخول إلي قصور الخلافة ويعيدون إليه قصائده، ولديهم في ذلك عذر وجيه يوضحه قول "المرزباني":
"لا أعلم أنه مدح أحدًا من رئيس أو مرؤوس إلا وعاد إليه فهجاه، ولذلك قلت فائدته من قول الشعر وتحاماه الرؤساء"
وتجاهله "المبرد" لأنه رجمه بالشذوذ والخنوثة:
ودَّ المـبرِّد أن الله بَـدَّله / من كل جارحةٍ في جسمه دُبُرا
فاعطه يا إله الناس منيته / ولا تُبَقِّ له سمعًا ولا بصرا
أما سبب تجاهل "الأصفهاني" له فهو في عهدة "عباس العقاد" حيث يقول:
"سكت (أبو الفرج) عن هذا الشاعر اتقاء لمن هجاهم وأقذع في هجائهم من سروات زمانه وأولهم أستاذ (أبي الفرج)، ولعله سكت لأسباب أخري، وبعض هذه الأسباب أن صاحب الأغاني لم يكن مستطيعًا أن يقدر (ابن الرومي) حق قدره وأنه كان أمويَّاً، وكان (ابن الرومي) شديد الكراهية للأمويين"
وكل من قرأ "ابن الرومي" يعرف جيدًا ألا أحدًا من أهل زمانه سلم من سلاطة لسانه، وكان في هجائه ديمقراطيّاً سابقاً لأوانه، لا فرق عنده بين خليفة ولا جار ولا حمال ولا شرطي ولا شاعر ولا فقيه ولا نحوي ولا قاض ولا عالم ولا وزير ولا كاتب، حتي أن هجاءه طال مغنية اسمها "شنطف":
شنطفُ يا عوذة السموات والأرض .. وشمس النهار والقمر
إن كان إبليس خالقاً بشرًا .. فأنت عندي من ذلك البشر
المضحك أن أباه حتي كان من بين ضحاياه، ليخلد "ابن الرومي" عقوقه في بيت مثير:
لو كان مثلك في زمانِ محمَّدٍ / ماجاء في القرآن برّ الوالدِ
"جرير" فعل ذلك أيضًا، كما هجا "الحطيئة" أمه!
وما من شك أن "ابن الرومي" قد تأثر كثيرًا بـ "دعبل الخزاعي"، ولعل شهرة الأخير في الهجاء قد امتصت ذهنه مبكرًا جدًا، ويقال أن أول شعر له كان هجاءًا في زميل له بالكُتَّاب، ولقد فطن "أبو العلاء المعري" إلي تلك العلاقة بوضوح فقيدهما جنبًا إلي جنب في بيتٍ واحد:
لو نطق الدهرُ هجا أهله / كأنه "الروميُّ" أو "دعبلُ"!
لكن الفرق العارم بينه وبين أستاذه "دعبل" هو قدرة "ابن الرومي" المذهلة علي تصيد اللحظة الشعرية في ذروة حرارتها واختراقها من الداخل وتوظيفها حتي جذورها في شعره، وبالقدر نفسه، خيالاته المجنحة!
علي سبيل المثال، لا يستطيع "دعبل" ولا غيره أن يسقط علي هذا المعني عندما يهجو رجلاً اسمه "عيسي" بالبخل:
یُقتِّرُ عیسي علی نفسِهِ / ولیس بباقٍ ولا خالدِ
فلَو یستطیع لتقتیره / تنفّسَ من مِنخرٍ واحد
يقصد أن "عيسي"، ذلك المسكين الذي وضعه سوء طالعه في طريق "ابن الرومي"، لشدة بخله، لو استطاع أن يتنفس من ثقب واحد من ثقبي أنفه لفعل!
كما لا يستطيع "دعبل" ولا غيره أن يوظِّف بيتاً فارغاً في الهجاء كما فعل "ابن الرومي" عندما قال:
مستفعلن فاعلن فعولُ / مستفعلن فاعلن فعولُ
بیتٌ كمعناك لیس فیه / معنی سوی أنّه فضول
يقصد أنه مجرد فضول علي الحياة وأهلها، فارغٌ من المعني!
كما لا يستطيع "دعبل" ولا غيره أن يتخيل أنفاً يمتد من "فلسطين" إلي "مكة":
لك أنف يا ابن حربٍ / أنِفت منه الأنوفُ
أنت في القدس تصلي / وهو في البيت يطوف
لعبقريته هذه وجاذبية شعره، علي الرغم من إصرار معاصريه علي احتجاز الضوء عن الوصول لاسمه، ظل اسمه يتنامي بمرور الأيام، ويستثير حماس المؤجلين للكتابة عنه والانتصار له حتي قال "المرزباني" في " معجم الشعراء ":
"أشعرأهل زمانه بعد (البحتري)، وأكثرهم شعرًا، وأحسنهم أوصافاً، وأبلغهم هجاءًا، وأوسعهم افتناناً في سائر أجناس الشعر وضروبه وقوافيه يُرَكّب مِن ذلك ما هو صعب متناوله على غيره، ويلزم نفسه ما لا يلزمه، ويخلط كلامه بألفاظٍ منطقية يُجَمِّل لها المعاني، ثم يفصلها بأحسن وصف وأعذب لفظ، وهو في الهجاء مقدم لا يلحقه فيه أحد من أهل عصره غزارة قول وخبث منطق"
وكلام "المرزباني" كلام يفضح وعيه العميق بصناعة الشعر كما وعيه العميق بأبعاد "ابن الرومي"، غير أنه أخفق في حكمه بأن "البحتري" أشعر من "ابن الرومي"، ربما لم تصل "المرزباني" رواية تؤكد أن "البحتري"، لوعيه العميق بفداحة أدوات شاعرنا، كان يعطيه (أتاوة) خشية من أن يناصبه الهجاء، حدث ذلك بعد هجوم "ابن الرومي" المباغت عليه عندما قال:
قبحاً لأشياء يأتي البحتريُّ بها / من شعره الغثِّ بعد الكدِّ والتعبِ
شعرٌ يغير عليه باسلاً بطلاً / وينشدُ الناسَ إياه على رتب
لا مناطق رمادية عند "ابن الرومي"، لا نفاق ولا مهادنة في عصر يستمرئ أهله النفاق والاتهام بالكرم وبالبطولات الوهمية، لذلك، كان "البحتري" ومن هو أقل منه بكثير، بكثير جدًا، يحرزون الأموال والضياع والشهرة وهو يراوح مكانه، كان ذلك هو السبب المفصلي لكل خيباته وفشله لا قوله في هجاء "البحتري":
الحظُّ أعمي، ولولا ذاك لم نَرَهُ / للبحتريِّ بلا عقلٍ ولا حسبِ
ليس الحظ بالتأكيد هو سبب صعود "البحتري" إنما تفهمه الغائر لزمانه وامتلاكه التام لأدوات التعامل مع أهل زمانه لا كـ "ابن الرومي" الذي تفرد دون غيره من الشعراء بوعيه العميق بأزمة الناس الأخلاقية، وبدناءة زمانه الذي لا يصعد فيه إلا الرعاع وسفهاء القوم، ولكنه أبي أن ينسجم مع ذلك الوضع أو يتأقلم معه حتي!
وهذة رواية مؤكدة تختزل كل عصر "ابن الرومي" بوضوح صارم:
عندما مدح الوزير " أبو الصقر إسماعيل بن بلبل" بقصيدة منها:
قالوا أبو الصَّقر من شيبان قلت لهم / كلاّ لعمري، ولكن منه شيبان
قال "أبو الصقر" لما سمعها: 
- هجاني والله!
قيل له: 
- هذا من أحسن المديح، واسمع ما بعده:
وكم أبٍ قد علا بابن ذرى شرفٍ / كما علا برسول الله عدنان
فقال: 
- أنا بشيبان، ليس شيبان بي
قيل له: 
- فقد قال:
ولم أقصَّرْ بشيبانَ التي بلغتْ / لها المبالغَ أعراقٌُ وأغصانُ
لله شيبانُ قومٌ لا يشيبهم / روعٌ إذا الروع شابت منه ولدانُ
قال: 
- لا والله، لا أعطيه أبدًا
هذا هو النصف الفارغ من الكوب، لكن النصف الممتلئ منه هو أن "أبا الصقر" ذاك مجرد جرذ تاريخي سوف يبقي أشهر ما التقط التاريخ من مروره بالحياة هو موقفه الغبيِّ هذا من "ابن الرومي"!
ويبقي "ابن رشيق" أكثر الكتاب وعيًا بقدر "ابن الرومي"، فقد قال عنه في كتابه " العمدة ":
"وأما (ابن الرومي) فأولي الناس باسم شاعر، لكثرة اختراعه، وحسن افتنانه، وقد غلب عليه الهجاء حتى شهر به فصار يقال: أهجي من (ابن الرومي)، ومن أكثر من شيء عرف به، وليس هجاء (ابن الرومي) أجود من مدحه ولا أكثر، ولكن قليل الشر كثير!"
"ابن الرومي" أولي الناس باسم شاعر، حقيقة لا تحتاج إلي الوقائعية للحكم علي امتلائها، كل زاوية من شعره تمثل عالمًا قائمًا بذاته! 
حقيقة ممتلئة أخري لمسها "ابن رشيق" عندما ساوي بين الهجاء والشر بما يترتب عليه من استدعاء العداء وتربية الأعداء، وهكذا كان يفكر أهل زمان "ابن الرومي"، وأهل كل زمان، دربٌ من دروب الشعر نعم لكن سالكه يحتاج إلي اتزان شديد وسيطرة تامة علي عواطفه، كـ "البحتري" وغيره الذين كانوا يجيدون اختيار فرائسهم كما يجيدون الهجوم عليها في الوقت المناسب، والمهادنة أيضًا في الوقت المناسب، المختل فقط هو من يرجم الجميع بلا هوادة وعلي طول الطريق، وهكذا كان "ابن الرومي"، لقد كان من بين طقوسه أنه كان يكتب قصيدتين في وقت واحد، مدح وهجاء في نفس الشخص، وعندما ينتهي من كتابتهما يرسل إلي هدفه قصيدة المديح أولاً، فإذا تأخر الهدف في العطاء أيامًا، ربما لأسباب خارجة عن إرادته، لم يكن قلب "ابن الرومي" يهدأ حتي يتأكد من أن قصيدته في هجاء ذلك الشخص قد قطعت المسافات ومضغتها كل الألسنة، لذلك، كان كما قال عنه "طه حسين":
"نحن نعلم أنه كان سيء الحظ في حياته، ولم يكن محببًا إلى الناس، وإنما كان مبغضًا إليهم، وكان مُحسدًا أيضًا، ولم يكن أمره مقصورًا على سوء حظه، بل ربما كان سوء طبيعته، فقد كان حاد المزاج، مضطربه، معتل الطبع، ضعيف الأعصاب، حاد الحس جدًا، يكاد يبلغ من ذلك الإسراف"!
كان "ابن الرومي" مولي لـ "عبد الله بن عيسي"، ولعله كان يري شعوبيته نقصًا فيه، مع ذلك، له في ولائه للعباسيين شعر:
قوْمي بنو العباسِ حلمُهمُ / حِلْمي هَواك وجهلُهُم جهلي
نَبْلي نِبالُهُمُ إذا نزلتْ / بي شدةٌ ونِبالُهم نَبلي
لا أبتغي أبداً بهم بدلاً / لفَّ الإلهُ بشملهم شملي
ومع ذلك، نجده يمدح "علي بن أبي طالب"، جد الطالبيين أشهر خصوم بني العباس السياسيين في ذلك الوقت:
يا هند لم أعشق ومثلي لا يرى / عشقَ النساء ديانة وتحرجا
لكن حبي للوصي مخيمٌ / في الصدر يسرح في الفؤاد تولجا
فهو السراج المستنير ومن به / سبب النجاة من العذاب لمن نجا
ذلك التناقض وغموض الهوية الروحية يفضح ضعفًا شديدًا وسيولة عارمة في شخصية "ابن الرومي"!
قال الشعر مبكرًا جدًا، وقد جلدته الحياة بالكثير من الهزائم التي خلدها شعرًا، كان قد ورث عن والده ثروة فادحة أضاع جزءًا كبيرًا منها بتبذيره هو، وعصفت الكوارث بما تبقي منها، لقد احترقت ضيعته، واغتصبت داره، وأتى الجراد على زرعه، وشتت الموت شمل عائلته واحدًا تلو الآخر، افتتح الموت بوابات حزنه الطويل بموت والده، ثم التحقت والدته وأخوه الأكبر وخالته به، وعندما استحدث عائلته الخاصة وبيتاً جديدًا ماتت زوجته وأولاده الثلاثة أمام عينيه، فترك لنا واحدة من أجمل قصائد الرثاء في الشعر العربي عند موت ابنه الأوسط "محمد":
بُنَيَّ الذي أهْـدَتْهُ كَفَّـأيَ للثرَى / فَيَا عِزَّةَ المُهْدَى ويا حَسْرة المُهدِي
ألا قاتَل اللَّه المنايا ورَمْيَـها / من القَوْمِ حَبَّات القُلوب على عَمْدِ
تَوَخَّى حِمَامُ المـوتِ أوْسَـطَ صبْيَتي / فللّه كيفَ أخْتار وَاسطَةَ العِقْدِ
تلك الأحداث العصبية المؤسفة، بالإضافة إلي حساسيته المفرطة، جعلت مزاجه مريرًا وبدلت أخلاقه، وأصابته بالنزوع إلي العزلة والتشاؤم، هذا أضفي عليه مظهر الساخط علي مجتمعه، غريب الأطوار الذي يتوقع السوء دائمًا، وعلي الرغم من ذلك لم يتركه الناس وشأنه إنما اضطهدوه ووجدوا في السخرية منه رياضة مسلية، فاضطر من جانبه إلي الدفاع عن نفسه من الهامش الوحيد الذي يستطيع من خلاله الدفاع عن نفسه، إنه الهجاء لا أكثر، وبلا رحمة!
ليس غريبًا إذاً أن يتجاهله كتاب عصره، لكن، لحسن الحظ، كان "ابن الرومي" المسكين قد وجه لكل هؤلاء ضربة في الصميم، كأنه كان يتوقع تصرفهم، وقرر أن يفسد عليهم فرصة الانتقام منه والتشفي فيه، لقد أذاب حياته الشخصية وسيرته في شعره، وهذا ما انتبه إليه "العقاد" فكان كتابه الجميل:
(ابن الرومي: حياته من شعرهْ(.. 
ربما، ما فطن إليه"العقاد" واحتفظ به لنفسه أنه أذاب أيضًا واقع عصره بكل تفاصيله وأرخ للمرحلة شعرًا، لقد كتب تاريخاً موزوناَ مقفي إذا جاز ليَ التعبير وإذا لم يجز..
ومن شعره نعرف أن دماءًا مختلطة كانت تسيل في عروقه، نصفها يوناني الجذور ونصفها فارسي:
إنْ لم أَزُرْ مَلِكَاً أُشْجي الخُطوبَ بهِ / فلم يَلِدْنيْ أبو الأملاكِ يونانُ
بل إنْ تَعَدَّتْ فلم أُحْسِنُ سِياسَتَها / فلم يَلِدْنيْ أبو السُّوَّاسِ ساسان
ويضغط مرة أخري علي يونانيته:
ونحن بنو اليونانِ قومٌ لنا حِجًا / ومَجْدٌ وعِيْدانٌ صِلابُ المَعاجِمِ
ونستطيع أن نعرف أنه كان قبيحًا - ولا أحب أن أسمي ضآلة الحظ من الجمال قبحًا - من قوله:
ﺷﻐﻔﺖُ ﺑﺎﻟﺨرَّد اﻟﺤﺴﺎن وﻣﺎ / ﻳﺼﻠﺢ وﺟﻬﻲ إﻻ ﻟﺬي ورع 
كي ﻳﻌﺒﺪ اﷲ ﻓﻲ اﻟﻔــﻼةِ وﻻ / ﻳﺸﻬﺪ ﻓﻴﻬﺎ ﻣشاهد الجُمَعِ
يقصد أنه مولعٌ بالنساء الجميلات ولكن وجهه لا يليق إلا براهب يسكن الصحراء ولا يصلي الجمعة مع الناس في المساجد ولا يرونه!
نستطيع أيضًا أن نعرف أنه كان أصلع الرأس، وأنه كان يبالغ في ارتداء عمامة ضخمة، وكان يجيب كل من سأله مستنكرًا عن سبب ارتدائه عمامة في صيف "العراق" الخانق بقوله:
أسترُ شيئاً لو كان يمكنني / تعريفه السائلين ما سترا
كأن الصلع خطيئة، إننا بالتأكيد في رحاب رجل غريب الأطوار بلغ من هشاشة الروح حدًا يصعب تصديقه، كما كان مصابًا باختلال الأعصاب، عندما يمشي إلي الأمام يظن الرائي أنه يستدير:
إنَّ لي مشية ً أغربلُ فيها / آمنا أن أُساقط الأسقاطا!
وهو طفل كبير، يهجو أحدهم مرة بقوله:
يا ابن الزنا يا ابن الزنا يا ابن الزنا / والحمد لله العليّ الأكبرِ
جبان، ليس الجبن كما ينبغي، إنما توقع السئ علي الدوام والميل إلي السير تحت ظلال الجدران كالغالبية العظمي من الناس في كل زمان ومكان، وهو ينصح نفسه بعدم الجبن قائلاً:
لا تَجْبُنَنَّ لأنَّ النَّفْسَ واحدةٌ / فإنما الموتُ أيضًا واحدٌ فَقَدِ
ما يَجْبُنُ المرءُ إلا وهْو مُعْتَقِدٌ / أو مُشْفِقُ أنه إن مات لم يَعُد
مع ذلك، نضبطه كثيرًا يمدح نفسه بأبيات تجتذب ضحكات من يعرفه جيدًا وتملأ قلبه شعورًا بالشفقة علي ذلك المسكين في آن معًا، كزعمه:
وإنِّي لَلَيْثٌ في الحروبِ مُظَفَّرٌ / مُعَارٌ أَداةَ الهَصْرِ بالظَّفْرِ والعَضِّ
إذا ما هَزَزْتُ الرُّمْحَ يومَ كَريهةٍ / لجَمْعٍ فذاكَ الجَمْعُ أولُ مُنْفَضّ
تَضاءَلُ في عيني الجُموعُ لدى الوَغَي / وإنْ هي جاءتْ بالقَضِيْضِ وبالقَضّ
أبيات تليق بـ "عنترة بن شداد" مثلاً أو "دريد بن الصمة"، لكن لا تليق بمسكين سيطر علي روحه هوس التشاؤم حتي كان يمتنع أيامًا عن الخروج من منزله إذا نظر من ثقب الباب ورأي شخصًا أحدب يمر في الطريق بالصدفة، أو أن أحد الأمراء اشتاق إليه فعلم بحالته من الطيرة، فبعث إليه رسولاً اسمه "إقبال"، فلما أتي "ابن الرومي" قال له:
- عد إلي صاحبك فإن مقلوب اسمك " لا بقاء"
هكذا قالوا، وربما هي رواية مصنوعة، وهي بالصناعة أشبه، ولولا فراغ الناس وشهيتهم المفتوحة للكلام علي الدوام لوصلنا التاريخ أصغر حجمًا بكثير!
لكن، تتخذ الأبيات السابقة ملامح النكتة عندما نعرف أن ذلك الليث الذي تتضائل في عينيه الجموع في الحرب قد اغتصبت داره امرأة ولم يفعل شيئاً سوي أن جأر بالشكوي للوزير دون أن ينسي أن يذكِّر الوزير بأنه "أيد الأركان"، طبعًا:
أجِرْنْي وزيرَ الدِّينِ والملْكِ إنني / إليكَ بحقّي هاربٌ كلَّ مَهْرَبِ
تَوَثَّبَ خَصْمٌ واهِنُ الرُّكْنِ والقُوَى / علي أَيِّدِ الأركانِ لم يَتَوَثَّب
لقد ذكَّرتني لامْرئ القيسِ قوله / وإنّك لم يغلبْكَ مثل مُغَلَّبِ
أريدُ ارتجاع َالدارِ لي كيف خَيَّلَتْ / بِحُكْمِ مُمَرٍّ أو بِلُطْفٍ مُسَبَّب
وعلي طريقة "كوهين ينعي ولده ويصلح راديوهات" هو لا يكتفي بالشكوي إنما يختتم شكواه بهذا البيت:
وتا للهِ لا أرضَي برَدِّ ظُلامَتي / إلى أن أَري لي ألفَ عَبْدٍ ومَرْكَب
هو يقصد أن استعادة داره لن ترضيه إلا إذا أعطاه الوزير فوق ذلك ألف عبد وألف فرس!
إننا أمام رجل مختل، لا يستطيع أن يسيطر علي إيقاعات نفسه، أو علي الأرجح، أمام طفل كبير أترك "ابن خلكان" يضع حدًا لحياته فلقد طالت أكثر مما يجب:
"وتوفي (ابن الرومي) يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين، وقيل أربع وثمانين، وقيل ست وسبعين ومائتين بـ "بغداد" ودفن في مقبرة باب البستان!
وكان سبب موته، رحمه الله تعالى، أن الوزير "أبا الحسين القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب" وزير الإمام المعتضد كان يخاف من هجوه وفلتات لسانه بالفحش، فدس عليه "ابن فراس"، فأطعمه خشكنانجة مسمومة
وهو في مجلسه، فلما أكلها أحس بالسم فقام، فقال له الوزير: إلى أين تذهب
فقال: إلى الموضع الذي بعثتني إليه
فقال له: سلم علي والدي
فقال: ما طريقي علي النار
وخرج من مجلسه وأتى منزله وأقام أيامًا ومات!
وداعًا "ابن الرومي"، مع روحك القوية، ذلك أفضل جدًا، تعرَّفوا عليه، إنه يستحق..

29 أغسطس 2015

سيد أمين يكتب: ملامح مهملة من الثورة المضادة

آخر تحديث : السبت 29 أغسطس 2015 10:51 مكة المكرمة
منذ ثورة يناير الموءودة تحدث الكثيرون وساقوا الدلائل البينة والقوية عن تجهيز الدولة العميقة في مصر للانقلاب على أى رئيس منتخب ستسفر عنه أى انتخابات نزيهة تفرزها تلك الثورة, وكتبوا في ذلك ما يطول الحديث فيه بدءا من التظاهرات الفئوية حتى سرقة السيارات وانتشار عصابات قطع الطرق , إلا أننى أجد نفسي أقف أمام تفاصيل صغيرة، ولكنها تبرز ملامح دقيقة تكشف من بين ما تكشف أن من سمات هذا الانقلاب الذى كان متوقعا، بل ومنتظرا أنه انقلاب شامل يرعى كافة مناحى الحياة حتى البيئية منها.
ففي صباح يوم من تلك الأيام التى كانت القاهرة فيها تبدو بدون سلطة حاكمة - واتضح كذب ذلك فيما بعد - استيقظ أهالي القاهرة ليكتشفوا أن جميع أرصفة الشوارع مقلوبة رأسا على عقب, محطمة ورثة ومتربة بشكل غير موضوعى, حتى في تلك الميادين التى لم نكن نتخيل أبدا أن نراها بها الشكل مثل شوارع ما يعرف بالقاهرة الخديوية, ولم يكن أي شئ يعمل إلا البلدية التى لا نعرف من كان يصدر لها أوامره، وهى كانت تبدو أنها تعمل في الإعمار والواقع انها كانت تساهم في التخريب.
ولم يتم حل هذا اللغز إلا بعد الانقلاب حينما جري تزيين تلك الشوارع، وإعادة رصفها بما يعطى إيحاءً بأن سنوات الخراب الثوري ولت وهى السنوات التى كان يظنها مدبروا الدولة العميقة بضعة أشهر إلا أنها طالت بعض الشئ بسبب الزخم الثوري.

شخبطات غير ناضجة

ومن تلك الملامح أيضا تلك الرسومات غير الناضجة وغير المعبرة والكتابات التى ترقي في أحيان كثيرة من شدة غموضها إلى درجة الألغاز, وأحيانا تهبط إلى مستوى الشخبطات, وهى التى انتشرت بكثافة علي الحوائط والأرصفة، والطرق المرصوفة؛ فشوهت المنظر الجمالي للحوائط، وأعطت إيحاءً مماثلا لسابقه بالفوضى.
ومن تلك الرسوم تلك التى كانت تخص روابط مشجعى الأندية، والتى انتشرت بصورة غريبة وصرف عليها أموالاً طائلة، ولا يعرف بعد ما العائد منها، وما الرسالة التى كانت تحملها؛, حيث تجد أحيانا رسومات لما يشبه الكأس، ورسومات لشباب وأعلام مفرودة على مساحات كبيرة من الحوائط ومرسومة بإتقان شديد، وعبارات مبتورة، وغامضة مثل "فاكر لما كنا سهرانين"، و"بلد الرجالة"، و"بلد البالة"، و"عبور"، و"صاحب صاحبي"، و"مش هنسيبها"، وما إلى ذلك من كلمات غير مفهومة، قد تكون تحوى رموزاً لرجال الدولة العميقة وقد تكون مجرد شخبطات حدث الانقلاب وكشف المخفيون عن أنفسهم فما صارت لها حاجة فمحوها بأستيكة.

كذبة تغليظ القصاص

ومن ضمن الأشياء الملفتة أنك حينما كنت تطالع صحف الحكومة ومن لف لفها آنذاك، تجدها تبالغ في إثبات هيئة القصاص من رموز نظام مبارك -الذى ثبت أنه متجذر، ولم يسقط ساعة واحدة- فهذا صودرت أمواله وأصابته الأمراض, وذلك تقهقرت به الأيام وباع كل ما تبقي له ليصرف على زوج ابنته, وذلك تم فصل أبنائه من مناصبهم الحساسة في الدولة وساءت حالتهم النفسية, وما إلى ذلك من أخبار تنقلك من حالة الشماتة فيهم إلى حالة التعاطف معهم. 
لكن ويا للعجب, إذا ما تمحصت بنفسك مدى صحة تلك الأخبار والمعلومات, فستجد أنها مجرد أكاذيب لا أساس لها من الصحة.

ملمح صحفى

وتبدو ملامح "الثورة المضادة" في عالم الصحافة أكثر وضوحاً منذ الشهر الأول للثورة, تمثلت هذه الملامح فى أنه حينما فتح باب التعيينات في العديد من الصحف القومية كإجراء تسوية في مظالم ضحايا المهنة, وهم كثر يتوزعون ما بين مفصول أو مشرد بسبب توقف صحيفته لأسباب مادي،ة أو سياسية او إدارية, نجد أن جل هؤلاء الذين حلت مشكلاتهم، وتم إلحاقهم بصحف قومية, كانوا ينتمون لمن سموا آنذاك بـ"الفلول"، أو على الأقل من المحسوبين على الأجهزة الأمنية, يتخلل هؤلاء أشخاصا آخرين لم يكونوا ينتهجون هذا النهج إلا أنه تم قبولهم لأنهم قلة قليلة للغاية وجاءوا في قوائم تكتظ بهؤلاء المستهدف تعيينهم, والمدهش أن هؤلاء سلكوا بعد الانقلاب مسلكا استسلاميا، وخيل لمن لا يعرفهم أنهم دعاة انقلاب، وليس دعاة ثورة من فرط صمتهم عن قول كلمة الحق وجلوسهم مجالس الانقلابيين.
أما رافضو حكم العسكر والذين صار جلهم فيما بعد من رافضى الانقلاب, فقد استبعدوا تماما رغم أحقيتهم , بينما عين كل "فل"- بكسر الفاء- راح يزور صديقه "الفل" وجاء الأصدقاء بأصدقائهم, والأخ بأخوته, والزوج بزوجته, والأب بابنه, بل والأم بابنها, والنماذج لا تخطأها عين، ولا يستطيع أن يكذبها أحد لدرجة أننى شخصيا كنت شاهداً على أشخاص كانوا يبحثون عمن يعلمهم المهنة؛ بل وكيفية كتابة الجملة, وتمنوا أن يكتب اسمهم على خبر مساحته خمسة سنتيمترات في صحيفة من صحف "بئر" السلم, وما هى الا أشهر حتى وجدنا هؤلاء قد عينوا في الصحف القومية التى طالما اشتاق لها معلموهم الذين أكلت الصحافة على ظهرهم وشربت. 
ولنا في صحف "المسائية" بدار أخبار اليوم و"الأهرام المسائى" والشركة القومية للتوزيع" و"التعاون" و"أكتوبر" و"الأهرام" عبرة في الصاعدين والهابطين.

....... اقرأ المقال على الجزيرة مباشر انقر هنا

اقرأ ايضا من سلسلة مقالات "الجزيرة":



27 أغسطس 2015

رضا حمودة يكتب : هل يحكم الإسلام الأمريكاني المنطقة نيابة عن الربيع العربي؟

العربي الجديد
بعدما فطنت الولايات المتحدة الأمريكية أنه يستحيل استئصال الإسلام من على وجه الأرض كدين لا يُراد له أن يسود ويحكم كمنهج حياة وواقع عملي؛ بدأت في اتباع سياسة جديدة لا سيما مع هبوب ثورات الربيع العربي، تقوم على استئناس الإسلام والمسلمين على السواء بدلا من الصدام المسلح المباشر، الذي أسهم بدوره في تشويه سمعتها بين المسلمين، فضلا عن تصدير صورة نمطية بالغة السوء بأن أمريكا تحارب الإسلام، وتمارس تمييزا عنصريا ضد المسلمين، وهذا أقرب للحقيقة بلا شك.
عندما نقرأ تصريحات رئيس وكالة الإستخبارات الأمريكية (CIA) الأسبق جيمس وولسي في عام 2006، نكتشف أن الإدارة الأمريكية تطبق خطة استئناس الإسلام بحنكة، وبخبث منقطع النظير، فقد قال الرجل عن المسلمين "سنصنع لهم إسلاما يناسبنا، ثم نجعلهم يقومون بالثورات، ثم يتم انقسامهم على بعض لنعرات تعصبية، ومن بعدها قادمون للزحف، وسوف ننتصر" ، وأضاف وولسي "إننا سننجح في النهاية كما نجحنا في الحربين العالميتين الأولى والثانية، والحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي، وسوف أختم بهذا(هكذا يقول وولسي) – سوف نجعلهم متوترين".
المثير في كلام مدير أكبر جهاز استخبارات في العالم أنه قرأ الواقع الجديد بدهاء، واستوعبوا درس التدخلات العسكرية المباشرة في المنطقة جيدا، التي خلفت آثارا سلبية على سمعة الولايات المتحدة، فبدأوا في تنفيذ الاستراتيجية الشيطانية الجديدة عبر إدارة الحروب بالوكالة، حيث تشتري ولاءات ووكلاء لها في المنطقة العربية والإسلامية وهم كُثُر، لتضمن بذلك ألا تتصدر مشهد العداء للإسلام والمسلمين، ليحل محلها بعض أذنابها وأتباعها المخلصين، ووكلاء الثورات المضادة على أنقاض الربيع العربي المغدور.
حتى وصلنا بعد سنوات قليلة إلى تطبيق عملي مأساوي على أرض الواقع لخطة المخابرات المركزية الأمريكية، فاندلع الربيع العربي بداية عام 2011 في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا، وكأنه ترجمة حرفية لتصريحات مدير الCIA، الأمر الذي جعل البعض يتشكك في ماهية الربيع العربي ومن يقف وراءه، لكنني لا أتعاطى شخصيا مع هذا التشكيك، ذلك أن المنطقة العربية كانت تعيش وما تزال على فوهة بركان من الغضب الشعبي، ومهيأة تماما للانفجار والثورة كنتيجة طبيعية للاستبداد والفساد على مدى عقود طويلة، على يد حكام حولوا بلدانهم إلى متاع خاص لهم ولأبنائهم والدائرة المقربة منهم.
ما يهمنا في هذا الصدد أن أمريكا خلصت إلى حقيقة مفادها أنه لا مانع من وجود المسلم الصوام القوام، المسلم الذي يحج البيت الحرام كل عام، إسلام الطقوس والمظاهر، الإسلام الذي يستفتى في نواقض الوضوء، ولا يستفتى في نواقض الإسلام ذاته، لكنه غير مسموح أن يتحول إلى سلوك خارج حيز المسجد، إلى منهج للحياة لتأصيل قيم الحرية والعدالة والتنمية والاستقلال على خلفية إسلامية، حتى لا يخرج جيل متشبع بهويته وحضارته الإسلامية الشاملة العريقة، قادر على منافسة الحضارة الغربية، أو يستطيع مقارعتها وهزيمتها، لينشأ جيل مقطوع الصلة بربه ودينه، لا يعرف من الإسلام سوى اسمه.
ذلك أن الغرب أراد تحويل الإسلام عن طبيعته ليجعله كما قال المفكر الأمريكي الشهير فرانسيس فوكوياما: "دينا حداثيا ليبراليا علمانيا، يقبل المبدأ المسيحي "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، حيث تعمدت أمريكا والغرب على اعتبار الإسلام تيارا فكريا قابلا للنقد والتفكيك أيضا، وليس دينا أو عقيدة ثابتة، حيث خصوصياته في تأصيل القيم والمعاني التي لا تستغني الحياة عنها.
هذا الجيل المسخ كما تريده أمريكا والغرب، عبر عنه المفكر الكبير د. مصطفى محمود قائلا "وما أكثر المسلمين ممن هم في البطاقة مسلمون، ولكنهم في الحقيقة ماديون، اغتالتهم الحضارة المادية بأفكارها، وسكنتهم حتى الأحشاء والنخاع، فهم يقتل بعضهم بعضا، ويعيشون لليوم واللحظة، ويجمعون ويكنزون ويتفاخرون، ولا يرون من الغد أبعد من لذة ساعة".
لقد جنت أمريكا والغرب أهم ثمرتين من تعثر الربيع العربي بفعل الثورات المضادة التي اجتاحت المنطقة، الأولى: تشويه ثورات الربيع العربي بنظر شعوب المنطقة لا سيما البسطاء لما لها من انعكاسات سلبية على مصالحها في المنطقة، إذ إن الثورات في جوهرها تمرد على الواقع المرير لتطالب بالاستقلال عن القرار الأجنبي، والانعتاق من التبعية لأمريكا والغرب. أما الثمرة الثانية الأكثر نفعا، هو استئناس الإسلام وقطاع ليس بالقليل من المسلمين لحظيرتها، عبر تشويه مفاهيم المقاومة والجهاد ضد الاستبداد والاحتلال، فصار التطرف مرادفا طبيعيا للإسلام في ظل الحرب التي تقودها أمريكا وحلفاؤها في المنطقة على الإرهاب الإسلامي. 
وغرقت المنطقة في حروب ونزاعات مسلحة استهدفت الربيع العربي في الصميم بالوكالة لأطراف استثمرت استقواء الثورات المضادة المدعومة أمريكيا، في صنع عدو بديل للاستبداد، فكان الإسلام هو العدو الأكبر في صورة الإسلاميين الراديكاليين، مما يستدعي من الذاكرة مقولة داهية وزير الخارجية الأمريكي (جون فوستر دالاس) في خمسينيات القرن الماضي إبان الحرب الباردة "إن الإسلاميين الأصوليين هم أكبر حليف لنا ضد الشيوعيين"، وقد رأينا كيف استخدمتهم (حركة طالبان) في الثمانينيات ضد الاحتلال السوفييتي في أفغانستان، ثم حاربتهم لتستولي على المنطقة، وتعمل على تفتيتها بعد الحادي عشر من سبتمبر. 
ولنا أيضا في تنظيم داعش (المريب) النموذج الفج ، الذي أكد تبعيته للغرب ضابط كبير في جهاز الاستخبارات البريطانية يدعي" تشارلز شويبردج"، في حوار لقناة روسيا اليوم بتاريخ (9 أكتوبر/ تشرين أول 2014) عرضه موقع القناة على الإنترنت تحت عنوان " هكذا صنعنا داعش وهكذا نقرع طبول الحرب ضدها"، حيث قال إن جهازي الاستخبارات الأمريكية والبريطانية يقفان وراء كل الأحداث الدراماتيكية التي تعصف بدول في الشرق الأوسط مثل سوريا والعراق وليبيا، وكشف عن تفاصيل أخرى مثيرة عن دور واشنطن ولندن في صناعة الإرهاب.
حيث استطاعت احتواء الربيع العربي، ومن ثم إجهاضه بضرب أهم مكوناته وهي التيارات الإسلامية المعتدلة التي حازت على ثقة الجماهير في كل الاستحقاقات الديمقراطية، وفي القلب منها جماعة الإخوان المسلمين، وتعمد خلط الأوراق عند عوام الناس والبسطاء والتلبيس عليهم، وعبر الأنظمة التابعة لها في المنطقة، أنه لا فرق بين معتدل ومتطرف، فكل التيارات الإسلامية من المنظور الأمريكي متطرفة، ونبعت من رحم الارهاب (أو بالأحرى الإسلام) حتى وإن لم تعلن ذلك رسميا.

السفير د. عبدالله الأشعل يكتب: من دمر الأوطان العربية.. الربيع العربى أم القوى المتآمرة عليها ؟

أطلق الغربيون مصطلح الربيع العربى على الثورات العربية فى مطلع 2011 اسوة بربيع براج فى تشيكوسلوفاكيا عام 1968 بصرف النظر عن أن الربيع يتسم بالثمار والورود. والثابت أن ثورتى تونس ومصر ضد الاستبداد والفساد وتعنت النظم فيهما واغلاق جميع ابواب التغيير السلمى طوعا قد انتشر فى جميع المجتمعات العربية بلا استثناء بل وغير العربية اعلانا عن ضرورة اصلاح العلاقة بين الحاكم والمحكوم. وقد نجحت بعض النظم المستنيرة فى التراجع بتقديم بعض التنازلات لاستيعاب الموقف بينما انسحبت نظم اخرى من المشهد ثم انقضت على الشعوب وآمالها مرة أخرى لتعاقبها على أنها تجرأت على الإعلان عن مطالبها، وهذه النظم بهذه العقلية هى التى تسببت فى الخراب العربى. فالربيع سيظل ربيعا وسوف يدق ابواب هذه النظم فى معركة طويلة تنتهى بانتصار الشعوب أو يقظة الحكام. ولذلك خصصنا هذه المقالة للرد على كتبة هذه النظم البالية الذين كان يجب أن ينصرفوا إلى الأبد وأن يعتذروا لشعوبهم وأن يعودوا تائبين مصلحين بدلا من الاصرار على الفساد.
فنحن فعلا نعيش عصر العبث فى المنطقة العربية. فبدلا من الإلحاح على ضرورة تحقيق آمال الشعوب فى ثورات الربيع العربى، ومقاومة القوى المناهضة لها ألقت بعض الأقلام اللوم على هذه الثورات حتى تستمر العبودية والاستبداد، وكأنها تظلم الشعب مرتين، الأولى عندما خانت آماله وضللته ورضيت أن تكون سيفا للحاكم الظالم، والثانية عندما لم تتورع أن تعود إلى لومه على الثورة وإعلان مطالبه.
فقد لاحظت منذ 30 يونيو 2013 موجات من الهجوم والنقد المرير لثورات الربيع العربى، ورصدت بأقلام معينة تنتمى كلها إلى النظم التى ضاقت بها الشعوب العربية وثارت على فسادها وهى نفس الأقلام التى كانت تصطنع فضائل وهمية لهذه النظم .
وتبدأ القصة بأن ثورات الربيع العربى رفعت مطالب عادلة ضد نظم فاسدة اضطرت إلى الثورة عليها بشكل سلمى عندما رفضت هذه النظم بغباء غذاه هؤلاء الكتاب أن تقوم النظم نفسها بتحقيق مطالب الناس، فلم تكن الثورات ترفا ولا كانت دماء الشباب التى راحت ودماء رجال الشرطة الذين أصروا على الدفاع عن نظام فاسد إلا مهرا للحرية التى افتقدتها الشعوب . فالثورات العربية جميعا لم تكن مؤامرات من الخارج، كما لم تقم ضد نظم صالحة، ولم تكن ترفا، كما أنها كانت سلمية، ثم أنها رفعت مطالب محددة ومشروعة. ولكن عيبها أنها رفعت المطالب لذات الأجهزة التى تنتمى إلى النظام الذى ثارت عليه تحت أوهام كثيرة وأحيانا بدرجة من الانتهازية صغرت أو كبرت.
فى هذه النقطة سوف يتوقف التاريخ المصرى طويلا أمام دور المجلس العسكرى فى التعامل مع قوى الثورة، وقوى النظام الذى ثار عليه الناس، فسعى إلى إنعاش النظام الذى فاجأته الثورة، وخدر الشعب حتى يعود النظام السابق تحت لافتات جديدة.
ولنعد الي البداية . دفعت إسرائيل مصر إلى وضع مكنها من القضاء على عبدالناصر وأحلامه فى الوحدة العربية، فسمح ذلك بظهور البديل وهو حلم الوحدة الإسلامية، خاصة وأنه شاع فى تلك الفترة بعد هزيمة يونيو1967 بأن التناقض كامل بين الأمة العربية بأقلياتها غير الإسلامية، وبين الأمة الإسلامية بأكثريتها غير العربية، وهما مشروعان وهميان، لكن روج عبد الناصر للمشروع العربى، فاتهم من جانب أصحاب المشروع الإسلامى بالإلحاد والعلمانية مثلما يتهم الإسلاميون اليوم ببيع أوطانهم العربية من أجل مشروع وهمى يقوم على الرابطة الإسلامية، وليلتهم جميعا اهتدوا إلى الرابطة الديمقراطية التى تنقذ الوطن والدين من الاتجار بهما بعد أن صارت الوطنية صكا يعطيه القوى المنتصر لخصمه الضعيف أو ينكره عليه.
كانت الشعوب تأمل فى أن يتجاوب الحكام الذين استكتبوا هؤلاء لتضليل الناس مع آمالهم وأناتهم التى ضنواعليهم بها. وقد أقنعتهم واشنطن بأن حكمهم دائم وظلمهم الذى استمتعوا به أبدى، فالظلم من سمات هذه الدنيا، وأن لهذه الشعوب المسحوقة بالفقر والمرض والجهل والقهر الدار الآخرة، وهم يعلمون أن مثل هذه الدنيا لا آخرة لها.
فالثورة للأسف ضرورة على كائنات تبلدت وتسلحت بجيوش من أمثال هؤلاء الكتاب. أما من المسؤول عن ضياع الأوطان العربية فهى ليست الثورات، وإنما إصرار حلفاء الحكام المستبدين على إنقاذهم، وخوفهم من حكم الشعب وحكم القانون. والمحزن أن يصاب بعض الشعب المصرى وبعض كتابه بالعمى المطاع فيتصورون أن أمريكا تحب الثورة المصرية فى يناير، وتكره ثورة يونيو ضد الاخوان لأن أوباما مسلم كتم ايمانه وأن اخواني مستتر. وأنا لا أقارن مطلقا بين يناير ويونيو، فالأولى ثورة شعبية شاملة لأول مرة فى التاريخ على نظام كامل فاسد بكل أجهزته. وإعلامه المضلل ومنهم هؤلاء الكتاب، أما الثانية فهى فى معنى احتجاج على حكم الإخوان وتم تطوير هذا المعنى لكى تكون اجتثاثا للإخوان ثم للمعارضة ثم لثوار يناير. صحيح أن انهاء حكم الإخوان ورفضهم نادت به الملايين فى يونيو حين طالبت بانتخابات رئاسية مبكرة وأن رفضهم ربما أسهم في المضاعفات، ولكن أين كان نظام مبارك فى يناير ويونيو وكيف عاد نظام مبارك بعد يونيو وخرج من كل ما نسب إليه فى القضاء وبرئ براءة الذئب من دم ابن يعقوب. هذا هو السؤال الذى يبرر القول بأن أحد أخطر معانى يونيو أنها كانت تجمعاً لكل من عادى الإخوان دون بديل لتحقيق اهداف يناير.
السبب فى مأساة الشعوب العربية الثانية هى انتظام قوى الظلام والاستبداد مع قوى إقليمية معروفة فى منظومة أمريكية إسرائيلية هى التى أجهضت أحلام الشعوب فى مصر وليبيا وتونس وسوريا واليمن، ولكل قصة ولذلك يجب التمييز بين دواعى الثورة وقواها وسلميتها وبين حقد القوى الرجعية الصهيونية التى أرادت أن تعاقب الشعوب العربية التى ثارت على الظلم، التى ألحقت بهذه الشعوب الفصل الثانى من المظالم التى دمرت الأوطان لأن الحكام المستبدين لا يهمهم الأوطان مادامت قد صارت بسكانها نيرانا تلتهم عيوبهم وتسقط كبرياءهم الذليل.
بقيت نقطتان: ما مآل الكفاءات من نظام مبارك وكيف تتجه كفاءاتهم إلى الخير بعد أن وظفت فى الشر وهل لديها المرونة فى ذلك خصوصا أنها تحصل على الفتات فى خدمة نظام أضر وطنهم؟ والثانية: لماذا يظل هؤلاء بعد أن فقدوا أخلاقيا قيمة علمهم الذى سخروه لسحق هذا الوطن ولولا الثورة ما انزاحوا عن أماكنهم. المشكلة أن كتابهم عادوا ينفثون السم فى بيئة عقدت العزم على استرجاعهم لتنكيس نظام سقط أخلاقيا وضيع فرضة ثلاثين عاما. فهل مصر بحاجة إلى ثورة تصحيح الخلل وتعيد إلى يناير نقاءها أم أنها بحاجة إلى نظام شفاف يعلن صراحة أن شرعيته هى فى تحقيق أهداف ثورة ينايروالاعتصام بها وليس التركيز على يونيو وربط النظام بها مادامت يونيو باعتراف النظام ليست ثورة قائمة بذاتها وإنما تصحيح ليناير بل هى تصحيح لأخطاء المجلس العسكرى وليس لثورة يناير.
المعيار هو من على الساحة الأن إعلاميا وسياسيا وأقتصاديا وغيره؟ هل هم ثوار يناير أم نظام مخلق قوامه الأساسى نظام مبارك باعدت الآمال بينه وبين الواقع المرير، حتى احتلت هذه الأقلام مكان الصدارة فى الإعلام ومنع أصحاب الاقلام التى انحازت لمصلحة الوطن وتوعية الشعب بالمسرحية الهزلية التى عاد أبطالها إلى مواقعهم مرة أخرى وكأن ثورة يناير كانت أحد مشاهد الكاميرا الخفية أو نكتة ثقيلة.
يناير رمز لرفض الظلم وارادة شعب متحضر ضد بربرية المؤامرة عليه وليست مجرد حدث.
مستعدون لمناظرة تاريخية بين كل مؤيدى يناير وكل المشككين فيها وكتلتهم الحرجة من نظام مبارك. إن روح الانتقام والتشفى من يناير هى جزء من المؤامرة عليها، والشعب تغير، وفحيح الافاعى قد ينفس عن الكاتب لكنه يغرق وحده فى عالمه ويرثى له القراء من حوله إن بقى له قراء. الكلمة الطيبة كشجرة طيبة، والكلمة الخبيثة كشجرة خبيثة، الأولى جذعها ثابت وفرعها فى السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها، والثانية تجتز من فوق الأرض مالها من قرار

سعيد نصر يكتب: ها أنا انهيت كلامى .. فهل تسمعنى؟!

 
لم يعد لأحد أى مساحة من الحرية لإنتقاد سياسات النظام ، فردود الفعل بالتهم الجزافية جاهزة ، والآلة الإعلامية المروجة لها موجودة ويديرها إعلاميون احتكروا لأنفسهم وللنظام الحاكم الوطنية والحقيقة الكاملة ، ومستعدون لقول أى شىء ولفعل أى شىء لإرضاء الحاكم.
هذا المناخ الطارد للعقل والعقلانية وللحياد والحيادية وللتجرد والموضوعية ينذر بكارثة مستقبلية على الدولة المصرية ، لأنه جعل الشرفاء يعزفون عن الإفصاح عن أرائهم فيما يحدث على الساحة ، باستثناء قلة قليلة تحاول على إستحياء من الحين للأخر، التمترس حول التمسك بقيم الديمقراطية والعدالة الإجتماعية ، وتفعل ذلك وهى تتوخى الحذر بمحاولة تنميق كلامها ، خشية أبواق إعلامية بعينها معروف عنها الهرتلة ، ومهمتها تشويه الشرفاء ،وفق خطة تبدو ممنهجة.
وحتى لا يقول أحد كيف تقول ذلك وهناك من يعترضون على قوانين أصدرها الرئيس ، ومنها قانون الخدمة المدنية ، فإننى ألفت انتباهكم إلى أننى أقصد النخبة السياسية ، التى صارت "لا تهش ولا تنش" ، وأصبحت أشبه بـ "الطرابيش" بمدلولها الفولكولورى، وليس بمدلولها التاريخى ، ولا يفوتنا هنا التذكير بأن كل الاعتراضات على سياسات النظام لا يمكن التعويل عليها على وجود حرية ، لأنها كلها اعتراضات دافعها اجتماعى وليس لها دافع سياسى ، وليس أدل على ذلك أكثر من رفع فعالياتها الإحتجاجية لصور الرئيس السيسى والاستغاثة به للتدخل وتغيير قوانين هو الذى اتخذها فى شكل قرارات بقانون !
وأخطر ما فى هذا المناخ أنه يهيىء الساحة ليبرطع فيها الأغبياء والمنافقون والانتهازيون ، ويجبر أصحاب العقول المستنيرة والرؤى الصائبة على العزوف عن التواجد فى الساحة وعن الإدلاء برأيهم فى أى قضية مطروحة ، خشية التنكيل بهم أو تشويه صورتهم ، وبالتالى يصاب إعلام الدولة بالتلوث السياسى و يصبح أشبه بضجيج وصخب الطبل والزمر فى زفة بلدى فى منطقة عشوائية لا يعرف أهلها أى شىء عن أضرار التلوث السمعى.
 تلك الأبواق الإعلامية الآن ، سواء قنوات أو إذاعات أو بوابات ومواقع إلكيكترونية أو صفحات على مواقع التواصل الاجتماعى ، تطبق فلسفة إعلامية فى منتهى الخطورة ، وهى أنها تنتقى أسوأ و أقبح ما فى الدول الأخرى لإقناع البسطاء فكريا وماديا وهم اغلبية شعب مصر ، بأنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان أيام حكم مبارك ، وأبدع مما هو كائن الآن ، فى ظل النظام الحالى ، وقد وصل الخطر فى هذا الصدد إلى حد أن هذه الأبواق الإعلامية صارت تعمل على تكفير الناس بقيم الحرية والديمقراطية والعدالة الإجتماعية ، فأمريكا فى رأيهم لهم ليس فيها ديمقراطية ولا حرية ولا حقوق إنسان بسبب صورة لضابط هناك يقبض على متظاهر فى وضع "الطرح أرضا"، ومعظم النشطاء وكل قيادات المنظمات الحقوقية والأهلية ، خونة ومرتشون وينفذون أجندة أجنبية !! يا سادة .. مثل هذا المناخ قاتل للإبداع ، بل قاتل للحياة ذاتها ، وتكمن خطورته فى أنه يأتى فى مرحلة فارقة فى التاريخ الإنسانى ، من يتخلف فيها عن ركب العلم والحضارة ، و يعمل خلالها بالفهلوة المصحوبة بالطبل والزمر البلدى ، فانه سيكون فى المستقبل أشبه بالقرود فى "الغابة الكونية" .. ها أنا أنهيت كلامى .. فهل تسمعنى ؟!