أقصد بذلك مشهد تنصيب عبد الفتاح السيسي رئيسا لجمهورية مصر العربية ، ومع هذا فوجئنا بمن انهاروا، وسارعوا يعلنون انهيارهم ويعترفون بالهزيمة، وكأن لديهم استعداد فطري للانهيار. ومن ثم اندفعوا يأخذون علي القوى الموالية للشرعية، أنها لا تقبل المصالحة، والقبول بالدنية في أمرها!.
لقد مرت علي الانقلاب العسكري لحظات ظن فيها الناس أنه لن يقدر عليه أحد، وأنه يملك الأغلبية علي الأرض، وبدا هذا واضحاً في كل جولاته، وصار الانقسام هو عنوان المرحلة، وبدا المنحازون له هم الأعلى صوتاً والأعز نفرا، في حين أن الموالين للشرعية بدوا كما لو كانوا قلة يخافون أن يتخطفهم الناس، وبعيداً عن المظاهرات، فقد كان الاتجاه السائد هو أن يكتم هؤلاء إيمانهم حتى لا يتعرضون لإساءة الجهلاء، وحتى لا يتم كشفهم لأجهزة الأمن.
لقد دعا عبد الفتاح السيسي لتفويضه لمواجهة الإرهاب، فكان المشهد كما لو أن الشعب المصري كله خرج ليبايعه، وأن الطرف الآخر ضمته "إشارة رابعة"، و"ميدان النهضة"، وليس له أحد خارج "الإشارة" و"الميدان"، فخارجهما يدين بالولاء للانقلاب.
رويداً رويداً، خفتتأصوت الموالين للانقلاب، وارتفعت أصوات من ينحازون للشرعية، وصاروا يجهرون بالهجوم عليه في الحافلات العامة، فيتطوع قلة للدفاع عنه، سرعان ما يصمتوا، ومن تورط منهم فارتفع صوته، ينتهي به الحال إلى الإعلان عن أن السيسي من وجهة نظره هو "أحسن الوحشين"، قبل أن ينخفض سقف موقفه، ليصبح هو الدعاء بأن يولي الله من يصلح!.
وجاءت الأيام الثلاثة، التي أجريت فيها الانتخابات الرئاسية، كاشفة عن أن عبد الفتاح السيسي، بلا شعبية تقريباً، وبدا الرجل والجماهير تعلن عن اختيارها باعتباره " دكر" يخشى من مواجهة الناس، فيمنح المصريون إجازة في يوم خروجه للشارع. وعندما تجرى المقارنة بينه وبين الدكتور مرسي، فان الأخير يكسب ولو بحسابات ضاربي الدفوف في الشوارع، وفرق "هز الوسط" تعبيراً عن الموقف السياسي المؤيد للسيسي.
فالانقلاب فشل في كل الملفات، ولم ينجح سوي في ملف التسول وانتظار المساعدات. وأزعم أن محمد مرسي أخفق كثيراً في ذلك، فقد كان يتحدث عن الإرادة المصرية وفي أن تمتلك مصر غذائها ودوائها وسلاحها، فاستشعرت لذلك قوى الاستعمار والهيمنة خطورته، وهي التي غادرت الأوطان التي كانت تحتلها بعد أن صنعت نخبتها التي ستقوم بالواجب، في فرض سياسة التخلف والتبعية علي المستعمرات القديمة.
وحتى ملف سد النهضة، فانهبالمقارنة بين أداء مرسي والسيسي فان مرسي يكسب، في هذا الملف الذي استخدمته القوي السياسية الفاشلة وإعلام الثورة المضادة لتقديمه على أنه ليس مؤهلاً للذود عن الأمن القومي المصري. فمرسي قال إن كل الخيارات مفتوحة في الحفاظ علي كل قطرة ماء، في حين أن السيسي قال أنه لن يجعل من سد النهضة أزمة مع الدول الإفريقية. وهذا التفاوت سببه أن مرسي كان يعلم أنه رئيس منتخب، في حين أن السيسي يتنازل ليحصل علي شرعية خارج الحدود، لم تمنحها له الجماهير داخلها.
المقارنة بين مرسي والسيسي ليست موضوعنا، فما يهمنا هنا أن الانقلاب يعيش أضعف أيامه. والحال كذلك فقد بدا لافتا أننا نشاهد انهياراً مصطنعاً، كان أصحابه ينتظرون اللحظة الحاسمة ليعلنوه علي المارة، وكأن خوض السيسي للانتخابات كان مفاجأة، وكأن نجاحه بأي وسيلة كان مستبعداً، وكأنهم كانوا يتصورون أنه عندما ينجح سوف يقيم احتفالاً "على الضيق"، بدعوة الأصدقاء علي العشاء لدى "أبو رامي الكبابجي"!. فلما رأوا احتفالاً استعراضياً كان الانهيار، والمطالبة بالاعتراف بالأمر الواقع. وهناك من انتهزها فرصة ليؤنب الإخوان لأنهم يرفضون المصالحة، بتمسكهم بعودة رئيس لن يعود!.
القوى المدافعة عن الشرعية حددت موقفها منذ البداية، في أن ما تفعله هو استمرار للثورة، وأنه إذا كان من الطبيعي للإصلاحي أن يتعايش مع الأمر الواقع، ويعمل علي الإصلاح من الداخل، فان الثوري من حقه أن يحلم بتغيير هذا الواقع، وقد تم تغييره من قبل.
إن مبارك كان بحسابات القوة والضعف هو الأقوى، وكان بحسابات التأييد الدولي هو الرئيس القوى في مصر. ومع ذلك فقد نجحت الثورة في إسقاطه، كما نجحت في تقديمه للمحاكمة، رغم أنف المجلس العسكري الحاكم، الذي وجد نفسه مضطراً لذلك بقوة الدفع الثوري.
وهذه القوى لا ترى في دعوتها لعودة الرئيس مرسي للحكم مستحيلاً. فقد حددت مطلبها، و تعمل علي تحقيقه. لكن تبدو المشكلة في غياب الرؤية لدي فريق من الذين يسارعون الآن في الانهيار، فهم يرفضون الانقلاب، ويرفضون بالدرجة نفسها عودة الشرعية، فإذا سألتهم وما البديل؟! يقولون عودة المسار الثوري.
لا أعرف حقيقة المستهدف بعودة المسار الثوري؟.. هل إلى مرحلة ما قبل تنحي مبارك؟.. أم إلى مرحلة ما بعد تنحيه وتولي المجلس العسكري الحكم بقرار من مبارك ذاته؟!.
لا أظن أن هؤلاء كان يحملون رفضاً لتولي المجلس العسكري الحكم، فبعضهم كان يغافل الثوار، ويذهب ليدير نقاشاً مع أطراف من نظام مبارك وأجهزته الأمنية، وعندما تنحي مبارك، ادعوا تمثيل الثورة والثوار لدي السلطة القائمة، ولم يكونوا يحملون لخليفة مبارك رفضاً بعد أن غادر الثوار إلى بيوتهم. وإذا كنت قد أعلنت رفضي لتعيين أحمد شفيق رئيساً للحكومة منذ اللحظة الأولي في عهد مبارك، فلا أستطيع أن أنكر أن بعض هؤلاء تم استغلالهم من قبل المجلس العسكري للدفع في اتجاه إسقاط حكومة شفيق، كرغبة من المجلس العسكري، الذي لم يكن رئيسه يحمل أي ود لشفيق، ويعلم المجلس العسكري أنه لن يكون طيعاً في أيديهم، فلن يمكنهم التعالي عليه بانتمائهم للمؤسسة العسكرية، وجئ بضعيف هو عصام شرف روج له من اغتصبوا صفة تمثيل الثورة، بأنه رئيس الوزراء القادم من ميدان التحرير وبح صوتي وأنا أقول بل قادم من لجنة السياسات، التابعة للحزب الوطني، والتي شكلها جمال مبارك!.
هناك أكاذيب جرى تسويقها في المرحلة السابقة، ومن الإلحاح عليها باتت تروى علي أنها بديهيات. مثل الحديث عن الذين باعونا في محمد محمود، وأن الإخوان باعوا الثورة للمجلس العسكري. في حين أن الشاهد أن من ادعوا تمثيل الثورة هم من فعلوا. وإذا كانوا يفعلون هذا بدون رؤية أو هدف، ولعل هدفهم هم أن يكونوا "في الصورة". في حين أن الإخوان كانوا يستهدفون عدم إخافة المجلس العسكري لاسيما وأنه كان يماطل في تسليم السلطة ويصر علي الاستمرار في الحكم. وكان هدف الإخوانهو الدفع في اتجاه الانتخابات باعتبارها البديل الحقيقي لانتقال السلطة.
لقد فاجأ الثوار الحقيقيون بعد أحداث مسرح البالون الجميع بالعودة لميدان التحرير، بعد الاعتداء علي أسر مصابي الثورة وشهدائها. وربما نظر عصام شرف وأعضاء المجلس العسكري إلى هؤلاء المتحالفين معهم: إذا كان الثوار في "الميدان" فمن انتم؟!. وكان الفراق بقرار من سلطة الحكم، فهرع هؤلاء إلى الميدان يقدمون فكرة بديلة تضمن لهم الاستمرار " في الصورة"، وهو أمر لن يتحقق لهم إذا جرت الانتخابات واختارت الجماهير من يمثلها.
لا تنسي أن الفضائيات كانت تتقرب إلى هؤلاء باعتبارهم الثورة المصرية. وشاهدنا قاعة أخبار اليوم تمتلئ عن آخرها بشباب الثورة، وبدعوة من رئيس تحرير الأخبار الزميل ياسر رزق.. ليكونوا "في الصورة" في حين أنه في كل تجليات الثورة كانت صورة ياسر مرفوعة ضمن الإعلاميين المحسوبين علي نظام مبارك والتي تطالب الثورة بعزلهم، ويصر المجلس العسكري الحاكم علي استمرارهم.
فكرة هؤلاء عن البديل للمجلس العسكري، هو مجلس رئاسي يضم أسماء بعينها، كان من بينها حمدين صباحي، الذي ظهر ليلتها فضائياً متقرباً للمجلس العسكري بالنوافل، وليقول أنه ليس موافقاً علي ذلك، ولا يعرف من اختاره؟!. حينئذ كسب المجلس الحاكم خطوة علي الأرض، وبدا هؤلاء من هول ضربة حمدين كما لو كانوا قد أصيبوا بالانهيار.
فادعاء الانهيار ليس جديداً عليهم، وكأنه منهج حياة، وقد استدعوه الآن وطالبوا بالاعتراف بالأمر الواقع. لأنهم في واقع الأمر ليست عندهم رؤية واضحة للتعامل مع المشهد بعد الانقلاب. فما معني أن ترفض الانقلاب وترفض عودة الشرعية في وقت واحد؟!.. وما معني أن يأتون الآن وفي المشهد الأكثر بؤساً ليقدموا أنفسهم منهارين؟!.. ومثلي يتفهم الذين انهاروا والحديث عن 34 مليونا في الميادين يوم 30 يونيه.
أحياناً يكون سوء الظن من حسن الفطن، وربما رأي الذين في قلوبهم زيغ أن إسقاط الانقلاب عملية صعبة، وربما رأوا أنه لو سقط فلن يكون بأيديهم وبالتالي فلن يكونوا "في الصورة"، فرأوا بادعاء الانهيار أنهم يتقربون لجليسهم القديم بالنوافل. وعبد الفتاح السيسي ليس غريباً عليهم فقد جالسهم من قبل عندما كان يجري تقديمهم علي أنهم ممثلو الثورة، وربما يرون أنهم يمكن الآن أن يكون لهم دور بجانبه، بعد ان بدت الوجوه القديمة من تمرد إلى غيرها محروقة سياسياً. فان لم يكن فيكفي الشعور بالأمان في كنف الانقلاب.
من كرم الله ولطفه أن الانهيار لم يكن في صفوف القوى المدافعة عن الشرعية. والتي كانت تنتظر أن يجري اختيار السيسي رئيساً كبداية للعد التنازلي لسقوط الانقلاب، وليس كمبرر لادعاء الانهيار.
"علم كل أناس مشربهم"
كاتب وصحفي مصري
selimazouz@gmail.com