ليلة شديدة الصيف ، كما يليق ببدايات منتصف العام ، و سماء " القاهرة " خاوية من الغيوم ، مع ذلك ، كأنَّ الرماد يسكن السماء أكثر مما ينبغي !
و هناك ، في قلب " القاهرة " الكسيرة القلب ، آخر المرتزقة في " مصر " يدنسون تلك البقعة النقية ، كعتبة العيد النقية ، أقصد " ميدان التحرير " الذي خسر أرواحهم فوقه و فوق حوافه أنقي شبابها ، و تركوا هناك دمائهم تواصل العواء في محاولة " يناير " الشهيرة لاكتشاف وطن لائق بإنسانية الإنسان !
ولئك المزدحمون بالبياض ، كأنَّ لصدي أرواحهم هناك ، في هذه الليلة شديدة الغربان ، و شديدة القبح ، ضجيج المطالبين بالثأر يبتلع الضجيج الردئ لطبول المحتفلين بهزيمة ساحقة استحالت بعدالة القوة ، لا قوة العدالة ، نصراً ليس له مثيل في العالم العريض ، مع عدم التحفظ الصِحِّيِّ حتي !
متتالية " عبد العاطي " مرة أخري ، و مثلما اعتقدوا أن العالم سوف يمتص ، دون نقد ، كذبة اكتشاف علاج للإيدز و فيروس " سي " و تحويل المرضين معاً ، و هذا قمة الإعجاز العلمي ، إلي أصابع " كفتة " يتغذي عليها المريض ، كأني بهم يعتقدون الآن أن العالم ، من القطب إلي القطب ، لا يحدق النظر فيما يفعلون ساخراً ، إنَّ للغباء أخلاقاً !
كيف يفكرون ؟
هل يعتقدون أن العالم غبيٌّ و كريه كالدولة القمعية التي يريدون استعادتها ؟
أو يعتقدون أن نار الثورة قد انطفأت ؟
ألا ينبه في عقولهم أي نظرية ، عزوف المصريين الجماعي عن النزول من بيوتهم يوم فيلم " المقاولات " ، هزيل الإخراج ، ذاك الذي جرت أحداثه أيام " 25 " مايو و " 26 " مايو و اليوم المتمم للفضيحة لهم ، و غرة الخلاص للمصريين في الوقت نفسه ؟
مع الأخذ في الاعتبار فشل الجهود المكثفة ، إلي درجة الاحتشاد التام و اللزوجة المقززة ، لإعلام " مبارك " الصفيق ، و فشل جهود ذلك البدوي السمين " حسين الجسمي " ، ذلك الذي لم يذهب و لو لمرة واحدة في عمره ، ليدلي بصوته في أي انتخابات ، و " يكتب بكرة بشروطه " ، و قضي ما قضي من عمره تحت ظلال دولة العشيرة و البعد الواحد ، مع ذلك ، استعانوا به ، ليضلل المصريين ، وهم الأحفادُ لأسلاف كانوا أول كيان اجتماعي موثق في تاريخ الإنسانية ، عن العثور علي ظلالهم الحقيقية !
مرة أخري ، اشتعلت النار في مصر ، و مرة أخري ، صفع الضد دولة " مبارك " من كل جانب و احتل المقدمة ، لكن الصفعة هذه المرة بالذات تفوق كل صفعة سابقة ، حدث هذا ، فيما يمكن أن نقتفي أثر الإسلاميين و مصطلحاتهم البالية و نسميها ، " غزوة اللجان الفارغة " !
أو نقتفي أثر الحشاشين و نسميه ، " جهاد الأصابع الوسطي " !
لقد أشار المصريون جماعة في وجوه المزيفين بأصابعهم الوسطي ، و من البيوت ، و كما أن الثورة فعل ، هي امتناع عن الفعل أحياناً ، هذه هي كل الحقيقة ، و لا يجب أن نقيم وزناً لما نجم عن الحدث الذي كأنه ( انتخابات ) من نتائج ، فذاكرة استفتاءات " مبارك " لدي المصريين ، لحسن الحظ ، لم تنطفئ بعد !
و هكذا تهتدي الثورة من جديد إلي عناصرها الحية ، عيش ، حرية ، عدالة اجتماعية !
فليس الأمر كما يعتقدون ، أو يتمنون ، علي وجه الدقة ، فإنَّ سياقاً تعارف عليه المصريون بعد خسائر طويلة و تجارب دامية كثيرة لا يمكن الخروج عليه إلي هامش الماضي بمثل هذه السهولة ، و عليه ، فعلي كل الأوغاد ، من الآن ، أن يكونوا غرف انتظار لنهاية بائسة ، و أكيدة !
و في ليلة مثل هذه الليلة ، قال " السيسي " أنه رأي في منامه الرئيس" السادات " يزف إليه البشري بأنه سوف يصبح رئيساً للجمهورية ، و أنا ، بصفة شخصية ، أشك في صحة هذا الكلام ، فالرجل ، منذ نما الضوء في اسمه ، ما جربنا عليه إلا الكذب ، علي أية حال ، بدلاً من خسارة وقته و جهده في بناء قاعدة شعبية يضع عليها قامته و يحقق حلمه ، اختار " السيسي " أساليب طائر " الوقواق " ، ذلك الطائر الذي يلقي ببيضه عن عمد في أعشاش الطيور الأخري ليحضنوه له ، و بذلك ، يحفظ بقاء نوعه دون جهد منه ، و كان " د.مرسي " ، للأسف ، " أحمق من الحُباري " ، و هذا مثل عربي قديم ، وصفوه بالحماقة لأنه يحضن عن طيب خاطر بيض الطيور الأخري ظناً منه أنه بيضه هو ، و حين جاءت مواسم فقس البيض الذي يدين بالولاء ، و ما زال لـ " مبارك " ، كان " د. مرسي " أول الضحايا !
و الآن ..
لا شك أن " مصر " أصبحت ، انطلاقاً من صفر هذه الليلة ، في دائرة الأحمر ، و سوف يعصف المستقبل بالماضي في نهاية المطاف بالتأكيد الزائد عن الحد ..
فليس معقولاً أو مقبولاً في زمن تضاءل فيه الإنسان ، باعتباره جزءاً من الكون ، بشكل لم يسبق له مثيل ، و في كل أصقاع الأرض ، حتي أن السيد " أوباما " ، رئيس الدولة التي توصلت إلي وسيلة لتحطيم كوكب الأرض أربع مرات بضغطة زر ، مع ذلك ، لا يتمتع رئيسها هناك بالهيبة التي كان يتمتع بمثلها " عمدة " قرية من قري " مصر " في ستينيات القرن الماضي ، ثم يأتي أحد الحالمين لإيقاظ مفهوم " الزعيم الملهم الخالد " ، و تصفق الجماهير ، ذلك المفهوم الذي أصبح طللاً ، أهملت الإنسانية حتي زيارته للعظة ، و أصبح فقط مكاناً لقضاء حاجة الكلاب الضالة ، ما عدا " كوريا الشمالية " ، تلك الدولة البائسة التي تعيش في عزلة القرون الوسطي ، و لعل الفارق الرحب بينها و بين " الجنوبية " التي انخرطت في الكون ينبه حتي الذين لا يعقلون إلي بشاعة هذا المفهوم الردئ !
لقد تطور الصراع ، و تطورت الشخصيات الرئيسية في أطرافه ، و تطور ، كذلك ، الإحساس المُلِحُّ في أعماق كل المصريين ، ما عدا المرتزقة طبعاً ، بأن الحرية ، لا الطعام ، ولا حتي الاستقرار ، فالاستقرار ليس قيمة لذاته ، هي القيمة العليا التي يفتقدونها !
لقد انهار في طريقنا الكثير من الجسور ، و ضاعت كل خطوط العودة ، و عاد الماضي يختبر قامته التي كنا نظنها قد انهارت ، لكن ، لحسن الحظ ، المستقبل أيضاً في الجوار ، يُجهز ملامح وجهه القادم ..
و الآن ..
قبل أن أتوقف ها هنا ، أترككم قليلاً ، لتتردد في عقولكم أصداء الطبول الزائفة لمرتزقة التحرير التي تشبه الأصداء السامة لنعيق الغربان ، يدقونها دون ان يدركوا أبداً أنها سوف تتوقف قريباً عن إطرابهم ، و سوف تنحسر تماماً ، لتتقدم ، و تحتجز كل هواء " مصر " ، أصداء طبول المحتفلين بالمرور منتصبين تحت أقواس الحرية ، و إلا ، فمع الشهداء ، و قديسي الحرية ، ذلك أفضل جداً ..