بقلم محمد سيد رصاص
نقلا عن الأخبار اللبنانية ـ 16/4/2014
هناك ثورات عديدة كان مسارها منتهياً بالفشل: الثورة الانكليزية (1642-1649) التي قادها البرلمان ضد الملك، وانتهت بإقامة حكم أوليفر كرومويل بوصفه «الحامي: PROTECTOR» بين عامي 1653 و1658، ثم فشلت مع عودة الملكية عام1660. حصل هذا للثورة الفرنسية عام 1789 لما كانت ديكتاتورية نابليون بونابرت 1799 - 1815، الشبيه بكرومويل، طريقاً للفشل والهزيمة مع عودة آل بوربون للحكم عام 1815.
كان مصير ثورة 1905 في روسيا الفشل أيضاً: مقياس الفشل هو عودة من قامت الثورات ضده للسلطة من جديد عبر الانتصار عليها، سواء كان بنية النظام القديم أم الشخص نفسه. عام 1660 عاد تشارلز الثاني ابن الملك الانكليزي تشارلز الأول المعدوم عام 1649 للسلطة. في 1815 عادت الأسرة المالكة الفرنسية للسلطة عبر حراب الأجنبي الذي هزم نابليون في معركة واترلو. واستطاع القيصر الروسي نيقولا الثاني هزيمة ثورة 1905، التي قامت ضده. في الحالات الثلاث لم تؤد هزيمة الثورات وفشلها إلى استقرار الأمور بل إلى اضطراب قاد إلى ثورات تالية تابعت قوى الدفع الاجتماعي التي أتت بالثورة الأولى، ولم تستقر الأمور إلا بعد هزيمة النظام القديم. في تلك الثورات «قام البالغون في المجتمع، من الذكور والإناث، بفعل اجتماعي مضاد للسلطة الحاكمة من أجل تغيير جذري للأوضاع القائمة، وقد شارك في هذا الفعل، عبر اليد واللسان والقلب، أكثر من 50% من عدد السكان البالغين أثناء فترة زمنية محددة». ينطبق هذا التعريف التحديدي للثورة على ما جرى في مصر بين يومي 25 يناير - 11 فبراير 2011، وهو أيضاً ينطبق على تونس 2011 وليبيا 2011 واليمن 2011، ولكنه لا ينطبق على سوريا ما بعد 18 آذار 2011.
في الثورة المصرية كان المطلب الأساسي أن يكون المجتمع مصدر السلطات وأن تكون الأخيرة انعكاساً حقيقياً للعملية الديمقراطية الانتخابية: تحت ضغط قوة الشارع تنازل رأس النظام بعد أن نأت واشنطن والمؤسسة العسكرية بعيداً عنه وقام بنقل وتفويض سلطاته إلى «المجلس العسكري الأعلى». في فترة 11 فبراير 2011 - 30 يونيو 2012 كان هناك ثنائية بين العسكر والقوة الأقوى في الشارع وهي جماعة «الإخوان المسلمين»، وقد حاولت المؤسسة العسكرية تحصين سلطتها القائمة منذ «وثيقة نائب رئيس الوزراء المصري علي السلمي للمبادئ ما فوق الدستورية» في نوفمبر 2011، التي قالت بأنه «يختص المجلس الأعلى للقوات المسلحة دون غيره بالنظر في كل ما يختص بالشؤون الخاصة بالقوات المسلحة... كما يختص دون غيره بالموافقة على أي تشريع يتعلق بالقوات المسلحة قبل اصداره». قبل أربع أسابيع من الانتخابات البرلمانية التي كان متوقعاً انتصار الاسلاميين فيها، كان من الواضح أن هدفها - أي الوثيقة - جعل العسكر يحكمون من وراء ستارة مدنية، كما في تركيا 1963 - 2002 وباكستان ما بعد 1972 وجزائر ما بعد 11 يناير 1992. فشلت تلك المحاولة نتيجة تكاتف القوى المدنية المصرية من اسلاميين وليبراليين وناصريين وقوى شبابية ضد ما حاوله العسكر المصريون لتثبيت سلطتهم البادئة منذ صباح 23 يوليو 1952. في 17 يونيو 2012 وعشية ساعات من انتهاء الجولة الانتخابية الرئاسية الثانية أتى «إعلان دستوري مكمل» أصدره «المجلس العسكري الأعلى» أخذ بكل ما ورد في «وثيقة السلمي» قبل أن يكمل بتشكيل «مجلس الدفاع الوطني» في خطوات تسلب من الرئيس المنتخب الكثير من صلاحياته لصالح المؤسسة العسكرية. كان اعلان فوز المرشح الاخواني محمد مرسي ثم توليه منصبه في 30 يونيو 2012 جارياً تحت سقف 17 يونيو2012، وهو ما قام مرسي بانقلابه عليه في11 أغسطس 2012 من خلال إلغاء «الاعلان الدستوري المكمل». انحازت واشنطن إلى مرسي ضد العسكر ما شجعه على «الإعلان الدستوري» في نوفمبر 2012، الذي شكّل افتراقاً مع القوى المصرية المعارضة التي تحالفت مع «الإخوان» في ثورة 25 يناير - 11 فبراير 2011 ثم ضد «وثيقة السلمي» ثم مع مرسي في الانتخابات الرئاسية ضد شفيق ومن ورائه العسكر وقوى النظام القديم. كان انحياز واشنطن لمرسي آتياً من اتجاه العاصمة الأميركية نحو تعميم أنموذج أردوغان عربياً في فترة ما بعد «الربيع العربي»، فيما انحازت لمبارك وبن علي وجنرالات الجزائر في التسعينيات في صراعهم مع الاسلاميين.
في النصف الأول من عام 2013 أصبح حكم «الإخوان» في القاهرة في مأزق من ظهره إلى الحائط بعد انشقاق المعارضين (محمد البرادعي - حمدين صباحي - الوفد - القوى الشبابية) عنهم، وتقلقل تحالفهم مع حزب «النور» السلفي المدعوم من السعودية، وبداية مراجعة واشنطن لجدوى تحالفها مع الاسلاميين بعد مقتل السفير الأميركي في ليبيا على يد اسلاميين يوم 11سبتمبر 2012. ظهرت في تلك الفترة ثلاثية مؤلفة من المعارضين السابقين لمبارك الذين اختلفوا مع مرسي، (رجال أعمال وطاقم الصف الثاني من حكم مبارك والقوى الشبابية) تحالفت مع بعضها ضد حكم مرسي وقد ظهر مقدار قوتها الاجتماعية من خلال العرائض التي وقعتها (حركة تمرد) بين ابريل ويونيو2013 وفي تظاهرة 30 يونيو 2013. كانت المؤسسة العسكرية التي فقدت سلطتها في 11 أغسطس 2012 هي المايسترو لهذا القوى الثلاث المجتمعة. وقد كان الفريق السيسي، الذي ظهر آنذاك «حامياً ومنقذاً» في ظل اضطراب الثورة مثل كرومويل ونابليون ثم لويس بونابرت، مدعوماً من الرياض وأبوظبي وعمان وتل أبيب، مع حيادية واشنطن. أتى انقلاب 3 يوليو 2013 حصيلة لمسار كل تلك العملية، وقد ظهر بأن اجتماع قوى النظام القديم، التي أظهرت أصوات الفريق شفيق المأخوذة في انتخابات رئاسة 2012 مقدار قوتها، مع القوى المعارضة لمبارك ومرسي (البرادعي- صباحي - الوفد - القوى الشبابية)، يعطي قوة هجومية مؤثرة ومزلزلة لحكم «الإخوان»، ولكنها لا تستطيع قلبه من دون انحياز العسكر إليها وهو ما جرى في 3 يوليو 2013 تماماً كما حصل عند مغرب يوم 11 فبراير 2011 ضد مبارك.
خلال تسعة أشهر من انقلاب 3 يوليو ظهر بأن الثورة المصرية قد فشلت، وبأن قوى النظام القديم قد عادت للسلطة، وهو ما يلمس من تشكيلة المحافظين في صيف 2013 الذين كان أغلبهم من ضباط الأمن والجيش في عهد مبارك، ثم من رئيس الوزراء الجديد ابراهيم محلب الذي كان فاعلاً رئيسياً في «لجنة السياسات» تحت رئاسة جمال مبارك، ومن وزراء عديدين كانوا مرتبطين بالنظام القديم، ثم من استبعاد البرادعي وتهميش حمدين صباحي وسجن أحمد ماهر، ومن التشريعات، ومنها «قانون الارهاب»، التي تدل على عودة السلطة العسكرية - الأمنية. هناك مؤشر أقوى على فشل الثورة المصرية من مؤشر عودة قوى النظام القديم للسلطة، ومنها وفي قلبها المؤسسة العسكرية التي كان مبارك واجهتها، هو المزاج الشعبي المصري للميل نحو «المنقذ الفرد» لتسليمه المقدرات والسلطة لكي يحكم نيابة عن«الجماهير» وليس عن «المجتمع» الذي أرادت ثورة 25يونيو - 11 فبراير أن يكون مصدر السلطات عبر العملية الانتخابية. هنا، كل من يراقب وسائل الإعلام المصرية العامة والخاصة، والأخيرة مملوكة لرجال أعمال، يلاحظ مقدار الشعبوية كنزعة فكرية - سياسية وهي تميل إلى عبادة «المنقذ الفرد» و«البدلة العسكرية» وإلى تسخيف فكرة الديمقراطية ومفهومها، فيما المثقفون المصريون يثبتون بأن وصف عمرو بن العاص للمصريين ما زال صحيحاً في عمومه: «رجالهم عبيد لمن غلب»، مع ضحالة فكرية - ثقافية تدهش كل من يستذكر لطفي السيد وسلامة موسى وطه حسين ولويس عوض وسيد قطب وأحمد بهاء الدين.