ليست الغرابة في استعمال الانقلابيين بالفعل للبلطجية (بالمصري) وفي سعي الانقلابيين بالقوة للباندية (بالتونسي). إنما الغريب أمر آخر هو ما أريد أن أوجه إليه الانتباه لأني اعتبره من أهم الأدلة على أن ضديد الثورة يحتضر وأن أعداء الثورة بدأوا يعترفون بخسران معركة العمل السياسي المشروع. ومن ثم فهذا الاستعمال للعنف العاري من كل غطاء شرعي هو التعبير الصريح عن اليأس من الديموقراطية والتسليم بأنهم لا يمكن أن يحكموا إلا بالدكتاتورية. ومن ثم فهم مضطرون للمعارضة الصريحة للثورة والدعوة إلى العودة للمخلوعين في مصر بداية وفي تونس غاية استكمالا للاستراتيجية التي لم تغب عن فهم أي مواطن: استراتيجية تخريب الخدمات والأمن بمعناه العام وبمعناه الغذائي والصحي لوضع الشعب أمام المفاضلة بين ما كان قبل الثورة وما ترتب عليها.
وما ذهبوا إلى هذه الغاية القصوى في التصدي للثورة إلا اعترافا بأن هذه الاستراتيجية لم تنجح. فلجوء الانقلابيين إلى البلطجية في مصر ولجوء من يريد أن يحاكيهم إلى الباندية في تونس ظاهرة من طبيعة واحدة لا يستغربها إلا من كان يجهل أن من كانوا يحكمون لم يكن بأيديهم غير وسائل الحكم الأقلي وغير الشرعي لفقدانهم مقومات الحكم ذي الشرعية الشعبية والخلقية. فهم أقلية تعيش في قطيعة تامة مع الشعب وقيمه. ومن ثم فلا بقاء لهم إلا بتوكيل القوة الاستعمارية وسندها. ومقومات الشرعية التي تكلمنا عليها في محاولة سابقة لو كانت موجودة لديهم لأغنتهم عن البدائل الزائفة التي كانت تمدهم بحياة اصطناعية تقضي المرحلة التاريخية بقطعها فأصبح حالهم حال المريض الذي يرى أسلاك الحياة الاصطناعية في سرير المرض تنزع منه الواحد بعد الآخر:
1-سند سيده الأجنبي للقيام بوظيفة الاستعمار غير المباشر بدلا من الشرعية الشعبية سواء كانت هذا التوكيل الاستعماري بالإنابة المباشرة في بعض البلاد التي استقلت ظاهريا (المغرب العربي) أو في البلاد التي أوهموهم بثورات جهازية أعني الانقلابات العسكرية والأمنية لعدم توفر ما توفر في الحالة الأولى (المشرق العربي).
2-أخطبوط الفساد سهما من خدمة المصالح الاستعمارية وأداة لشراء لضمائر النخب العميلة وهو إذن جهاز مادي رمزي أعني مؤلف من حلف بين فساد الأعمال والإعلام أداتين لتوطيد الثقافة الممكنهة لهذه الأنظمة عديمة الشرعية من تغيير ثقافة الجماعة.
3-أجهزة العنف الرسمية لإسكات كل معارضي الاستبداد والفساد اللذين يحاولان تأبيد التبعية أعني الأدوات التي تساعد على فرض تلك الثقافة بشرط أخذ نصيب من ثمرات الفساد ومن ثم بشرط أن تكون هي بدورها متمعشة من الفساد.
4-وأجهزة العنف الموازية لكل ما لا يمكن أن يعلن من القذارات فضلا عن المراقبة الدائمة لأنفاس المواطنين لأن أجهزة العنف الرسمية يمكن ألا ترضى بالنصيب الذي يترك لها فتكون مشكوكة الولاء ومن ثم فلا بد من جعلها هي بدورها محل مراقبة وخاضعة لجهاز الأجهزة أي جهاز الاستعلام والباندية والفساد الخلقي وأداته الأساسية تجارة الجنس.
5-وأساس ذلك كله فلسفة ثقافية يتصدرها أنصاف المثقفين الذين يحاولون هندسة نموذج اجتماعي تحكمه غرائزهم البهيمية وتصوراتهم السطحية مع تزيين ذلك كله بشعارات تقدمية وتحديثية يحتاج إليها الوكيل لتلميع صورته ويحتاج إليها سيده لتبرير التناقض البين بين ما يدعيه من قيم إنسانية وما يمارسه من أبشع الشناعات البربرية.
ولما كان صمود المقاومين في الأمة قد شمل المعمورة وبات أكبر خطر على فاعلية هذه المنظومة وبلغ الصمود إلى الانفجار الذي يمثله الربيع العربي فأصبح بنيانها متداعيا بدأ الأساس المادي الأول يتصدع (السند الأجنبي خوفا على مصالحه) وأصبح الأساس الرمزي الأخير أو هذه الثقافة يتآكل (الفلسفة الثقافية التي أثبتت أحداث مصر أنهم متاجرون بها ولايؤمنون بأي قسط منها مهما كان ضئيلا) فإن ما بقي للانقلابيين يقتصر على مقومات الدولة العميقة الثلاث الوسطى أعني:
1-أخطبوط الفساد الأعمالي والإعلامي خدمة للوكلاء وسادتهم الأجانب
2-وما في جهاز العنف الرسمي من فساد ومن خضوع لجهاز العنف الموازي
3-وجهاز العنف الموازي الذي هو أداة جهاز الاستعلام ليس لحماية المصلحة الوطنية بل لحماية وكلاء الاستعمار.
ولما كان جهاز العنف الرسمي بحكم الوظيفة الاستعلامية لجهاز العنف الموازي الخانف لأنفاس المواطنين عامة والأحرار منهم خاصة فإن هذا الأخير هو المتغلب وهو مركز الثقل في عمل الدولة العميقة: لا بد من قطع أيدي الدولة العميقة أعني الاستعلامات والبلاطجة في مصر والبوليس السياسي والباندية في تونس. والمهم ألا نتصور هذه الأيدي مقصور وجودها على الأجهزة فهي موجودة في الإدارة وفي الأحزاب وفي منظمات المجتمع المدني المتمعشة من السفارات والمنظمات الدولية التي تدعي الخيرية وتشجيع البحث العلمي. كلها استعلامات واخطبوط نفوذ لتوجيه الرأي العام.
وليس هذا الحكم مجرد تصور نظري فالجميع بات يراه بأم عينيه في ميادين مصر بل هو بات يطل برأسه في كل نواحي تونس وليس مقصورا على العاصمة: إنه إذن الملجأ الأخير للدولة العميقة والعميلة في آن وهو إذ تحدد جعل نفسه عاريا أمام الثورة ومن ثم فالإجهاز عليه وإن لم يكن عسيرا فهو لم يعد مستحيلا:
فلجوء أصحاب الانقلاب الحاصل بالفعل في مصر إلى بلطجية المخابرات.
ولجوء أصحاب الانقلاب الحاصل بالقوة في تونس إلى باندية البوليس السري.
هو في الحقيقة لجوء إلى آخر أدوات البطش والعنف بتغطية من جهاز الفساد بفرعيه الاقتصادي بممثليه (قيادات الأرباب وقيادات العمال) والثقافي بممثليه (ممثلي الإبداع التابع وممثلي الإعلام التابع) دليل على الاعتراف الصريح باللجوء إلى آخر خرطوشة ومن ثم فهو آخر مراحل النهاية. وليس الاعتراف اعترافا بما كان حاصلا قبل الثورة. فهذا معلوم للجميع بل هو اعتراف بالخط الأخير في معركة أعداء الثورة مع الثورة. وهذا الخط هو أضعف الخطوط أعني القوة المادية الصرفة: والقوة المادية الصرفة تفقد كل فاعليتها بمجرد أن تلجأ إلى آخر ما تملك من أدوات التأثير أي العنف المحض.