لانريد لأحد أن يخدع نفسه، أو أن يخدعنا، أو أن يتلاعب بقداسة الدولة، أو بقداسة القضاء، أو بقداسة الدين.
ولا نريد لأحد أن يخدعنا بخلط الأوراق، فليس صحيحا أن سياسة المجلس العسكري هي العنوان الموثوق للجيش المصري، والجيش مؤسسة وطنية عظمى، وكان دائما في قلب التكوين الوطني المصري، وكلما سرى وهن في الجيش كان ذلك عرضا على مرض أصاب الدولة المصرية، وقد كان بناء الجيش صنوا لبناء الدولة المصرية الحديثة، وكانت عمليات إعادة بنائه متواقتة مع إعادة بناء الدولة، وقد جرت عملية عظمى لإعادة بناء الجيش بعد هزيمة 1967، ثم كانت عملية إضعاف الجيش جزءا من عملية تحطيم الدولة بعد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية والمعونة الأمريكية الضامنة، والمجلس العسكري الحاضر غير المجلس العسكري الأول الذي نشأ بعد هزيمة 1967، كان المجلس العسكري وقتها يدا جماعية محترفة لقيادة وطنية معادية لأمريكا وإسرائيل، بينما المجلس العسكري الحاضر عينه مبارك، ولم يحدث في أي وقت أن عارض المجلس العسكري الحاضر خيانات حسني مبارك، ولم يكن لديه مانع في تمديد رئاسة مبارك إلى يوم يبعثون، لولا أن الثورة الشعبية المصرية قلبت الموائد وغيرت الموازين، وجعلت التضحية بمبارك ضرورية للحفاظ على إستمرار النظام نفسه، وهو ما قام به المجلس العسكري الحالي بالضبط، فهو جزء لايتجزأ من إدارة مبارك، وهو إستمرار بالمبنى والمعنى لحكم جماعة المخلوع، وقد نفذ خريطة طريق متكاملة للإنقلاب على الثورة من أول يوم، ونشر الفرقة بين الأطراف الشعبية على طريقة "فرق تسد"، وأنهك عموم المصريين بالفزع الأمني والتفزيع الاقتصادي، وقاد عملية مخططة للتكفير بالثورة، تورطت فيها التيارات الإسلامية بالذات، ثم بدا أنها "الضحية المفضلة" بعد شهور العسل، بينما الضحية الحقيقية هي مصر وشعبها وثورتها، فقد جرى الغدر بالثورة، وتوج المجلس العسكري انقلابه بما يسمى "الإعلان الدستوري المكمل"، وبتشكيل ما يسمى "مجلس الدفاع الوطني"، وبتلغيم كل خطوات بناء المؤسسات الديمقراطية، وتعمد الخلل في قوانينها، وحتى يتاح هدمها في أقرب فرصة، وكما جرى للبرلمان المنحل، ويجري في تقزيم صلاحيات الرئيس، وإلى حد جعله موظفا قليل الحيلة، وخيال مآته و"رئيس طرطور" بامتياز.
ولا شك عندنا في طبيعة الدوافع والمصالح، والتى تختبئ وراء لافتات عن قداسة الجيش والأمن القومي، فليست المصلحة وطنية خالصة، بل هي مصالح سياسية لأطراف خارجية دولية وإقليمية، ومصالح بيزنس لعدد من الجنرالات، وقد طالبنا الجنرالات مرارا بالكشف عن إقرارات الذمة المالية، خاصة مع توافر شواهد مفزعة على تضخم مرعب في الثروات الشخصية، ولم يستجب أحد للمطالب، ولن يستجيبوا، فهم يعرفون ما جرى، ونحن نعرف، وقد سعوا إلى تحصين أشخاصهم وأملاكهم من أي حساب أو عقاب محتمل، ووضعوا المراسيم التي تمنع إحالتهم للقضاء المدني، والذى يحدثوننا عن ضرورة إحترامه، بينما هم لايريدون المثول أمامه، وأدخلوا تعديلا على قانون الأحكام العسكرية في المادة الثامنة، وورطوا نواب الإخوان في الموافقة عليه، وهو التعديل الذى يمنع إحالة أي عسكري ـ حالي أو سابق ـ إلى القضاء المدني، ويحيل البلاغات في جرائم المال والدم إلى النيابة والقضاء العسكري، وحيث لايجري أي تحقيق أو مساءلة ذات مغزى للجنرالات، ثم كان التقدم إلى الإستيلاء على السلطة بكاملها، وتحت عنوان "حفظ المصالح العليا للدولة"، بينما لاشيء في الحقيقة غير حفظ المصالح العليا للجنرالات، وتحصين إمبراطوريتهم الاقتصادية، والتي تشكل قرابة ثلث الاقتصاد المصري، وفي توافق محسوس مع حفظ المصالح الأمريكية والإسرائيلية في مصر، وكلنا يذكر ما جرى في قضية منظمات التمويل الأمريكي، والتي ظل المجلس العسكري يتصاعد بالضجة حولها، ثم انتهى إلى "صمت الحملان" حين تدخل الراعي الأمريكي، وأمر بإنهاء اللعبة، وأرسل طائرة عسكرية أمريكية حملت رعاياه، وبعد أن قام المجلس العسكري بالواجب، وأمر واحدا من "قضاة التليفون" المشهورين بإصدار الأمر بوقف حظر سفر الأمريكيين، وهكذا انتهت لعبة الإيهام بموقف وطني ما لجنرالات المجلس العسكري، والتزم الجنرالات صمتهم المخزي، وعادت ريمة لعادتها القديمة، وكشفت أوراقها بوضوح، وتوقفت المناورات على خط العلاقة الخاصة مع أمريكا وإسرائيل، وظلت التصريحات العلنية في حدود المتفق عليه في الكواليس، حتى وإن إضطرت الإدارة الأمريكية لإبداء انتقادات علنية أحيانا، وعلى طريقة ذر الرماد في العيون، فلأمريكا مصالح دائمة لا صداقات دائمة، ولديها كل الثقة بأصدقائها وجنرالاتها في المجلس العسكري، فهم القوة الصلبة التي تعتمد عليها في مصر بعد فقدان مبارك، وإن بدت الإدارة الأمريكية في حالة غزل مع الإخوان، لكنها لا تثق في نواياهم إلى النهاية، ولا مانع عندها من تجريب الإخوان، ولكن في حدود لا تجعل بيدهم قرارا أساسيا ولا شبه قرار، وهو ما يفسر حماس الإدارة الأمريكية لإعلان فوز محمد مرسي بالرئاسة، ولكن مع جعل صلاحياته صورية تماما، وبالطريقة التي قررها المجلس العسكري في إعلانه "الدستوري" الأخير، فلأمريكا صديق مجرب موثوق به في المجلس العسكري، وصديق آخر تحت الإختبار في قيادة جماعة الإخوان.
ولا يصح لأحد أن يعود فيخلط الأوراق، أو أن يتحدث عن قداسة الدولة، أو عن صدام بين قداسة الدولة وقداسة الدين، فالدولة ـ وفي قلبها الجيش ـ تحتاج إلى إعادة بناء، وإلى وضع الخطوط الحرام بين أجهزة الدولة الثابتة والحكومات المتغيرة ديمقراطيا، والدين يحتاج إلى حمايته من تغول جماعات تتاجر باسمه، وكل هذا صحيح ومطلوب في صيغة دستور دائم، لكن ما يجري لا علاقة له بمعنى القداسة المطلقة أو النسبية، بل صراع شرس على المصالح، ومع ترك مصر على حالها تحت الاحتلال السياسي الأمريكي والتهديد الإسرائيلي، ومع ترك البلد فى حالة الانحطاط التاريخي، وترك غالب أهلها تحت خطوط الفقر والبطالة والبؤس والعنوسة، ومن هذه الزاوية يمكن فهم نصوص ما يسمى بالإعلان الدستوري المكمل، وهي نصوص دائمة وليست موقوتة الأثر، وأنهت خرافة تسليم السلطة في 30 حزيران (يونيو) 2012، فقد نقل المجلس العسكري السلطة من يده اليمنى إلى يده اليسرى، وأقام احتفال "تخرج" للرئيس المنتخب، ووضعه قيد الإقامة الجبرية في قصر الرئاسة، ومع التحكم في حركاته وسكناته، وتركه يؤدي مشاهد بروتوكولية، ولكن بدون سلطة حقيقية، فالتشريع هو مهمة المجلس العسكري، والقرارات المالية في يد لواء عينه المجلس العسكري، وقرارات الدولة الكبرى في يد مجلس دفاع وطني يشكل العسكريون غالبيته المطلقة، ووضع الدستور في يد المجلس العسكري، والذي أعطى لنفسه حق تشكيل جمعية تأسيس الدستور، وحق الإعتراض على أي نص في الدستور ينتقص من سلطاته المطلقة، والتي حولت المجلس العسكري إلى دولة فوق الدولة، دولة تحكم القوات المسلحة وميزانياتها وامبراطوريتها الاقتصادية، دولة تنفرد بقرارات الحرب والسلم والأمن في الداخل والخارج، دولة تملك حق الاعتراض على أي سلطة منتخبة، فالمجلس العسكري هو مركز السلطة الحقيقية، والمشير طنطاوي هو الرئيس الفعلي، بينما يبدو مرسي كرئيس افتراضي، وحتى إشعار آخر.