الدكتور عادل عامر
أن البلطجة تؤثر بشكل كبير جدًا في الاقتصاد والاستثمار الخارجي والمجتمع ككل، أن الحل هو عودة الأمن لكي تعود هيبة الدولة من جديد، وتعمل المحاكم بصورة طبيعية وآمنة؛ فيستطيع القضاء أن يقوم بدوره دون تأثر بالبيئة المحيطة به، فيعطي أحكامًا رادعةً لمن يقوم بتلك الأفعال، وأن يحاول بشتى الطرق منع تحول الإجرام الفردي إلى إجرام منظم. إن المجتمع المصري شهد أخيرا موجة من التحولات والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية, أثرت بشدة علي عديد من القيم السائدة, وأفرزت مجموعة مستحدثة من صور العنف, وهي سلوك غير مستحدث إنما عرفه المجتمع المصري في منتصف القرن الماضي, تحت اسم الفتونة. ولكنها أصبحت في صورة جديدة من الفتونة, وأساليب لم تكن منتشرة من قبل, وفي حين كانت الفتونة, تقتصر علي حماية الضعفاء أو فرض إتاوات علي التجار والأغنياء, فإن البلطجة في الآونة الأخيرة, أصبحت تأخذ صورا وأساليب جديدة, مثل بلطجة الحرس الخاص وفي أثناء العملية الانتخابية, وفي الاستيلاء علي الشقق والأراضي والعقارات, وفي الطريق العام, والتعرض للإناث والخطف والاغتصاب باستعمال أدوات كالسنج والأسلحة النارية والمواد الكاوية( ماء النار).. ولاشك أن البلطجة بهذه الصور لها آثار سلبية, حيث تعكس عدم الإحساس بالأمان في الشارع المصري, وأثناء ممارسة الحياة اليومية وعلي المستوي المجتمعي, فلا شك ان بلطجة الاستيلاء علي العقارات والأراضي والشقق من شأنها إحداث مشكلات اقتصادية, وتخيف المستثمرين, سواء المواطنون أو الأجانب من الاستثمار في هذا المجال.وكذلك البلطجة التي يمارسها الحرس الخصوصيون المأجورون لحساب بعض رجال الأعمال والفنانين ومايثيرونه من فوضي ورعب.وأيضا البلطجة التي تحدث من قبل بعض مؤيدي المرشحين في الانتخابات في محاولة للتأثير في سير العملية الانتخابية والتلاعب في نتائجها, وما كانت تثيره من إحساس بعدم نزاهة العملية الانتخابية, ويحسب في هذا الشأن لصانع القرار, قرار تولية القضاء مهمة الإشراف الكامل علي العملية الانتخابية التي كان من شأنها الحد إلي درجة إنهاء ظاهرة البلطجة في أثناء الانتخابات.كذلك بلطجة سائقي الميكروباص في المناطق الشعبية والعشوائية وبلطجة الأفراد في المناطق الشعبية وشيوع انتشارها بشكل كبير, تلك هي بعض صور البلطجة في المجتمع المصري التي انتبه لها المشرع أخيرا وأصدر قانونا بتعديل بعض أحكام قانون العقوبات لتنظيم المواجهة التشريعية لهذه الظاهرة الخطيرة, وبرغم ذلك فإن هذه الظاهرة مازالت موجودة وتكسب كل يوم أرضا جديدة, الأمر الذي حذر منه العلماء والباحثون بضرورة التصدي لهذه الظاهرة بالبحث والدراسة للتأصيل والتحليل في محاولة وضع إطار عام يمكن من خلاله التصدي بحزم لهذه الظاهرة بطريقة علمية فاعلة.وفي هذا الإطار, أن ظاهرة البلطجة الآن لم تعد مقصورة علي مناطق بعينها, بل امتدت لتشمل المجتمع المصري كله ريفه وحضره ولم تعد السن أو النوع أو المهنة أو المستوي التعليمي أو الاجتماعي والاقتصادي العنصر الحاسم لهذه المسألة, وإنما أصبحت تتصل بمتغيرات معينة بالسمات الشخصية والثقافية للبلطجي ومتأثرة في ذات الوقت بشيوع وانتشار العنف في المجتمع المصري, وبالظروف الحياتية العاجلة لدرجة أن المجتمع لم يعد يستهجن كثيرا من أفعال العنف العادية.ساهمت الأوضاع السكانية في تعظيم ظاهرة البلطجة, بانتشار العشوائيات والمناطق الخارجة علي الأمن والازدحام السكاني.إن البلطجة سلوك انحرافي طرأ علي المجتمع نتيجة متغيرات كثيرة جدا من جميع النواحي, سواء من ناحية النشء والتربية أو من الناحية الدينية أو التعليمية مرورا بالناحية الاجتماعية والاقتصادية ثم البيئية.فأصبحت الأسرة مشغولة بكسب لقمة العيش, ولم تعد هناك مساحة لتربية النشء وهذه من أهم النقاط التي أدت إلي تغير جذري في المجتمع, لأن التربية السليمة تتركز علي المثل وتعاليم الدين الحنيف والأخلاقيات والانتماء إلي المجتمع, أما الإهمال أو عدم القدرة علي التربية فيؤدي إلي نشوء شخصيات غير سوية مثل الشخصية المدمرة أو الشخصية( السيكوباتية), بالإضافة إلي أن العملية التعليمية انحصرت في تلقين العلم وليس لدي المعلم الوقت لإعطاء أي مساحة للجانب التربوي. كما أن المجتمع انتقل من مجتمع زراعي إلي مجتمع صناعي, وهذا التطور للأمور, من الطبيعي أن ينقل الإنسان الهادئ الوديع الي متكالب علي المادة حتى يستطيع أن يعيش حياة كريمة تكفيه احتياجاته اليومية بالإضافة إلي غلاء المعيشة مع قصور الحالة الاقتصادية, مما أدي إلي اعتقاد بعض ضعاف النفوس أن العمل بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة هو السبيل للخلاص من المشاكل الجنائية.. ان التلوث البيئي, أحد أسباب السلوكيات غير السوية التي نلاحظها في هذه الأيام, لأن التلوث الهوائي أو المائي او الغذائي أو الفكري يؤدي في كثير من الأحيان الي التوتر الشديد والعصبية الزائدة, كما يؤدي الي الضيق السريع وسرعة الانفعال والتشوش الذهني وعدم القدرة عن التفكير السليم ان التلوث الفكري والاجتماعي الناتج عن وسائل الاعلام المرئية( أساسا) أدي الي تقليد أو محاكاة كثير من الشباب لما يشاهده علي القنوات من عنف وقتل وتقنية متقدمة جدا في عالم الجريمة.. وما تحتويه هذه الأفلام أو المعروضات من خيال علمي أدي ايضا الي انتشار الظاهرة لقد أصبحت جرائم السرقة والنصب والاحتيال بشتي أنواعها تمثل نوعا من أنواع البلطجة, لأن السلوك الانحرافي لايتجزأ والانحراف يؤدي الي انحراف اكثر فتعاطي المخدرات يؤدي الي ارتكاب أي نوع من أنواع الجريمة أوالسرقة أو حتي القتل للحصول علي المال والمخدر ان نتائج التفكك الأسري, وعدم التثقيف والابتعاد عن الدين وعدم التحلي بمكارم الأخلاق وتدني المستوي الاقتصادي لبعض فئات الشعب, وتزايد البطالة والتلوث البيئي وخصوصا الفكري, أدت الي تفاقم ظاهرة البلطجة ان العلاج لهذه المشكلة يكمن في العودة الي الأسرة والاهتمام بالأبناء من ناحية التنشئة السليمة القائمة علي تعليم مبادئ الدين ولابد أن تتيح الأسرة للأبناء فرصة التحاور وإبداء الرأي وعرض مشكلاتهم علي الأهل.. كما لابد أن يشمل نظام التعليم نوعا من الأنشطة المختلفة, من نشاط رياضي الي فني( موسيقي ومسرحي) واجتماعي, والرحلات الكشفية, وكذلك الاشتراك في المشروعات القومية المختلفة بمقابل أجور رمزية لتشجيع الشباب علي كسب لقمة العيش عن طريق العمل الشريف, وفي نفس الوقت لشغل فراغ الشباب وامتصاص نشاطهم الزائد لخدمة المجتمع تفاقمت هذه الظاهرة في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات, وبدأت تصبح ظاهرة إجرامية تهدد المجتمع المصري في منتصف التسعينيات, مما دعا الدولة الي التحرك تجاهها, بإصدار القانون الخاص بالبلطجة, وعرف القانون البلطجة بأنها ترويع وتخويف الأشخاص الآمنين وذلك باستعراض القوة أمامهم واستخدام العنف معهم, وبأنه يعاقب بالحبس مدة لاتقل عن سنة كل من قام بنفسه أو بواسطة غيره باستعراض القوة أمام شخص أو تهديده باستخدام القوة او العنف معه او مع زوجته او احد اصوله أو فروعه وترويع المجني عليه أوتخويفه بالحاق الأذي به بدنيا ومعنويا أو هتك عرضه أو سلب ماله, ثم شدد القانون العقوبة الي سنتين اذا وقع الفعل والتهديد من شخص أو اكثر, أو باصطحاب حيوان يثير الذعر او بحمل سلاح أو الة حادة او عصا او أي جسم صلب,وجعل القانون العقوبة بالحبس مدة لاتقل عن سنتين ولاتتجاوز خمس سنوات اذا وقع الفعل او التهديد علي أنثي أو علي من لم يبلغ ثماني عشرة سنة ميلادية, ثم جاء القانون نفسه وغلظ العقوبة الي الاشغال الشاقة المؤقتة أو السجن, ووصل بالعقوبة الي الإعدام اذا كان القتل جناية, وبذلك فإن البلطجة تعتبر جناية, وبالتالي سنجد ان هذا القانون سد تقريبا جميع الثغرات التي كانت موجودة في قانون العقوبات ولم تتناول موضوع البلطجة بالقدر الكافي والحقيقة ان جهاز الشرطة علي مستوي الجمهورية يقوم بعمل عظيم جدا أدي الي انحسار ظاهرة البلطجة, حيث لجأ الي إصدار أوامر اعتقال للمسجلين الخطرين الذين يقومون بأعمال البلطجة في الطريق العام وبطريقة مروعة, وكان من حسنات أوامر الاعتقال هذه انها كانت تتيح الفرصة للشرطة للبحث عن صحيفة السوابق لهؤلاء الاشخاص والتي كانت غالبا ماكانت تظهر وجود سوابق وأحكام غيابية أو نهائية لهؤلاء البلطجية, مما شكل وسيلة ردع فورية أدت الي الحد من ظاهرة البلطجة ولكن ورغم كل ذلك, فإن القوانين القوية والفعالة لاتطبق بالقدر الكافي نتيجة لتراخي جهاز الشرطة, فالقضاء علي ظاهرة البلطجة لن يكون الا بواسطة جهاز الشرطة فقط لانه الجهاز الوحيد بالدولة الذي يملك الامكانات والأدوات اللازمة لردع هذه الظاهرة الخطيرة جدا علي المجتمع, ويجب ألا نشير بأصابع الاتهام الي وجود قصور تشريعي, فالقوانين موجودة والعقوبات المغلظة للبلطجة موجودة, ولكنه القصور في تنفيذ القانون, كما أنه يجب زيادة اعداد رجال الشرطة في الاقسام الموجودة في الاحياء الشعبية والعشوائية والتي تشكل ظاهرة البلطجة منها نسبة عالية خاصة وأن الواقع العملي يشير الي انه في حالة تصدي رجال الشرطة لاحد البلطجية في مثل هذه الاحياء, يتم اعتراض القوة بل يصل الأمر الي التعدي عليهم, وهروب البلطجي واتباعه الي مكان غير معلوم ويظل الخطر قائما يهدد المجتمع تشير الدلائل المتاحة حتى الآن إلى أن الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر قد توقف تماما حتى هذه اللحظة، ويعزى السبب الأساسي إلى غياب الأمن وانتشار أعمال البلطجة، الذي يرفع درجة مخاطر الدولة. فالخوف من الجريمة له تأثير سلبي جدا على قرارات الاستثمار، والمستثمر الأجنبي يريد أن يتأكد أن أصوله التي سيقوم بإنشائها في الدولة التي سيستثمر فيها تلقى حماية مناسبة، وأن ما سيقوم بإنتاجه سيتم نقله وتوزيعه أو تصديره إلى الخارج بأمان تام، وأنه لن يضطر إلى دفع تكاليف إضافية في مقابل طلب حماية هذه العصابات بعد أن يكتشف انه قد قام بالاستثمار في مناخ استثماري غير آمن. باختصار شديد البلطجة نشاط مدمر للمجتمع من الناحية الاقتصادية قبل أن يكون مدمرا من الناحية الأمنية والاجتماعية والسياسية، ولذلك ينظر علماء الدين إلى البلطجة على أنها نوع من الحرابة ضد المجتمع وشكل من أشكال الإفساد في الأرض، وقد كان حكم الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز عادلا وبحجم الضرر الذي تسببه مثل هذه الجماعات، حيث تنص الآية الكريمة "إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ" صدق الله العظيم.
دكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام
دكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام