أحزان مصر على البابا شنودة فرصة لمواجهة طمس الذاكرة
محمد عبد الحكم دياب
2012-03-24
عاشت مصر أسبوعا من الأحزان، التي خيمت على الجميع على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم وألوانهم؛ أحزان امتدت إلى الخارج.. عربيا وإقليميا وعالميا. وذلك تأثرا برحيل البابا شنودة الثالث - بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية - وجاء رحيله في ظروف تقف فيها مصر على مفترق طرق، بسبب الفوضى والارتباك والغموض الذي يلف كل شيء تقريبا، وفي ظروف تواجه فيها ثورة 25 يناير مصيرا مجهولا لا يعرف أحد إلى أين ينتهي؛ وهذا يعرفه القاصي ويشعر به الداني، منذ الحادي عشر من شباط/ فبراير 2011 وممتد إلى الآن ويبدو أنه مستمر إلى ما بعد الآن.
قيمة البابا شنودة مصدرها دوره وحضوره وأثره على المصريين؛ مسلمين ومسيحيين. وهو الذي عانى وتعرض للعزل فى حملة شنها السادات ضد رموز مصر السياسية والدينية والوطنية في ايلول/ سبتمبر، وكان ذلك قبيل شهر من حادث المنصة، الذي أودى بحياته (أي السادات)، وخضع البابا للإقامة الجبرية حتى 3 كانون الثاني/يناير 1985؛ تاريخ صدور قرار حسني مبارك بإعادة تعيينه على رأس الكنيسة مرة أخرى.
والمصريون يُقَدرون له عبارته الشهيرة التي قالها؛ 'أن مصر ليست وطنا نعيش فيه إنما وطن يعيش فينا'، ولا ينسون موقفه من 'بيت المقدس' ورفض التطبيع؛ في تحد واضح لرأس الدولة وللأوساط الرسمية وشبه الرسمية. بعدما منع المواطنين المسيحيين الأرثوذكس من زيارة المدينة المقدسة وهي تخضع للاحتلال، ولا يدخلها أرثوذكسي مصري إلا مع اخوته المسلمين، ومن يومها توج شعبيا 'بابا العرب'.
وسيرة البابا شنودة الثالث تؤكد أنه الأكثر تأثيرا على مستوى الداخل والمهجر في التاريخ الكنسي المصري، والأقوى حضورا في الحياة السياسية والعامة، وهو من القلائل الذين جمعوا بين اللاهوت والناسوت في شخصه وسلوكه العام والخاص؛ لمدى زاد عن أربعين عاما. وهي فترة شهدت انقلابات وتغييرات على كل المستويات، وتحولات غيرت في علاقات المواطنين بعضهم ببعض، وأعادت صياغة العلاقات مع العرب وخارج محيطهم الإقليمي وعلى مستوى العالم بشكل لم يحدث من قبل. وعليه ترك رحيل البابا فراغا أضيف إلى الفراغات الأخرى التي تعاني منها مصر حاليا؛ بما لها من تأثير على حاضرها ومستقبلها وكيانها، وقد يمتد ذلك التأثير إلى وجودها ذاته!.
كان الحزن العام ومشهد الجنازة الضخم استفتاء على الوحدة الوطنية، وعلى رغبة عارمة في عودة النسيج الاجتماعي إلى سابق عهده؛ ومع أن البابا جمع في موته المسلمين والمسيحيين على حد سواء، إلا أن المشهد لم يخل من قلق على وضع الكنيسة المصرية من بعده، وقد كان وجوده ووزنه عاصما من انفلات اضطرابات هددت وحدة الكنيسة وهزت استقرار البلاد، وكادت أن تؤدي إلى شرخ عميق في جدار الوطن وبنيانه، وكثيرا ما استطاع التخفيف من وطأة ذلك وضبطه تحت عباءته. وكانت كلماته حاسمة في لحظات الحرج وفي ساعة الضيق ووقت الأزمات.
والسؤال هل البابا الجديد سيكون بمستواه وبتأثيره؟، وهل يمكنه ملء الفراغ الذي تركه؟ وهل ستشهد الكنيسة انقلابا كذلك الذي حدث من السادات ضد عبد الناصر الذي كان ملء السمع والبصر. لقد كان البابا شنودة الثالث قيمة وقامة دينية ووطنية وحتى سياسية. وندعو الله أن يعوض مصر عنه خيرا، ونحن هنا لا نعزي الكنيسة أو أبناءها فحسب إنما نعزي أنفسنا؛ فلم يكن البابا لهم وحدهم، فقد كان من الآباء العظام لشعب عظيم، وابنا بارا لوطن وأمة؛ استمد مكانته من وفائه لها ونصرة قضاياها العادلة، وندعو له بالرحمة والمغفرة.
ويغيب البابا شنودة في فترة حرجة، بتوابعها المرتبطة بثورة 25 يناير، وما تطورت إليه، ومواقف قوى وعناصر محسوبة عليها، ومنها ما أصاب جبهة الهوية والثقافة، وبدأ يؤثر على جهاز المناعة الوطنية والسياسية للمجتمع؛ إذا جاز التعبير، وما نقصده هو تأثير ذلك النشاط الذي يقوم به تيار نفذ إلى مسام وخلايا قطاعات عريضة محسوبة على شباب الثورة، جعلته يترك التحديات التي تواجه الثورة، ويختار ميدان معركته في مواجهة الذاكرة الوطنية والتاريخية للشعب؛ يسعى لطمس الذاكرة العامة وللتشكيك في تاريخ الوطن؛ بطريقة مدروسة وممنهجة، وليست بريئة لأنها مطلوبة ضمن أوراق اعتماد التعامل والتعاون مع المنظمات والمؤسسات الصهيو غربية.. الممولة لكثير من أنشطة الشباب العامة والخاصة، والعاملون في بلاط هذه المنظمات والمؤسسات منتشرون ومؤثرون ولهم وجود لا يستهان به في مجالات الإعلام والسياسة والمنظمات الحقوقية والأهلية والجمعيات الدينية، ومنهم مسيطرون على مفاصل السياسة والمال والأمن وجهاز الدولة، والطامحون للارتباط بها كثر.
على من يقدم أوراق الاعتماد أن يبدأ حديثه ويستهل نشاطه الخاص أو العام بإدانة التاريخ القريب، كمقدمة لإلغاء الذاكرة الوطنية والتاريخية، وهم لا يتعاملون مع الوقائع والأحداث من منطلق التقييم والنقد والتفسير والتحليل، ويتعاملون معها بإصدار الأحكام الجاهزة والمسبقة، وشتان بين حكم جاهز وقرار مسبق بالرفض والإدانة، وبذلك يتم الابتعاد عن التعامل مع التاريخ كما يجب أن يكون، وعدم اتخاذه أساسا للتصحيح أو التغيير، وبغير هذا تتقدم الشعوب وترتقي الأمم. وأوراق الاعتماد التي نعنيها شاعت وزادت بعد ثورة 25 يناير بسبب ما أفرزت من عناصر وقوى تتطلع إلى جلب الحلول من خارج الحدود، وتتعامل القوى السياسية على قواعد الثأر وتصفية الحسابات، ووسيلتها هي خلط مراحل التاريخ وعدم الفصل بينها، وتساوي الغث بالسمين، من أجل أن نكون شعبا بلا ذاكرة وأمة بلا تاريخ، وشعوب تنحو هذا المنحى تحكم على نفسها بالذبول والفناء.
ما أسهل أن تُدان السنوات الماضية كلها، بلا وفاء لدماء الشهداء ولا كفاح هذا الشعب العظيم، ودون تفرقة بين التحرير والاستعمار، والنهوض والإنكسار، وبين المقاومة والاستسلام، أو بين الهدم والبناء، والوحدة والفرقة. وعندما تسقط هذه الفروق تموت حاسة التمييز، ومن يفقد إمكانية التمييز بين المفيد والضار، وبين المستقيم والمعوج، فإنه يهدف إلى إضعاف المناعة الوطنية والسياسية، ويُفقد الجماعة الوطنية قدرتها على ضبط بوصلتها في الاتجاه الصحيح، ويتركها فريسة للتبعية، التي كثيرا ما تنتهي إلى الغزو والاحتلال المباشر، والأمر ليس قاصرا على إدانة التاريخ الحديث بل يمتد إلى مجمل التاريخ القديم والوسيط.
النهج الغربي - ما قبل الصهيونية وحتى الآن - يلغي حقب ما بعد التاريخ الروماني، واعتبارها فترات ظلامية وحلها في استعارة امتداده الغربي، الذي انتهى إلى هيمنة صهيونية. وفي مصر يتم التعامل مع تاريخها على أنه انتهى من زمن الرومان، ويجعلونها حائرة متخبطة؛ عليها العودة إلى تاريخها القديم، وإذا أرادت دخول العصر عليها أن تدخله من الباب الصهيو غربي، وتسقط من حسابها كل التحولات التاريخية النوعية التي أعادت لها شخصيتها الوطنية وعززت هويتها القومية، وكلها أطوار مرت بها شعوب وأمم أخرى من ذوي أصول جرمانية ولاتينية وأنكلو سكسونية.
إن ما يجري للمصريين على جبهة الهوية والثقافة ليس صدفة أو عفوا؛ إنه لتهيئة الأرض لاستقرار وعودة القوى الاستعمارية إلى سابق السيطرة والتوسع الامبراطوري. ووجدت فرصتها في استغلال الثورات العربية والحراك السياسي في المنطقة واختراقها، وتنفيذ مخطط التقسيم الجاري على قدم وساق منذ غزو العراق والقضاء على كيانه الوطني الموحد.
ما يجري على الجبهة المعادية يخالف تطلعات هذه الثورات. وقد نشرت صحيفة هآرتس الصهيونية في مثل هذا الشهر من العام الماضي، وتحديدا في 25/ 3/ 2011، وفي ظروف كانت ثورة يناير تعيش فيها مرحلة النشوة والفرح؛ بانجازها العظيم بعد إسقاط حكم عائلة مبارك وإفشال مخطط التوريث. نشرت الصحيفة الصهيونية ما يمكن أن تُستغل فيه الثورات والحراك الشعبي بحيث لا يقتصر على 'تغيير انظمة الحكم فقط بل يعيد رسم خريطة المنطقة، ويخلصها من إرث القوى العظمى الاستعمارية التقليدية بعد تقاسم افريقيا وتقطيع اوصال الامبراطورية العثمانية'، وتُتخذ سبيلا للتبشير بنهاية قريبة لاتفاق سايكس ـ بيكو أثناء الحرب العالمية الاولى، والذي أنشأ التقسيم السياسي والجغرافي الراهن للمنطقة. ورأت أنه كما رُفعت أعلام دول وأقاليم مثل جنوب السودان وكردستان وفلسطين على خريطة المنطقة، فإنها تنبأت بما تم في شرق ليبيا وإعلان عدد من قبائل الشرق فصل منطقة درنة عن الكيان الليبي الموحد، وهي المنطقة التي وردت في تقرير هآرتس باسم 'كورنايكا'، وتتوقع أن يليها فصل الصحراء الغربية عن المغرب، وفصل جنوب اليمن بعيدا عن شماله، وخروج عدد من امارات الخليج من مجلس التعاون، وتقسيم الجزيرة العربية إلى دولة للاماكن المقدسة في الحجاز ودولة للنفط في الشرق، على تُفتت سوريا إلى دويلات سنية وعلوية ودرزية ومسيحية. ويعتمد التقسيم الجديد على مبدأ 'تقرير المصير' للطوائف والقبائل والمناطق.
وتضيف الصحيفة الصهيونية إلى أن الخريطة الجديدة ستحتاج بناء علاقات جديدة في المنطقة؛ تتيح للدولة الصهيونية فرصا كبيرة لزيادة التوتر والارتباك، وهي التي بنت سياستها الخارجية دوما، حتى قبل قيام الدولة، على تأجيج العداوات بين الجيران العرب والمسلمين. وهي تعلم أن وحدة المنطقة تعتمد العداء لها. وكي تحول دون ذلك اختارت اعتماد الهويات الانفصالية والمجزأة لجيرانها. فكلما زاد عدد الدول المحيطة بها سَهُل التغلب عليها وتحجيمها.
وتُرسم خرائط القرن الحادي والعشرين الجديدة بالقوة وبالحروب والاضطرابات، وتُستغل الثورات الشعبية كفرصة للعبث بمصير البلاد ومصير الثورات نفسها. وعلى الثوار ألا يسمحوا بهذا إلا يحدث، ولن يكون ذلك إلا برفع الوعي بالمخططات وكشف نوايا الحلف الصهيو غربي وتعرية خلاياه المتغلغلة في أوساط الثوار.
وبعد هذه الصورة ألا يعيد خروج المسلمين والمسيحيين بأعداد كبيرة لتشييع جثمان البابا شنودة الثالث؛ ألا يعيد روح التآلف والتكاتف والتوحد لتواجه مخططات شيطانية تنال منهم ومن بلدهم ومستقبلهم، وتستغل ثورتهم لذلك؟
المصدر : عن صحيفة "القدس العربي" الندنية