11 ديسمبر 2019

علياء نصر تكتب: عندما نطقت "سعدية"

عندما كان العالم يعج فى أزماته الطاحنة فى التسعينيات. فى البوسنة والهرسك ،..عندما كانت الدماء تسيل فى سراييفو وفى والجزائر وفى غزة، وعندما كانت الشعوب تغلى وتئن،..عندما حدثت بالكون أحداث جسام ،..كانت (سعدية) تجلس فى صمت رهيب.
إن كنت لا تعرف من هى (سعدية) فهذه هى
مشكلتك وحدك، لأن سعدية هى الأيقونة، هى من تفجر الثورات ، وهى من تجهضها،  فإن لم تكن قادرا على فهم( سعدية)، فلا أعدك بأنك ستستطيع أن تفهم شيئا يوما ما.

كنت و(سعدية) صديقتان بالمرحلة الإعدادية، كنا فى طبائعنا على طرفي نقيض، فبينما كانت هى هادئة وصبورة وقنوعة وحمالة "أسية"، كان يغلب على أنا روح التمرد والثورة وخرق المعتاد، وبالرغم من ذلك ، لم يمنعنا هذا التمايز من أن نقيم صداقة قوية ونبيلة فيما بيننا ، ذات يوم تعرضت (سعدية) لموقف قاس جدا، بل مهين لأقصى درجة، فقد قامت إحدى المعلمات بضربها بعنف وجذبها من شعرها بل وإهانتها بالسباب وطردها من الفصل، وبالطبع لأسباب بسيطة وغير مقنعة، رأيت بأم عينى ما تعرضت له (سعدية) ،فانفطر قلبى عليها وثارت ثائرتى، أحسست بألم الصفعة التى وجهت إليها على وجهى أنا .واتخذت قرارى بالثأر لها، وبالانتقام لكرامتها المهيضة.

وقفت على (الدكة) لأننى كنت قصيرة،وبدأت ألوح بيدى فى عنف لأجذب إلى فتيات الفصل، وبصوت جهورى، لا أدرى من أين أتيت به على غير عادة طبقة صوتى ، وبأسلوب خطابى بدأت أوجه حديثى للفتيات الصغيرات لأستثير حماستهن: "أنا هجمع قيادات الفصل.. وهنعمل اجتماع موسع على مستوى القاعدة.. عشان نتكلم فى موضوع سعدية" ،وبالفعل ..اصطفيت من الفتيات النابهات والذكيات،وأقنعتهن بكتابة شكوى جماعية ضد هذه المعلمة المجرمة الظالمة ،كرد فعل على عدوانها الظالم ضد صديقتنا (سعدية)،وبوصفنا شهود عيان فإننا سنحاسب إن تخلينا عن صديقتنا بعد هذا الموقف الظالم من السلطة القمعية ممثلة فى هذه المعلمة القميئة، وإن سكتنا اليوم عما جرى لسعدية .فغدا ستدور بنا الدوائر،وسنتعرض حتما لمثل ما تعرضت له ،إن لم يكن أسوأ.
لاقت دعوتى صدى كبيرا بين فتيات الفصل، وشرعت فى كتابة شكوى_ يا لبلاغتها وقوتها ، وقررت أن أبعث بها إلى الإدارة التعليمية، وكنت أنا أول الموقعين عليها، وبدأت فتيات الفصل توقع بعدى تباعا، إلا واحدة فقط رفضت التوقيع، وياللمفارقة الساخرة إنها(سعدية).
كم كانت الصدمة عنيفة ومزلزلة، سعدية أيقونة الثورة رفضت التوقيع على شكوى كتبتها لأجل استرداد حقها وكرامتها المسلوبة ، سعدية وحدها تختفى من هذا المشهد وتؤكد لى أن ما تعرضت له لا يستحق عناء كل ما قمت أنا به،ثم أنها ليست مطعونة فى كرامتها إلى هذه الدرجة التى أصورها أنا، حاولت ابتلاع دهشتى وأخذت سعدية إلى جانب هادىء لأحادثها على انفراد، ظننتها خائفة علينا أو على نفسها، وبدأت أطمئنها بوعود قوية:"تعرفى يا سعدية ، صاحبتا أمل ،، ليها جار بتقول ان قريبه عضو فى مجلس الشعب،احنا هنروح نكلمه كلنا فى مشكلتك، وهيتكلم فى مجلس الشعب ويجبرهم يسنوا قوانين تجرم ضرب البنات فى المدارس، طب تعرفى يا سعدية زى ما زمان كان أجدادانا بيهتفواسعد سعد يحيا سعد دلوقتى احنا والأجيال اللي بعدنا هيهتفواسعدية سعدية تحيا سعدية،عارفة ليه؟ أنا أعرف بنت باباها صحفى ويعرف مخرجين،هخليهم يطلعوكى فى التلفزيون وف الجرايد، وهتحكى عن تجربتك. وكل الأجيال هتتعلم منك ومن صمودك ،متخافيش يا سعدية،..أنا وراكى" عبثا كانت محاولاتى ،لا شىء مما قلته أفلح فى استمالة سعدية أو إقناعها، فهى لا ترى أى داع لما نفعله، بل تراه فتحا لباب مشكلات لا طاقة لنا بها، أحسست بمسؤلية خطيرة تجاه ما يحدث، فـ"سعدية" ليست فقط غافلة عن حقوقها، بل وللأسف أصبحت ترى أن انتهاك حقوقها بات أمرا طبيعيا، بل إن محاولة استرداد حقها وكرامتها هو ما بات يبدو لها غير طبيعى..المهم أننى بدأت مرحلة التنفيذ،ذهبت إلى الإدارة التعليمية وسلمت الشكوى، وانتظرت النتيجة، وما هى إلا أيام حتى أرسلت الإدارة التعليمية لجنة تحقيق فى الأمر، ثارت ثائرة مديرة المدرسة، ودخلت إلى الفصل مهتاجة وغاضبة، وأتت بـ"سعدية" لتسألها :ما الذى فعلتيه هذا؟.وهنا .. ردت سعدية فى حسم :( لم أفعل شىء، علياء قامت بهذا كله، وكنت رافضة تماما لما قامت به.)،..بالطبع لن أطيل عليكم فيما أصابنى بعد هذه الواقعة فبإمكانكم جميعا تصوره،.. ولن أقص كم المعاناة الرهيبة التى تعرضت لها وكم التنكيل والاضطهاد الذى ىسامتنى إدارة المدرسة إياه، ولن أحكيكم عن التعذيب البدنى الذى تعرضت له والذى أرهقنى فعليا وقد كنت صغيرة جدا وضعيفة البنيان، كل ما أتذكره بقوة من هذا المشهد الأسيف ،هو أننى وقفت فى الحوش المدرسى_بعد أن جعلتنى إدارة المدرسة عبرة لمن يعتبرأو تسول له نفسه، أحمل حقيبتى وأتعذب والألم يعتصرنى ،ومعى بعض الفتيات اللائى ثبت تورطهن معى فى موضوع الشكوى، وقفت أنظر إليهن وأحثهن فى صلابة مفتعلة ،وقوة مزيفة ..(متعيطوش، ..مش لازم يشوفوا دموعنا ..بكرة الأجيال الجديدة تحكى عنا وعن صمودنا ، وهنكون رمز أكيد) كتمت عبراتى فسالت على قلبى نارا تحرقه، ورأيت (سعدية) تجرى وتلعب فى فناء المدرسة، وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة بريئة، وبدا لى كأنها لم تر شيئا مما حدث لنا. .. دمعت عيناى وأنا أتذكر (المسيح )وتلميذه الذى سلمه للرومان، وبكيت وأنا أتذكر (جيفارا) عندما أبلغ عنه أحد عمال بوليفيا وسلمه إلى الـ CIA، وتألمت لثوار (رومانيا) الذين جاء عمال الطبقة الكادحة الذين قامت الثورة لأجلهم حين جاءوا إلى ميدان الثورة وضربوا الثوار بالنار، ..وانفطر قلبى على ثوار (يناير) وأنا أستذكر الأربعاء الأسود ..(وكم فى تاريخنا من أربعاءات سود) ..، وأنا أتذكر كيف اشتعل الأنقياء لأجل من أحرقوهم وداسوا على رفاتهم.
وتذكرت قول تشى جيفارا وهو يقول( إن لم نحترق أنا وأنت ،..فمن الذى سيضىء الطريق؟) ..
رحمة الله على كل من ظن أنه باحتراقه يضىء طريقا ،.. ونسى أنه يضىء طريقا.. للعميان.

ليست هناك تعليقات: