في تصريح لافت للانتباه قال محمود عباس إنه لا يريد أن ينهي حياته خائناً إذا وافق على صفقة القرن. وتصريح كهذا يثير الدهشة فعلاً ويطرح تساؤلاً عن تعريف الخيانة.
لا نعرف ماذا نسمي قتل واعتقال وتسليم المقاومين الى الاحتلال الإسرائيلي.
وهذا غيض من فيض من ممارسات غير مفهومة مارسها الرجل منذ اتفاق أوسلو وأدت الى السماح للمستوطنين بزيادة أعدادهم أضعافاً مضاعفة في الضفة الغربية بحيث أصبحت مثل قطعة الجبنة الفرنسية المليئة بالفقاقيع.
ولكن لن نلوم محمود عباس على تخاذل بعض الأنظمة العربية التي تسارع الى إقامة علاقات مع الكيان الصهيوني تحت مظلة أن الفلسطينيين يقيمون هذه العلاقة وينسقون معها.
كثير من المحللين حلل صفقة القرن ونظّر لمحتوياتها.
علمياً عندما تصادف مشكلة معقدة فان أفضل عمل تقوم به هو تقسيم المشكلة الى عدة أقسام ومحاولة إيجاد حل لكل قسم على حدة، ويبدو أن ترامب وإدارته اهتدوا الى هذا الموضوع ويريدون تطبيقه على القضية الفلسطينية خدمة لإسرائيل.
يندرج تبسيط وتفكيك القضية الفلسطينية على النحو التالي:
1. اللاجئين : ينبغي توطينهم في بلاد اللجوء الموجودين فيها، هناك مشكلة وجود الأونروا وهي هيئة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين المنبثقة عن الأمم المتحدة، وهذه الهيئة تشكل عامل توحيد لفلسطينيي الشتات، فهي تضعهم تحت مظلة واحدة، وأفضل حل هو إنهاء وجودها، وقد قامت أمريكا بسحب التمويل السنوي لها ولم يتبرع أحد من العرب الأثرياء لتعويض النقص رغم أنه مبلغ ضئيل ولكن من الذي يهتم بحياة عدة ملايين من البشر.
2. الدولة الفلسطينية المقترحة في اتفاقات أوسلو: وهذه الدولة مكونة من الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية عاصمة لها، وبما أنه ليس هناك أعطيات مجانية في السياسة الدولية فمن الأفضل تفكيك وإنهاء هذا الوضع عن طريق:
أولاً: حل مشكلة العاصمة المقترحة باعتراف الولايات المتحدة بقدس موحدة عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها، وقد تم تنفيذ هذا الجزء بنجاح والاعتراضات التي قام بها الفلسطينيون والعرب مقبولة وتحت السيطرة الأمريكية.
ثانياً: فصل الضفة الغربية عن غزة، وتصبح عندنا هنا مشكلتان صغيرتان، مشكلة اسمها الضفة الغربية ومشكلة أخرى اسمها غزة وينبغي حل كل مشكلة على انفراد، ففي الضفة الغربية ينبغي على الفلسطينين المتواجدين فيها القبول بالاستيطان الإسرائيلي فيها ولا بأس من إعطائهم بعض الكانتونات الصغيرة في الأماكن ذات الكثافة السكانية الكبيرة، وعملياً فليس هناك من سلطة للفلسطينيين على الموارد الطبيعية أو الحدود أو غير ذلك من مقومات السيادة، وعليهم القبول بما يعرض عليهم. ( رئيس السلطة نفسه يأخذ تصريحاً من الحاكم الإسرائيلي للسفر الى خارج الضفة)، أما غزة فهناك مشكلة تواجد حركات مقاومة فيها في منطقة مكتظة بالسكان، وتقوم حركات المقاومة بالمشاغبة على إسرائيل ولكن يبقى موضوعها تحت السيطرة ولا تستطيع إحداث قفزة نوعية في توازن القوى، والزمن كفيل بإنهاء وجودها باستمرار الحصار والتجويع الذي سيتسبب بانفجار الوضع الداخلي هناك.
ورغم أن هذه العملية تحتاج الى وقت طويل في التنفيذ إلا أن الخطوات الحثيثة تسير بشكل منظم ومتواصل، وهنا يلعب محمود عباس الدور الأكبر في تنفيذ هذه المهمة، وسأترك للقارئ الحكم إذا كان ما يقوم به الرجل هو بحسن نية أو بسوء نية.
بداية يوهمنا محمود عباس بأنه يعترض على صفقة القرن ويصفها بأنها صفعة القرن ولكن ماذا يفيد الاعتراض الكلامي؟ هل يستطيع تغيير الواقع على الأرض؟
كانت البداية في حل المجلس التشريعي وهي علاقة قانونية وشعبية هامة كانت تربط الضفة بغزة، وصحيح أن محمود عباس قد عطل عمل المجلس منذ عام 2010 ليحكم منفرداً أسوة بنظرائه الحكام العرب، ولكن المجلس كان رمزاً هاماً من رموز الوحدة بين غزة والضفة.
قام ثلاثة أعضاء من حركة محمود عباس بالطلب من المحكمة الدستورية حل المجلس نظراً لانتهاء مدته، فنظرت المحكمة الى الموضوع من ناحية قانونية خالصة وقامت بتلبية الطلب، ولم تنظر المحكمة الى توقيت الطلب مثلاً والى العواقب السياسية لما تنوي عمله، ولم تعلن المحكمة عن قرارها بل أعلنه محمود عباس بنفسه ضمن جملة قرارات من بينها تقديم طلب لإلغاء اتفاق باريس التجاري مع إسرائيل، كان يريد تمرير الموضوع على أنه روتين عادي، ثم وعد بانتخابات خلال ستة أشهر ولكن هذه الانتخابات لن تأتي أبداً. يشبه ذلك اللجان التي يشكلها لامتصاص الغضب الشعبي، لجان لن تقدم تقريرها أبداً، وأصدق مثل هو لجنة التحقيق في اغتيال عرفات.
في خطوة لافتة أيضاً أقال محمود عباس ما يسمى بحكومة الوفاق الوطني والمفترض أنها تمثل الضفة وغزة، وسيقوم بتاليف حكومة الفصيل الواحد، وهذا يعني الفصل النهائي بين الضفة الغربية وغزة.
وهذه هي أهم نقطة في صفقة القرن، فستشهد الأشهر والسنوات القادمة انفراد إسرائيل بالضفة الغربية، ومن بين ذلك إنهاء السلطة الفلسطينية فلم تعد بحاجة الى الدور الذي تقوم به وسيتم معاملة السكان مثل معاملة فلسطينيي الجليل الذين يطلق عليهم اسم ( عرب 1948 ) .
المشاهد الدراماتيكية المؤلمة لما يحاك للمصير الفلسطيني سببه تراخي حركة المقاومة بمختلف فصائلها عن اتخاذ موقف حاسم من محمود عباس فهي تمسك بالعصا من الوسط، فهي تشاهد الواقع الفلسطيني يسير من سيء الى أسوأ على كل الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية ثم لا تفعل شيئاً سوى همهمات بسيطة أن ما تفعله السلطة ومحمود عباس خطأ ويحثونه على التراجع عن قراراته التي يتخذها. سمعوه وهو يطلب من قواته اطلاق الرصاص وقتل من يحمل صاروخاً فسمعناهم يطلبون وقف التنسيق الأمني الذي يعتبره عباس مقدساً .
ألم يؤدّ التنسيق الأمني الى وضع المقاومين في السجون أو تسليمهم الى إسرائيل أو قتلهم بدم بارد؟ أليست أرواح زهرة شباب فلسطين غالية على فصائل المقاومة؟ وهل يكفي أن نصفهم بالشهداء على طريق المقاومة والتحرير ولا يؤخذ ثأرهم من المتسببين في استشهادهم؟
لعل الشهيد أشرف نعالوة خير مثل على مدى خطورة ما يفعله عباس والشرذمة التي تحيط به. فقد قام الشهيد بعملية فدائية ضد العدو الصهيوني، واختفى بين الجماهير مثلما تختفي السمكة في الماء، وقد كان من الممكن لأشرف الزواج وإنجاب أطفال مقاومين دون أن تستطيع أية قوة على الأرض كشف هويته أو مكانه. ولكن بهمة عملاء عباس تم اكتشاف مكان الشاب بعد أكثر من شهرين من اختفائه.
لم يأخذ أحد عبرة من الثورة الجزائرية وكيف انتصرت، فهي كانت تصفي الخونة والمتعاونين أولاً بأول دون رحمة أو شفقة، وكانت تسميهم الحركيين نسبة الى حركة مصالي الحاج، فلا صوت يعلو فوق صوت الثورة.
إن التراخي الذي نشاهده عند شعب فلسطين انعكس على الشعوب العربية التي أصابها اليأس، وما فعله عباس وسلطته قد أخر القضية الفلسطينية عشرات السنين وأعجب من هؤلاء الذين ما زالوا يأملون ويطالبونه بتغيير مواقفه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق